هوامش حرة
الحزب الوطني والثقافة
يكتبها: فاروق جـــويـدة
إذا ذكرت مصر في أي محفل دولي ظهرت بجوار الاسم كلمة الثقافة.. وإذا بحثت عن تاريخ مصر فسوف تجد تلك الصفحات المضيئة التي زينت وجهها الحضاري عبر الأزمنة والعصور وسوف تكتشف أيضا أن أكثر الصفحات بريقـا في تاريخها هي الثقافة.. وإذا حاولت أن تدرس أهم ملامح الشخصية المصرية في عصور تفوقها فسوف تطل عليك قدرات شعبها في مجالات الخلق والإبداع.. وهذا يعني أنك إذا سحبت من مصر رصيدها الثقافي فلن تجد بعده الكثير وإذا حاولت أن تختصر مشوار هذا الشعب في كلمة واحدة فهي الثقافة ولا شيء قبلها..
إن مصر لا تملك ثروات طبيعية ضخمة وليس فيها مصادر للثروة يمكن أن تدفع بها إلي مصاف الدول الغنية ولكن الرصيد المصري الحقيقي هو قدرات هذا الشعب ومواهبه وهي عبر كل العصور كانت تقوم علي الثقافة.. وهناك اختلاف كبير بين الثقافة في الفهم والوعي والسلوك والثقافة في المباني والمنشآت.. أن الثقافة بمفهومها الأول تعني الإبداع والتميز والثقافة بمفهومها الثاني لا تتجاوز حدود منشآت عقارية تزين الشوارع وشتان بين شوارع يزينها الإبداع وشوارع أخري تتزاحم فيها الكتل الخرسانية أن ثقافة مصر هي الفكر والابداع والقيمة والتواصل.. أن ثقافة مصر تعني شبابا مستنيرا ووطنا يدرك دوره ومسئولياته وأمة تزهو بعقولها..
أقول ذلك وأنا أشعر بخيبة أمل أن حزب الأغلبية وهو الحزب الوطني الديمقراطي لا توجد به لجنة ثقافية.. ولا يوجد في برنامجه مشروع ثقافي ولا يوجد بين أعضاء مجلس الشعب مثقف كبير.. وقبل هذا كله قليلا ما تلوح كلمة الثقافة علي لسان واحد من المسئولين فيه والأغرب من ذلك أنك لا تجد من بين الأجيال الجديدة من شباب الحزب من يهتم بالثقافة أنهم جميعا من خريجي مدارس البيزنس التي ملأت الساحة في كل شيء الآن..
ولا أعرف لماذا هذا العداء بين السلطة في مصر والثقافة وإن كانت ثورة يوليو هي التي أوجدت هذه القطيعة المبكرة.. لقد كان المثقفون من طلائع القوي الاجتماعية في مصر طوال القرن الماضي خاصة أن هناك ثلاثية عظيمة ربطت بين السياسة والصحافة والثقافة في عدد كبير من رموز مصر سواء في الأحزاب السياسية قبل الثورة أو الصحف أو المؤسسات الثقافية.. كانت هناك أوان مستطرقة تدور فيها هذه الثلاثية المستنيرة كان من الصعب أن تفصل بين أساتذة جامعة القاهرة والأحزاب السياسية وقيادتها ورموز الصحافة المصرية.. كان العقاد منحازا للوفد ويكتب في البلاغ.. وكان هيكل باشا روائيا ويرأس مجلس النواب وزعيما لحزب سياسي هو الأحرار الدستوريين.. وكان طه حسين وزيرا للتعليم وكاتبا وأستاذا في الجامعة ومفجرا لأكثر من ثورة في منظومة التعليم في مصر.. كان من الصعب أن تفصل كل هذه الأدوار عن بعضها البعض بل إن لطفي السيد كان يقود حركة في الفكر وأخري في السياسة وثالثة في الجامعة..
وكانت رموز مصر تملأ سماء هذا البلد وعيا وثقافة وفكرا.. ولكن ثورة يوليو من البداية حاولت تهميش دور أهل الثقافة بل إنها عزلت الكثيرين منهم وأبعدتهم تماما عن الساحة بل إنها قربت هذا وأبعدت ذاك وحاولت في أحيان كثيرة تصفية تيارات فكرية لحساب تيارات أخري فضربت الشيوعيين بالإخوان المسلمين ثم أدخلت الاثنين السجون معا.. وشهدت فترات كثيرة مذابح للمثقفين وإن حاولت استقطاب البعض منهم وتهميش البعض الآخر..
وظل هذا الميراث الثقيل متداولا بين نظم مختلفة ففي عهد الرئيس السادات بدأ تشجيع التيار الديني لمواجهة الشيوعيين والناصريين واستخدمت الدولة عناصر الاتجاهين لتصفية الجميع حتي دخلوا جميعا السجون في أحداث سبتمر المشئومة.. ورغم كل الخطوات التي اتخذتها الدولة أخيرا في طريق الديمقراطية فمازالت عقدة الثقافة والمثقفين تمثل سدا منيعا في علاقة الدولة بهذه الطبقة من أبناء المجتمع.. في الحزب الوطني حزب الأغلبية توجد لجان علي درجة كبيرة من الأهمية والمسئولية وسلطة القرار.. ويسيطر علي هذه اللجان نخبة من أصحاب الأموال ورجال الأعمال والمهنيين والسياسيين ولا يوجد مكان وسط هذا للثقافة..رغم أنه لا توجد سياسة بلا ثقافة ولا يوجد حزب سياسي بدون فكر ولا يمكن أن تكون هناك قوي سياسية مؤثرة في الشارع بعيدا عن الرموز الثقافية الكبري.. ولا أجد تبريرا لهذه القطيعة بين الحزب الوطني والثقافة غير هذا الأرث الذي انتقلت عدواه من الاتحاد القومي إلي الاتحاد الاشتراكي إلي حزب مصر.. إلي المنابر ثم استقرت به الإقامة في رحاب الحزب الوطني علي شاطيء النهر الخالد..
ولهذا اتعجب عندما أشاهد حوارا بين المسئولين من قيادات الحزب الوطني وجموع الشباب وكلها تتحدث عن الكباري والأراضي والمواصلات والصفقات ولا أجد سؤالا واحدا حول قضية ثقافية أن هناك انفصاما غريبا بين الحزب الوطني وكل مؤسسات الدولة الثقافية وفي الوقت الذي تتدخل فيه قيادات الحزب في كل صغيرة وكبيرة فإنها أبعد ما تكون عن مجالات الثقافة.. أن هناك قضايا كثيرة يمكن الحوار حولها ابتداء بالفنون الهابطة.. وسينما الإسفاف وشبابنا الضائع وقضايا التطرف الديني والسلوكي والفضائيات العارية وانتهاء بالمدرسة التي فقدت دورها التعليمي والتثقيفي والتربوي.. ومن الخطأ الجسيم أن تتم برمجة الأجيال الجديدة بهذه الصورة التعسفية لأن اعتماد الحزب الوطني علي ثقافة النت تشويه للمكونات الثقافية والحضارية للأجيال الجديدة وإلغاء للحوار.. إن هذه الأجيال لا تعرف شيئـا عن تاريخها.. ولا تفهم شيئـا من دينها.. ولا تحب شيئـا في لغتها وكل ما في الأمر مجموعة من الفضائيات التي ترسخ قيما ثقافية مشوهة أو ثقافة النت بكل مظاهر السطحية والخلل فيها.. فهل هذا هو المطلوب أن تخرج أجيال لقيطة يكون من السهل جدا العبث في عقولها..
لقد بقيت أسابيع قليلة علي انعقاد المؤتمر السنوي العام للحزب الوطني, ولقد تابعت هذا المؤتمر مرات عديدة ولم أجد في أجندته المكدسة قضية ثقافية واحدة ابتداء بإهتمامات الشباب بالثقافة وانتهاء بغياب الثقافة في برامج الحزب وإذا كان الحزب يسير بخطي سريعة في قضايا الخصخصة وبيع الأصول.. فليته يحافظ علي ما بقي للعقل المصري من هذه الأصول.. وهو ثقافة هذا البلد.. أنني أتمني هذا العام أن يخصص الحزب جزء من برنامجه لمناقشة قضايا الثقافة وما أكثر الهموم الثقافية في حياتنا.. هل يمكن أن أجد إجابة عن تلك التساؤلات الحائرة خاصة أسباب القطيعة بين الدولة ومثقفيها وإصرارها علي هذا التهميش المتعمد للنخب المصرية باختلاف توجهاتها.. إن إقصاء المثقفين المصريين عن الساحة خسارة كبيرة لمصر حتي وإن كان الحزب الوطني يري غير ذلك..
إذا كان الحزب الوطني يقاطع الثقافة عن قصد فهذه كارثة.. وإذا كان يكره الثقافة ولا يريدها فهذه كارثة أكبر وإذا كان لا يري ضرورة علي الإطلاق للثقافة فهذه أم الكوارث..
ويبقي الشعر
تصرخ أشواقي خلف الريح
وفاتنتي نار وحريق
وأنا واللـيل وقنديل وسواد طريق
ومضيت وحيدا والأمواج تحاصرني
والبحر عميق
أنظر في وجهي خلف اللـيـل
تثور دموع في العينـيـن
علي وجهي سكرات غريق
وأنا والموج ومجداف حطـمه الريح
وظلام يسقط في عيني والضوء شحيح
وجريح نام بلا فزع في صدر جريح
أجمع أشيائي خلف الصمت
زهور خريف بريه
ودموع تهدر من عيني
كسحابة ليـل شتويه
وطريق خاصم أقـدامي
في لحظة خوف همجيه
ومساء يسأل في ألم
عن ليلة عشق صيفيه
عن حلم نام بأيدينـا
طفلا بثياب ورديه
وامرأة سكنت أعماقي
في قصة حب.. أبديه