هوامش حرة
أزمة ضمير
يكتبها: فاروق جـــويـــدة
في الأسبوع الماضي اتصلت بالصديق الفاضل د. حاتم الجبلي وزير الصحة أشكو له بعض مظاهر التسيب والقصور في مستشفي قصر العيني الفرنسي.. وقلت للدكتور الجبلي إنني شاهدت بعيني عشرات الأشخاص ينامون علي الطرقات أمام غرف الاستقبال في مدخل المستشفي العريق الذي دفع فيه الشعب مئات الملايين وكانت وراءها قصصا غريبة من العمولات والتحايل ونهب المال العام.. كان العشرات من فقراء مصر ينامون في مدخل المستشفي منهم من ينزف لإصابته في حادث مرور ومنهم من يصرخ يطلب العون والمساعدة ومنهم من كان قريبا جدا من الموت.. وقلت إن هناك أكثر من شكوي وصلتني عن سوء الأحوال وفساد الخدمة وإهمال صحة المواطنين وأن أسرة استنجدت برجال الشرطة لإنقاذ ابنها الذي أصيب في حادث وظل ساعات ينزف أمام مدخل المستشفي العالمي الرهيب ولا يجد من يقدم له يد العون والمساعدة.. قلت هذا كله وأكثر للدكتور الجبلي وكانت إجابة وزير الصحة في كلمتين.. إن مستشفي قصر العيني الفرنسي لا يتبع وزارة الصحة وليس لها سلطان عليه بل هو إداريا وطبيا وماليا يتبع وزارة التعليم العالي وبالتحديد جامعة القاهرة..
واستكملت الحديث مع د. الجبلي حول أحوال الطب والأطباء وبقي أمامي هذا السؤال إذا كانت وزارة الصحة المسئولة عن صحة المواطن المصري ليس لها حق في مساءلة قصر العيني الفرنسي أو الروسي أو التايواني.. فمن له حق المساءلة..
أن الواضح أن في مصر أشياء غريبة تؤكد أننا نعيش في جزر منفصلة ومعزولة عن بعضها البعض.. أن هناك مستشفيات كبيرة في الأسماء فقط تتبع الجامعات ولنا أن نتصور حجم الخلل التعليمي في الجامعات المصرية ابتداء بالأساتذة وانتهاء بمناهج التعليم.. كيف بالله نأتمن مثل هذه المستشفيات علي حياة الناس.. إننا نعلم أن كليات الطب في هذه الجامعات قامت بتوريث جميع المناصب فيها لأبناء أساتذة كليات الطب وهناك جرائم حسمها القضاء وأدان فيها المسئولين في هذه الجامعات وألقي بهم خلف القضبان أمام جرائم تزوير في نتائج امتحانات أبناءهم.. إن هناك عقدا نفسية أصابت المئات من الطلبة المتفوقين في كليات الطب أمام حرمانهم من فرصة متكافئة مع أبناء الأساتذة الذين احتكروا المراتب الأولي في قوائم الناجحين بالحق والباطل.. وكانت النتيجة ما نراه الآن من فساد هذه المستشفيات التي وصلت إلي أسوأ حالات الإهمال والتسيب.. وإذا كانت كل فئة في مصر ستقوم بتوريث مناصبها ومسئولياتها للأبناء فماذا سيبقي لبقية أبناء الشعب الغلبان إذا كان الفن قد ورثه أبناء الفنانين.. والطب ورثه أبناء الأطباء والقضاء ورثه أبناء المستشارين.. والصحافة ورثها أبناء الصحفيين.. فماذا بقي بعد ذلك للمصريين..
هناك نقطة أخري علي درجة كبيرة من الأهمية وهي حرمان وزارة الصحة من مراقبة هذه المستشفيات.. هل يعقل أن تقام جامعة بعيدا عن عين وزارة التعليم العالي أو أن تقام مدرسة بمناهجها ومدرسيها ومبانيها بدون علم وزارة التربية والتعليم أو أن يقام قسم شرطة بغير معرفة وزارة الداخلية أو أن يشق أحد ترعة ويسحب من مياة النيل بلا علم وزارة الري.. كيف إذا لا يحق لوزارة الصحة أن تراقب المستشفيات الجامعية حتي من الناحية المهنية والصحية وهي من صميم اختصاصها.. كيف لا يتم التنسيق بين أجهزة وزارة الصحة وهذه المستشفيات وكيف لا يشارك أطباء وزارة الصحة في أنشطة ومسئوليات هذه المستشفيات.. هل هي فقط مستشفيات تدريبية لتعليم أبناء أساتذة كليات الطب أصول المهنة بعيدا عن رقابة وزارة الصحة بحيث يموت من يموت دون مسئولية علي أحد أم أنها إقطاعيات خاصة لابتزاز الناس والتحايل عليهم..
إن هناك ما يسمي بالمسئولية التضامنية أو المسئولية المشتركة بين أجهزة الدولة ابتداء بالوزارات وانتهاء بالمؤسسات بمعني أن هناك مسئولية مشتركة للحكومة أمام الشعب ممثلا في البرلمان.. ولا أحد يدري علي من تقع مسئولية محاسبة المستشفيات التي تتبع وزارة التعليم العالي والجامعات.. والغريب أن نقرأ علي لافتة أحد هذه المستشفيات المستشفي التعليمي.. فهل يعني ذلك أن مسئوليته تنحصر في تعليم الأطباء دون علاج المواطنين.. إننا نريد مستشفيات تعلم الأطباء كيف يعالجون الناس دون استنزاف أو إسراف أو إهمال..
بقيت بعد ذلك قضية أخري هي الارتفاع الرهيب في أسعار العلاج في هذه المستشفيات لأن المطلوب من المريض لكي يدخل من باب قصر العيني الفرنسي أن يدفع ألفي جنيه حتي ولو كان العلاج مجرد قرص أسبرين.. ماذا يفعل مواطن مسكين أمام هذا الابتزاز ومن أين يأتي بألفي جنيه في أيام عيد أو أيام إجازة ومن أين له هذا المبلغ ومرتبه لا يزيد علي مائتي جنيه في الشهر.. ماذا يفعل هؤلاء الناس أمام أبواب المستشفيات غير أن ينتظروا الموت لأن هذا هو مصير الأغلبية من بسطاء مصر وفقرائها وما أكثرهم في هذا الزمن المخيف..
لقد دفعت الدولة مئات الملايين في بناء قصر العيني الفرنسي وكان هناك لغط كثير حول تكلفة هذا المستشفي وتطايرت روائح كثيرة كريهة حول هذه الصفقة في ذلك الوقت مست أسماء كثيرة.. ويبدو أن ما بدأ بالباطل والعمولات سينتهي إلي نفس المصير حيث الإهمال والتسيب..
إن حالة هذه المستشفيات التي تسمي الجامعية حينا والتعليمية في أحيان أخري تسوء كل يوم وتنتشر فيها وحولها الفضائح من كل لون ابتداء بالتفوق المغشوش لأبناء الأساتذة وانتهاء بأسعار العلاج وهي كارثة أخري تنتظر كل مريض وما بينهما الإهمال بكل أشكاله وألوانه..
أن هناك أحاديث تتردد كثيرا هذه الأيام عن نية مبيته لخصخصة هذه المستشفيات أو بمعني أخر بيعها.. ولنا أن نتصور هذه المساحة الشاسعة من أراضي قصر العيني في قلب المنيل وكم يساوي سعر المتر فيها و كم من الفنادق والعمارات والموتيلات وأماكن الترفية يمكن أن تقام فيها حتي ولو كانت علي أشلاء المرضي من المواطنين الغلابة.. فهل هذه هي الخطوة الأولي نحو بيع هذه المستشفيات كما حدث مع مشروعات أخري.. إن هناك عشرات المصانع والمؤسسات التي تركتها الدولة للنهب والإهمال والسرقة حتي أفلست.. وهنا صرخت الحكومة.. إنها مؤسسات مفلسة لابد من بيعها.. وكانت الكارثة.. حدث هذا في صناعة النسيج والسكر والأسمنت وحدث هذا في الفنادق والمؤسسات الإنتاجية وحدث في البنوك والمؤسسات المالية التي أفلست وتم بيعها بتراب الفلوس.. فهل تركت الدولة الإهمال ينخر في عظام المستشفيات الجامعية حتي يأكلها السوس وتسقط فريسة بين أنياب الخصخصة.. إنها آخر ما بقي لعلاج فقراء هذا البلد ولاشك أن الانهيار الذي يحدث في هذه المستشفيات يوما بعد يوم يؤكد أن هناك نوايا لبيعها..
إذا كنتم تريدون بيعها.. أرجوكم لا تتركونا نصرخ بلا فائدة وأعلنوا ذلك صراحة للناس.. أما إذا كانت هذه مجرد أوهام في عقولنا فيجب أن تعيدوا لهذه المستشفيات هيبتها وحرصها علي حياة المواطنين.. ومازلت أطالب د.حاتم الجبلي المواطن المصري الطبيب وليس وزير الصحة أن يزور قصر العيني الفرنسي ليدرك بنفسه حجم المأساة.. لقد كان آخر ما قاله الدكتور الجبلي إن أزمة مصر الحقيقية ليست نقصا في الأموال أو الأجهزة والمؤسسات ولكن الأزمة الحقيقية هي أزمة الضمير.. وعلينا جميعا حكومة وشعبا أن نبحث لها عن حل.. وبقي عندي سؤال أخير للدكتور أحمد نظيف رئيس الوزراء كيف لا يحق لوزير الصحة المسئول عن صحة المواطنين أن يزور أحد المستشفيات ليري ما فيها من كوارث لأنها ليست ضمن اختصاصاته.. هل هذا معقول.. وكم ذا بمصر من المضحكات..
ويبقي الشعر
يا أيها الجلاد
بين القمامة طفـلة عرجاء
يصرخ في جوانحها نـزيف
فالعمر عنـدك
لـيلة حمراء.. في قـصر منيف
والعمر عنـدي..
بسمة الأطـفال في وطن شريف
يا أيها الشبح المخيف
مازلـت تـبني كـل يوم
في بلادي حصن زيف..
مازال يخرج من جحورك كل يوم
قـاتل.. وزمان خـوف
ما زلـت تغـرس في ضلوعي
كـل يوم.. ألف سيف..