هوامش حرة
الأغلبية النائمة
يكتبها: فاروق جـــويـــدة
أصابت المصريين في السنوات الأخيرة لعنه غريبة..' إذا لم تكن معي فأنت ضدي' بمعني إذا لم توافقني في الرأي كاملا فأنت تعارضني تماما.. وهذا ليس منطق البشر ولكنه منطق القطيع, ولهذا فإن حكومتنا الرشيدة لا تقبل أن تكون معها بنسبة70 أو80% أو أن تكون معارضا لها بنسبة ضئيلة هي20%.. وعلي حد تعبير صديقنا الفاضل د. كمال أبو المجد فإن الدولة لاتقبل نسبة أقل من100% لكي تكون معها أو تحسب عليها..
وفي تقديري أن هذه الدرجات النهائية لا توجد في قضايا الفكر والإقناع والرأي الآخر ولغة الحوار أنها توجد فقط في نتائج الانتخابات المزورة والاستفتاءات المضروبة.. ونتائج التفريخ التعليمي المسماة الثانوية العامة.. أما قضايا الفكر فليس فيها اتفاق كامل أو رفض مطلق.. وفي الوقت الذي خلقنا الله سبحانه وتعالي علي أكمل صورة فإن الخلاف والاختلاف سمة أساسية في صورة الخلق.. اختلاف الألوان والأجناس واللغات والأديان والمشاعر.. بل إن الله سبحانه وتعالي أعطي خلقه الحق في الرفض والاعتراض, وقد كان إبليس أول معارض في التاريخ رغم أنه لم يرفض السجود لخالقه سبحانه.. ولكنه رفض السجود للبشر الذين يحاولون الآن إلغاء مشيئة الله وقهر إرادة الناس وتشويه أفكارهم..
والغريب في الأمر أن الحكومة أخذت هذا التقليد السييء من جموع المثقفين الذين وضعوا الأساس لهذه الرؤي الخاطئة, فقد كان من الصعب جدا أن تسمع حوارا بين المثقفين بلا اتهامات, أو رأيا بلا تصنيف أو حكما بلا إدانة.. ورغم أن المثقف المصري صاحب تاريخ طويل في اتساع الرؤي ومنهجية الفكر ولغة الحوار إلا أن المناخ السياسي وعمليات القهر والكبت والتحايل التي سادت المجتمع المصري سنوات طويلة جعلت الكثير من المثقفين يقبلون أدوارا غريبة ما بين التبريرات أو كتابة التقارير في بعضهم البعض للأجهزة الأمنية أو افتعال المعارك لإدانة هذا أو تشويه ذاك..
كان المثقفون المصريون أكثرالفئات التي تحولت إلي حقل تجارب للدولة مابين يمين ويسار وتقدمي وتأخري واشتراكي ورجعي وديني, ولا ديني وكل هذه المسميات والصفات الغريبة التي أخذت حيزا كبيرا من فكر أصحاب الرأي والمواقف..
وما بين مناخ سياسي مشوه وواقع ثقافي مريض كان من الصعب أن تجد مساحة مناسبة لفكر متوازن أو حوار خلاق.. وربما كان هذا هو السبب الرئيسي في هروب المصريين من النشاط السياسي والتجمعات الفكرية والثقافية.. إن هناك قطاعا عريضا هاربا في المجتمع المصري من العمل السياسي ولا شك أن هناك أيضا أسبابا كثيرة لهذا الهروب منها عدم الثقة في المؤسسات السياسية سواء كانت حكومية أو معارضة وهناك أيضا عملية تضليل وتزوير لإرادة الناس ممثلة في انتخابات مزيفة ونتائج غير صحيحة.. وهناك أيضا اختيارات خاطئة أفسدت قيما اجتماعية تسمي العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص.. وهناك حرب غير مرئية ضد كل صاحب موهبة.. كما أن هناك أيضا إسقاط كامل لقيمة كانت تسمي الشرف وسلوك يسمي الأمانة وأخلاق تسمي الترفع..
وكان من نتيجة ذلك كله أن هرب كل إنسان يحمل أحد هذه الصفات ووجدنا أنفسنا أمام مواكب المنافقين والدجالين وكذابي الذفة من أصحاب كل المواقف وكل الاتجاهات..
ولاشك أن المثقفين لعبوا دورا مشبوها في هذا المناخ هو بكل المقاييس يمثل إدانة تاريخية لهم.. ومع تكرار الصور والمواقف والمتغيرات أصبح من الصعب جدا علي الدولة أن تقبل نصف معارض أو نصف موافق, وكان هذا يعني إلغاء كامل لآراء المواطنين ومواقفهم.. والدليل علي ذلك مثلا أن معظم الأحزاب السياسية في مصر ترفض الرأي الآخر ولهذا تشهد في كل يوم انقسامات جديدة.. حدثت هذه الانقسامات أكثر من مرة في حزب الوفد وفي صفوف الإخوان المسلمين وفي حزب الغد وفي حزب الأحرار ولم ينج حزب مصري واحد من داء الانقسامات بما في ذلك الحزب الوطني الذي اعتاد أن يفصل كل أعضائه الذين خرجوا عليه في الانتخابات البرلمانية..
وهنا نجد قطاعا عريضا جدا من المصريين يبحث عن موقعه في الشارع المصري أن الدولة ترفضه إذا لم يوافق علي كل سياساتها خطأ وصوابا.. والدليل علي ذلك أن في الوزارة مثلا وجوه مشرفة وفيها أيضا وجوه ينبغي أن ترحل ولكن المطلوب منك أن تأخذ قفص الفاكهة بكل ما فيه الصالح والطالح.. وفي سياسة الحكومة إجراءات جادة ومشجعة وخطوات سليمة وفيها أيضا تجاوزات لا يقبلها أحد.. والمطلوب منك أن تكون مع الحكومة ظالمة أم مظلومة تحت شعار أيد حكومتك ظالمة أم مظلومة.. وإذا قلت للحكومة مطلوب الكثير من الرحمة مع بسطاء الناس من المصريين فأنت معارض.. وإذا طالبت رجال الأعمال بدور اجتماعي فأنت ضد سياسة الاقتصاد الانفتاحي الحر.. وإذا قلت للحكومة أن إقراض الأموال بلا ضمانات جريمة فأنت في صفوف الحاقدين علي أثرياء مصر الشرفاء.. وإذا قلت إن الخصخصة لا تعني بيع كل شيء فأنت في مصاف اليساريين القدامي الذين عفا عليهم الزمن.. وإذا قلت أن توزيع الأراضي بصورة عشوائية كان عملية نهب لثروات البلد فأنت لا تفهم في الاقتصاد.. وإذا قلت إن الحزب الوطني شعارات علي ورق ولا وجود له في حياة الناس فأنت لا تفهم في السياسة وحاقد علي الحزب الوطني وكوادره
.. أما إذا قلت أن الوزير فلان أفسد سياسة الدولة فأنت تطمع أن تصبح وزيرا..
وهنا يجد غالبية المصريين أنفسهم حائرين ما بين سلطة لا تعترف بشيء أسمه الرأي الآخر أو حق المعارضة والاختلاف وأحزاب تشهد كل يوم معركة جديدة بين أنصار هذا وأعداء ذاك. وتكون النتيجة أن90% من المصريين انسحبوا من الحياة السياسية بل انسحبوا من الحياة كلها وجلسوا في بيوتهم يشاهدون المسلسلات ويستعيدون ذكريات وطن كان يوما يعرف لغة راقية للحوار وأسلوبا حكيما للاختلاف وكان يدرك عن وعي أن خلاف الرأي لا يفسد للود قضية..
كثيرا ما كتبت مقالات أغضبت الدولة وأغضبت المعارضة في وقت واحد والسبب في ذلك أن الدولة تريد' كتبة' ولا تريد كتابا.. وتريد موافقة علي طريقة د. فتحي سرور في مجلس الشعب ولا تريد رفضا أمينا مقنعا لظواهر سلبية لا ينبغي أن تكون بيننا.. كما أن حزب الأغلبية وهو يتشدق كثيرا بكلمات عن الحوار والرأي الآخر لا يقبل أي نقد يوجه له ومعظم الأحزاب المصرية لا تسمع إلا صوت ملاكها الأصليين من أصحاب المقام الرفيع.. ولهذا تصبح الكتابة عبئا ثقيلا علي كل صاحب قلم ويصبح الرأي الآخر مهمة مستحيلة علي كل صاحب رأي ونجد أنفسنا وكأننا نحرث في الماء فلا زرع ولا أشجار ولا ثمار.. وتدور عجلة الأيام والعالم حولنا يتطور ويتقدم ويتغير والمصريون نائمون في العسل الأسود, لأن لغة الحوار غائبة والرأي الآخر مرفوض وإذا لم تكن معي فأنت ضدي..
فمتي تصحو الأغلبية النائمة..