أيام في السودان‏(1)

هوامش حرة



أيام في السودان‏(1)‏


يكتبها‏:‏ فـــاروق جـــويـــدة



















مهما تتجه انظارنا شمالا وشرقا وفي كل اتجاه‏..‏ ومهما نسافر إلي بلاد الله ونقابل وجوها‏,‏ ونعرف ألوانا من البشر‏..‏ فسوف يبقي السودان بناسه ونيله وتاريخه قدرنا الذي لا مفر منه‏..‏ واذا كان الانسان لا يستطيع أن ينكر نسبه لأبيه أو أن يلغي أخوته لشقيقه‏..‏ أو يتنكر للرحم الذي جاء منه‏.‏ كذلك لايستطيع المصريون والسودانيون أن يحذفوا من ذاكرتهم ذلك القدر النبيل الذي جمعهم يوما علي شطآن نيل خالد‏..‏ وأنساب تتسلل عبر التاريخ بين القبائل والعائلات‏..‏ وروابط انسانية لا يستطيع أحد التنكر لها أو الهروب منها‏..‏


يبقي السودان الظهر الذي يحمي مصر‏..‏ وتبقي مصر الكيان الشامخ الذي يعرف كل سوداني دوره وقدره ومسئوليته‏..‏ ومهما تتعدد العلاقات وتختلف الأهداف وتجنح المصالح تبقي العلاقة بين مصر والسودان غاية في الخصوصية‏.‏ فليس أمام مصر غير سودان واحد‏,‏ وليس للسودان الا مصر واحدة‏,‏ وهذا قدر الشعبين وربما كان أعظم اقدارهما‏.‏






ذهبت في الأسبوع الماضي ضيفا علي شباب السودان ممثلا في اتحاد طلاب مدينة الخرطوم‏..‏ هذا الاتحاد يضم‏360‏ ألف طالب من بينهم‏160‏ ألف طالب في الجامعات‏..‏ وآلاف الطلاب في المدارس الثانوية‏..‏ وكانت حرارة الاستقبال التي احتوتني بها مدينة الخرطوم ابتداء بجماهير المواطنين وانتهاء برجال السلطة تأكيدا علي أن العلاقات بين مصر والسودان ستبقي دائما أكبر من كل المتغيرات والظروف‏.‏


كانت حرارة الجو‏45‏ درجة مئوية وحرارة اللقاء أكبر بكثير‏..‏ وبدت مدينة الخرطوم وقد تغيرت تماما فقد زرتها في بداية رحلتي في الصحافة‏..‏ تغيرت الخرطوم في مبانيها وفنادقها وطرقاتها‏..‏ ولكن الغريب أن أصالة الشعب السوداني لم تتغير‏..‏ بقيت فيه تلك البساطة الجميلة والتلقائية في كل شيء‏..‏ وبقي فيه شموخ مترفع برغم ظروف الحياة الصعبة‏.‏






منذ عشرة أعوام مضت كنت أتناول الغداء مع الصديق الراحل الشاعر العربي الكبير نزار قباني في أحد المطاعم اللبنانية الشهيرة في لندن وتحدثنا كثيرا عن الشعر والشعراء‏..‏ ويومها قال نزار‏:‏ لا يوجد شعب في أمة العرب يعشق الشعر مثل الشعب السوداني‏..‏ ولن أنسي ابدا تلك الأمسيات التي أقمتها في السودان‏..‏ لقد كانت أروع وأجمل أمسياتي‏..‏


كانت كلمات نزار قباني تطوف أمامي وقد تجمع الالاف من عشاق الشعر في أول أمسية أقيمها في مدينة الخرطوم العريقة‏..‏






كل شيء في السودان يقول الشعر ويكتبه‏..‏ وفي كل مكان تنتشر أبيات الشعر كأنها عقود من الفل تزين وجه الحياة‏..‏ والشعب السوداني شاعر بالفطرة‏..‏ إنه يحب الشعر الجميل والإحساس الجميل‏..‏ ويحن دائما للزمن الجميل‏..‏


مازال السودانيون حتي الآن يذكرون الآلاف الذين خرجوا لاستقبال سيدة الغناء العربي أم كلثوم عند زيارتها للسودان‏..‏ وفي أحاديث المساء بين المثقفين السودانيين لا يخلو الحديث من رموز مصر في الأدب والثقافة‏..‏ كل شيء في السودان يشعرك دائما بالامتنان لمصر ابتداء بكبار المسئولين الذين تعلموا في جامعاتها وانتهاء بالشباب الذي سمع كل هذه الحكايات من الآباء والأجداد‏..‏ وللأسف الشديد ان هذا الإحساس بالعرفان غاب في مناطق أخري كثيرة‏..‏ وإن بقي السودانيون علي عهدهم بنا‏.‏






وقد توقفت كثيرا عند بعض الظواهر الجميلة التي بقيت في حياة الشعب السوداني ولم تتغير‏,‏ وان كانت قد تراجعت في أماكن أخري أمام متغيرات الزمن وظروف الحياة‏..‏ وكان شيئا غريبا أن يبقي الشعب السوداني متمسكا بها وحريصا عليها‏..‏


مازال للثقافة الجادة مساحة كبيرة في حياة السودانيين‏..‏ إنهم شعب قاريء وهذه سمة معروفة منذ زمن بعيد‏,‏ وهذه العادة الجميلة انتقلت الي الأجيال الجديدة‏..‏ ومازالت تربطهم بالكتاب علاقة وطيدة وقد اتضح ذلك في مستوي الحوار والوعي والفهم والعمق الثقافي‏..‏






لقد وقفت مبهورا أمام نماذج رائعة من الشباب السوداني في لغته وثقافته وإدراكه لمتغيرات العصر الذي يعيش فيه‏..‏ وكان من نتائج هذا الوعي المبكر لدي الشباب أن اللغة العربية في السودان تعيش أزهي حالاتها نطقا وحديثا وبلاغة‏..‏ كان شيئا لافتا ان يتحدث طلاب الجامعات السودانية وفي كليات عملية مثل الطب والهندسة لغة عربية سليمة في كل شيء‏..‏ وربما يرجع السبب في ذلك إلي أن في السودان مدارس لتحفيظ القرآن الكريم حيث يحفظ الطفل قبل دخوله المدرسة ثلاثة أجزاء كاملة من القرآن الكريم قبل أن يبلغ السادسة من عمره‏..‏


ومن أغرب الظواهر التي توقفت عندها في السودان أن وباء الفيديو كليب لم ينتشر هناك كما استشري في باقي العواصم العربية‏..‏ مازال الفن في السودان مرتبطا بالزمن القديم الجميل ممثلا في رموز الفن المصري العريق‏.‏ ولم تستطع مواكب الفن الهابط أن تخترق وجدان الشباب السوداني الواعي المثقف‏,‏ وهنا أيضا لا تجد ذلك الانبهار الأعمي بكل ماهو غربي طعاما وملبسا وحديثا وأخلاقا‏..‏ مازال السودانيون يحتفظون بالكثير من سماتهم وجذورهم القديمة ولم يبهرهم التقليد الأعمي‏.‏






واذا كانت لعنة النفط قد تركت في حياة العرب كل العرب مايمكن أن نسميه السعار المادي حيث يلهث الجميع وراء جمع المال حلالا أو حراما‏..‏ بقي المواطن السوداني قانعا راضيا بسيطا‏,‏ ولعل السبب في ذلك أنك قليلا ما تجد في السودان تلك الفوارق الطبقية المخيفة التي خلفها السعار المادي في ظل هوجة البترول وما ترتب عليها من فوارق مخيفة في مستويات الدخل ومعارك المال وصفقات بيع ثروات الشعوب‏.‏


ومن هنا لم تنتقل أمراض الثراء السريع للشارع السوداني‏,‏ وبقيت الحياة تحافظ علي جزء كبير من إنسانيتها ممثلا في سلوكيات الناس وتراحمهم وتواصلهم‏..‏






ومن هنا أيضا فإن الجريمة لا تمثل مشكلة في حياة السودانيين‏..‏ هناك جرائم ولكنها لا تصل أبدا إلي ما يحدث في عواصم عربية أخري خاصة تلك الجرائم الرهيبة حيث يقتل الابن أمه‏..‏ أو الأب ابنه‏..‏ مثل هذه الظواهر الغريبة لا تسمع عنها في السودان‏,‏ لأن في الناس شيئا لم يمت بعد اسمه الانسانية‏.‏


والشعب السوداني من أكثر الشعوب العربية حبا لدينه واعتزازا به دون تعصب‏,‏ لأن السودان يجمع كل الأديان وأيضا يجمع كل الأفكار‏..‏ في السودان كانت أكثر الأحزاب تنوعا في العالم العربي‏..‏ وكان الإسلاميون في السودان أقوي الأحزاب السياسية هذا بجانب القبائل السودانية العريقة من الأنصار والمهديين والخاتميين‏..‏






وعندما يتدفق النيل ويلتقي الماء الأبيض بالماء الأزرق أمام أم درمان ليتعانقا معا في رحلة النيل العظيم يدرك الإنسان قيمة الاختلاف والتنوع في حياة الشعب السوداني الذي لم يعرف اللون الواحد‏.‏


ولا شك أن الاختلاف في حياة الشعب السوداني يقف وراء إيجابيات كثيرة لعل أهمها غياب الشطط وتقدير المسئولية والايمان الشديد بحرية الرأي والاختلاف فيه‏.‏






وفي السودان مازالت روح القبائل والعائلات تترك ظلالا كثيفة علي واقع الحياة‏..‏ وبقدر ما فتحت الطائفية في السودان أبواب الخلافات والصراعات بقدر ما حافظت علي جذور هذا الوطن وثوابته الدينية والعرقية والتاريخية‏,‏ خاصة أن السودان تعرض ومازال لعمليات تشويه طويلة استهدفت جذوره عربيا وإسلاميا ابتداء بعلاقاته التاريخية بمصر وانتهاء بلغته العربية ودينه الإسلام‏.‏


وبقيت ثقافة الشعب السوداني جزءا أصيلا من مكوناته التاريخية والحضارية ولعل ذلك يتجسد في فنونه‏..‏ وكتاباته‏..‏ وعاداته وتقاليده الاجتماعية التي مازالت تمثل نسيجا حيا تجتمع حوله كل الاتجاهات والألوان والأفكار‏..‏






مازال الشعر السوداني يحمل روائح طمي النيل وهو يتدفق في الأرض السوداء الساحرة ليجسد تاريخ شعب عظيم لغة وإحساسا وجمالا‏..‏


ومازالت الموسيقي السودانية‏.‏ خليطا جميلا بين عيون الشعب السوداني التي تتجه شمالا حيث عروبته‏..‏ وأقدامه التي تقف علي تاريخ أفريقيا بكل تراثه الحضاري والانساني‏..‏






ومازالت العلاقات الانسانية بين طوائف الشعب السوداني المختلفة تعكس روح البساطة والمودة وهي سمات بارزة في الشخصية السودانية‏..‏


قضيت في السودان ستة أيام اكتشفت فيها أن هناك شعبا عربيا يتنفس الشعر ويعيش به في زمن اختلت فيه موازين الأشياء‏..‏ كل الأشياء‏.‏






ان أشجار السودان وجدران بيوته وعصافير حدائقه وأنفاس الناس فيه تتغني بالشعر في كل لحظة‏..‏ إحساس جميل‏..‏ولغة صافية‏..‏ ومواكب من البشر مازالوا يدركون قيمة أشياء مثل القناعة والرضا‏..‏ والترفع والشموخ‏..‏


لم يأكلهم بعد أخطبوط الجشع المادي ولم يسيطر عليهم بعد سعار المال الذي اقتلع كل الاشياء الجميلة من حياة شعوب أخري‏..‏






كانت حرارة اللقاء في الخرطوم أكبر من حرارة الجو وكنت أقول لنفسي وأنا اصافح هذه الوجوه البسيطة الطيبة المثقفة المؤمنة بالوطن والدين والحياة‏..‏ اذا أردت أن تتأكد بنفسك أن الدنيا مازالت بخير‏..‏ اذهب الي السودان‏.‏






وللرحلة بقية‏..
 
 
Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads