أنا‏..‏ والنقابة

هوامش حرة

أنا‏..‏ والنقابة

يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـدة



إذا كان الشعر قد اختارني لأنه منحة من الخالق‏..‏ فأنا الذي اخترت الصحافة لأنها قدر جميل‏..‏ وما بين الشعر والصحافة كان مشوار العمر بكل جوانب الضوء فيه والظلال‏..‏ وبقي الشعر منطقة خارج الحسابات والتوقعات والزمن وبقيت الصحافة حلم التغيير وصوت الضمير وصراعا دائما من أجل إنسان ومجتمع وزمان أفضل وفي الأسبوع الماضي زارتني مفاجأة غير متوقعة فقد طلب مني عدد غير قليل من زملاء المهنة وحكمائها أن أرشح نفسي نقيبا للصحفيين وكان من هؤلاء أساتذة كبار تعلمت علي يديهم وربطتني بهم صداقة عمر وأعضاء من مجلس النقابة وزملاء أعزاء في بلاط صاحبة الجلالة‏..‏



وكان أول خاطر دار في ذهني شعور جارف بالعرفان لهذا التقدير الذي لم أتوقعه وهذه الثقة التي يعتز بها كل إنسان خاصة إذا كان مثلي لم يمارس في حياته نشاطـا في مجالات الخدمة العامة ولم يكن صاحب دور في العمل النقابي واكتفي بأن يكون صاحب موقف وقضية‏..‏ وبعد تفكير طال وحسابات كثيرة قدمت اعتذاري مؤكدا أن هذا الاعتذار ليس موقفـا أبديا فقد يأتي زمن آخر إذا امتد بنا العمر أشعر فيه أن المناخ العام أصبح قادرا علي استيعاب لغة للحوار ترقي إلي مستوي العقل والحكمة وأن الناس والظروف تغيرت بما يجعلني استعيد إيماني بأننا شعب وحكومة قادرون علي الاحتكام للعقل‏..‏ وسماع صوت ضمائرنا في زمن اختلت فيه الموازين والأحكام‏..‏



اعتذرت سائلا الأصدقاء الذين منحوني هذه الثقة أن يغفروا لي هذا الموقف الذي لا يعتبر تخليا أو هروبا من المسئولية ولكنه استشعار عن بعد بأن في السماء غيوما كثيفة وأن أحلام الشاعر عندي قد لا ترضي بما تفرضه حسابات الواقع القبيح حين يفرضها مناخ لم يعد يؤمن بالحوار‏..‏



إن قضية الصحافة الآن معلقة بين طرفين أساسيين هما السلطة والنقابة ولا أعتقد أن الصدام مع السلطة أمر مرغوب فيه‏..‏ كما أن اتجاه السلطة للحوار أمر مشكوك فيه وقبل هذا كله فإن السلطة قد حسمت أمرها واختارت‏..‏ وأنا لا أحب أن أخوض مثل هذه المعارك‏..‏



ولابد أن أعترف أن واقع الصحافة المصرية الآن يقلقني كثيرا فقد أصبح جزءا لا يتجزأ من مناخ عام اجتاح المجتمع كله ووصل بنا إلي حالة من الارتباك والانفلات بل الفوضي في معظم الأحيان‏..‏ كانت أمامي مخاوف كثيرة ومبررات تجعلني أتردد ألف مرة قبل أن أبحر في السفينة وسط هذه الأمواج العنيفة خاصة أنني اعتدت في حياتي أن أطمئن إلي النتائج قبل أن أخوض في المقدمات‏..‏ وأن أصعب الأشياء أن تجد نفسك بين نارين سلطة متربصة وأقلام شاردة وسماء ملبدة بالغيوم‏..‏



وكانت أمامي مخاوف كثيرة‏..‏

‏*‏ أول هذه المخاوف أنني لا أثق كثيرا في موقف الدولة من نقابة الصحفيين ومن المثقفين بصورة عامة‏..‏ لقد أصبحت هذه الفئة بعيدة تماما عن السياق العام لفكر الدولة إنها أكثر الفئات الآن تهميشـا أمام لغة المال وسطوة رجال الأعمال وتجار السياسة والمصالح وأصبح من الصعب جدا أن تجد بابا مفتوحا أمام صاحب فكر أو استجابة سريعة لصوت من أصوات الحكمة وما أكثر القضايا التي خسرتها الدولة أمام الرأي العام نتيجة مواقفها‏..‏ ويكفي أنها في سنوات قليلة خسرت معظم النقابات المهنية وهم صفوة المجتمع وجلست علي أطلالها تبكي علي اللبن المسكوب‏..‏ لقد كنت دائما أشعر أن في أجهزة الدولة من يتربص بالصحافة ونقابتها وأن الدولة حين خسرت النقابات فإنها قد خسرت مجموعة النخب التي تشكل عقل وقلب هذا المجتمع وهي خسارة لا تعوض‏..‏


*‏ من بين هذه المخاوف أيضا أن نقابة الصحفيين تختلف عن أي نقابة أخري‏..‏ إن نقابة الصحفيين هي التي تشكل الأفكار وتغير العقول وتضع أصولا للغة الحوار وحينما يختل أو يتأثر إداء هذه النقابة فإنه يترك آثاره علي كل شيء‏..‏ أنني أتعجب عندما يردد البعض كلمة يسخر بها من الصحافة ويقول ليس علي رأس الصحفيين ريشة‏..‏ والحقيقة أنه لا توجد فقط ريشة علي رأس الصحفي المحترم بل ينبغي أن يكون هناك تاج من المعرفة والترفع والموقف والأمانة وهذا هو التاج الحقيقي‏..‏ وقد لا تكون كل هذه الصفات مطلوبة في مواقع أخري ولكنها ينبغي أن توجد في نقابة الصحفيين‏..‏



إن قدسية الصحافة ليست في أشخاصها كما يروج البعض ولكن قدسيتها في مواقفها‏..‏ وهيبة الصحافة ليست في نقابتها ولكن في رموزها العظيمة التي شكلت عقل هذه الأمة ووجدانها‏..‏



ولابد أن أعترف أن هذه الصورة قد اهتزت كثيرا‏..‏ لقد اهتزت في عجزنا الشديد عن خلق مناخ قادر علي إفراز لغة راقية للحوار نختلف فيها إلي أبعد مدي ونتفق فيها علي أقل التفاصيل‏..‏ والغريب أن البعض يلقي مسئولية ذلك علي الصحافة المستقلة رغم أن البيت الصحفي كله شريك في هذه التجاوزات بل أن بعض الصحف القومية تقدم نماذج كريهة في الحوار والسلوك والمواقف ولا يعاقبها أحد‏..‏ ولهذا إذا جاء وقت للحساب فينبغي أن يكون حسابا للجميع‏..‏


*‏ لا تستطيع الدولة أن تنكر مسئوليتها عن هذه الفوضي وهذا الانفلات لقد تركت الصحف القومية زمنـا طويلا للعبث وفساد الضمير وكانت النتيجة ما وصلت إليه أحوالها المالية والمهنية والأخلاقية الآن كما أنها من البداية لم تتعاطف مع الصحافة المستقلة وكأنها مولود غير شرعي يبحث لنفسه عن شهادة ميلاد من أب هارب‏..‏ ولهذا من الظلم أن تحمل الصحافة المستقلة وحدها مسئولية ما حدث للبيت الصحفي من تجاوزات لأن الجميع شريك في ذلك كما أنني أري أن الجناية الكبري أن نذبح الصحف المستقلة ويكون ذلك هو ثمن الخروج من هذا المأزق المخيف‏..‏



وقد ترتب علي ذلك كله انقسامات حادة بين الصحفيين وظهرت تكتلات غريبة لا تقوم علي الفكر والرأي والمواقف ولكنها انعكاس لمصالح خارجية ورؤوس أموال وإعلانات وصفقات تحرك الأقلام وتسكت الضمائر‏..‏



وفي الشهور الأخيرة زاد حجم الأزمة وتحولت قضايا النشر وقضايا الرأي إلي جرائم لا علاقة لها بالصحافة ووجدنا أنفسنا أمام مأزق رهيب‏..‏ وخرجت الصحافة تدافع عن حريتها وخرجت الدولة تحمل هراوتها ووقف الفريقان أمام مقر النقابة في وسط القاهرة كل فريق يستعرض قوته‏..‏



أنا واحد من الذين أكدوا دائما هيبة الدولة ولكن هيبة الدولة ليست في عصا تحملها أو أحكام بالسجون تلوح بها ولكنها تتجسد في حكمة القرار ونداء البصيرة‏..‏



وأنا واحد من الذين يؤمنون إلي أبعد مدي بلغة العقل والحوار فليست هناك قدسية لشخص ولكن القدسية للكلمة الشريفة وليس هناك سقف للحوار ولكن هناك سقفا وحدودا للتطاول‏..‏ وفي ظل انفلات المواقف بين الدولة وصحافتها يصبح من الصعب جدا أن يلتقي الطرفان خاصة أن هناك من يسعي دائما إلي إفساد هذه العلاقة بحثـا عن دور وسعيا وراء المصالح‏..‏



وفي تقديري أن الحل ليس مستحيلا‏..‏ فإذا كانت الأزمات والمشكلات في مواقع كثيرة لا تقلق الدولة فإنني أعتقد أن الصحافة مصدر قلق دائم لها ومن الخطأ أن يتصور البيت الصحفي أنه قادر علي أن يلوي يد الدولة لأنه لا ينبغي لأي جهة أن تلوي يد الدولة حتي لو استطاعت لأن هيبة الدولة مصدر أمان لنا جميعا حتي وإن اختلفنا معها‏..‏ ولكن في نفس الوقت لا ينبغي أن تشعر الدولة أنها قادرة علي أن تستخدم العصا في كل الأحوال والظروف حتي وإن لم يتطلب الموقف ذلك‏..‏ وإذا كان الأمن المركزي قادرا علي فض مظاهرة هنا أو هناك فليس للأمن المركزي مكان في نقابة الصحفيين ولا ينبغي أن يكون له هذا المكان أو هذا الدور هذه قناعات عندي لا أملك تغييرها‏..‏ وهنا يجب أن تسأل الدولة نفسها هل نحن بالفعل في حاجة إلي صحافة حره وهل هناك إيمان حقيقي بهذه الضرورة أم أن الموقف مجرد شعار جميل نرفعه أحيانـا ونخفيه حين نريد‏..‏ كل شيء يمكن أن ينتهي ويخرج الجميع من هذا المأزق إذا حسمنا الإجابة علي هذا السؤال‏..‏ يجب أن تسأل الدولة نفسها هل تريد لمصر صحافة حرة‏..‏ وأن يسأل الصحفيون أنفسهم وهل هناك حرية بلا مسئولية ؟‏..‏ إن انقسام البيت الصحفي بين صحف قومية ومستقلة وانقسام الصحفيين بين مؤيدين ومعارضين حكوميين وغير حكوميين هو التهديد الحقيقي لمستقبل النقابة‏..‏



إن تجاوزات الصحافة المستقلة لا تبرر ذبحها وإن كان ترشيدها ضرورة إن سجن رؤساء تحرير الصحف المستقلة أو إغلاقها لن يكون حلا لأزمة الصحافة المصرية بل هو خسارة مؤكدة لجميع الأطراف لأن الترشيد لن يكون في السجون والإصلاح لن يكون بجهابذة الحزب الوطني وأجهزة الأمن‏..‏ كما أن الحل ليس لدي القيادات الصحفية التي تذبح الحقيقة كل يوم أمام القاريء وتقدمها قربانا لأصحاب القرار وفي ذلك كله إساءة للمهنة العريقة وفهم خاطيء لدورها ومسئوليتها‏..‏



وما بين انفلات يد الدولة وانفلات أقلام الصحفيين لا ننتظر شيئـا غير الفوضي‏..‏ ولهذا سألت نفسي هل أنا علي استعداد أن أكون شريكـا في جريمة أو شاهدا عليها وكانت الإجابة ليس هذا مكاني ولا ينبغي أن يكون‏..‏




ويبقي الشعر



فـي الأفـق غيـم‏..‏ وراء الغيـم همـهمـة

وطيـف صبـح بــدا فـي الليــل بـركـانــا



صوت النوارس خلف الأفق يخبرني‏:‏

البـحــر يخفــي وراء المــوج طـوفــانـــا



لا تسـأل الحلـم عمـن بــاع‏..‏ أو خـانـا

واسـأل سجـونـا تسمـي الآن أوطــانـــا‏!‏



أشـكو لمـن غـربــة الأيــام فـي وطــن

يمتــد فـي القلـب شـريـانـا‏..‏ فشـريــانــا؟



ما كـنـت أعلــم أن العشــق يـا وطنــي

يـومـــا سـيغــدو مــــع الأيــــام إدمـــانــــا



علمتـنا العشــق‏..‏ حتـي صـار في دمنـا

يســري مــع العمـــر أزمـانــا‏..‏ فـأزمــانـــا



باعـوك بخسا‏..‏ فهـل أدركت يا وطني

في مأتـم الحلم قلبي فيك كم عـاني؟‏!‏


'‏من قصيدة كأن العمرما كانا سنة‏2005'‏

Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads