ما يباع‏..‏ وما لا يباع

هوامش حره



ما يباع‏..‏ وما لا يباع


يكتبها‏:‏ فـــاروق جـــويـــدة







لا ينبغي أن يندفع بنا قطار الخصخصة إلي المجهول‏..‏ بل ينبغي أن نراجع المشوار من بدايته وأن نتوقف عند كل المحطات التي عبر عليها حتي نقيم التجربة ونستفيد من منجزاتها ونراجع أخطاءها‏..‏ إن ذلك يعني أن نتوقف عند أداء ثلاث وزارات سبقت ورابعة تحاول الآن أن تعيد للاقتصاد المصري شيئا من عافيته‏..‏ لقد بدأ قطار الخصخصة مع وزارة د‏.‏ عاطف صدقي التي اقتربت من عشر سنوات قضتها في السلطة وكانت هذه المرحلة من أفضل مراحل التطور الاقتصادي في مصر فقد اتسمت بالواقعية الشديدة والاقتراب من هموم الناس مع قدر كبير من الشفافية‏..‏


جاءت بعد ذلك وزارة د‏.‏ الجنزوري ولم يسعفها الوقت ولا الظروف‏..‏ ثم كانت المرحلة الصعبة مع د‏.‏ عاطف عبيد ومعها وبها غابت ملامح برنامج الخصخصة الذي وضعته الدولة وتصورنا أنه قادر علي الخروج بنا من عنق الزجاجة‏..‏



نحن الآن أمام حكومة جديدة ولا نستطيع أن نتحدث عن شيء قبل أن تبدو لنا الشواهد‏.‏ هناك حركة اندفاع سريع يتسم بروح الشباب وأتمني ألا يقترب من حدود المغامرة‏..‏ وهناك أيضا إجراءات سريعة وتغييرات في القوانين وهذا كله لا يؤتي ثماره بين يوم وليلة ولكننا في حاجة إلي المزيد من الجهد والوقت معا‏..‏


ويبدو أن مؤشرات الحكومة الحالية برئاسة د‏.‏ أحمد نظيف تحاول أن تعيد قوة الاندفاع مرة أخري إلي قطار الخصخصة الذي بدأ في السنوات القليلة الأخيرة وكأنه يشبه قطارات المراكز التي كنا نشاهدها في ريف مصر منذ سنوات بعيدة ونراها الآن في أفلامنا القديمة‏..‏ إن حكومة د‏.‏ نظيف تحاول إعادة قوة الدفع إلي مشروع الخصخصة مرة أخري‏..‏ فقد أصابه الكثير من الترهل وعدم الجدية‏..‏ بل إنه في أحيان كثيرة افتقد الهدف والغاية‏..‏


كانت مصر في السنوات الأخيرة تعرض مشروعات مهمة وخطيرة للبيع ولا تجد من يشتريها أو تقبل أن تبيعها بأسعار لا تتناسب أبدا مع قيمتها الفعلية ويكفي أن يباع فندق مثل المريديان بمبلغ لم يتجاوز‏75‏ مليون دولار كانت يومها تزيد قليلا علي‏200‏ مليون جنيه بسعر الدولار في ذلك الوقت‏..‏ وهناك أيضا مصانع تم بيعها بأسعار رمزية مع أن قيمة الأرض التي تقام عليها أكبر بكثير من الأسعار التي بيعت بها‏..‏ ومن هنا فإن الصفقات التي تم فيها بيع مشروعات القطاع العام من المصانع والشركات والفنادق ينبغي ألا تكون مؤشرا لعمليات البيع المقبلة‏..‏ هذه واحدة‏..‏ أما الثانية فيجب أن تضمن الحكومة استمرار نشاط هذه المصانع أو الشركات‏..‏ لقد باعت الحكومة مشروعات صناعية مهمة توقفت عن الإنتاج وتم تسويق أراضيها في عمليات البناء‏..‏ وهذا مخالف لأبسط قواعد برنامج الخصخصة‏..‏


إن هذه المشروعات توفر إنتاجا وفرص عمل وتفتح ملايين البيوت ويجب أن يبقي الهدف الاجتماعي جانبا أساسيا في برنامج الخصخصة مهما كان ثمن ذلك‏..‏



نأتي بعد ذلك إلي سؤال مهم يجب أن تطرحه الحكومة في هذا الوقت بالذات‏..‏ ماذا يباع‏..‏ وماذا لا يباع‏..‏ هناك مشروعات بقيت من سلسلة المشروعات التي عرضتها الحكومة في السنوات الماضية وهذه المشروعات استكمال لسياسة سبقت‏..‏ ولكن هناك الآن طرح جديد لمشروعات أخطر تسعي الحكومة الحالية إلي الدفع بها في أسواق الخصخصة‏..‏


إن الحكومة تفكر في خصخصة قطاع البنوك وهذا هدف لا خلاف عليه‏..‏ ولكن السؤال الأهم‏:‏ ما هو الوقت المناسب لاتخاذ مثل هذا القرار‏..‏ وهل يمكن أن نضع من الضمانات ما يكفي لحماية الاقتصاد القومي‏..‏ وما هي سياسة الحكومة في ظل جهاز مصرفي متحرر تماما من سيطرتها أو رقابتها‏..‏ ماذا ستفعل مع ديونها الخارجية‏..‏ وديونها الداخلية‏..‏ سواء كانت مستحقة للتأمينات أو البنوك نفسها التي تفكر في بيعها‏..‏ وقبل ذلك كله‏..‏ ما هي الضمانات التي تجعلنا لا نخاف من تسلل رؤوس أموال أجنبية للسيطرة علي بنوك مصر واستخدام ذلك سبيلا لتحقيق مصالح سياسية‏..‏ هناك أيضا أفكار طرحها البعض حول خصخصة الإعلام بما في ذلك بعض القنوات التليفزيونية والصحف حتي القومية منها‏..‏ وهنا أيضا يجب أن نتوقف عند سؤال أهم‏:‏ من هم أصحاب المصلحة في شراء الإعلام المصري‏..‏ ومن الذي يسعي الآن إلي السيطرة علي عقل هذه الأمة ممثلا في أهم قلاعها الثقافية والفكرية وهي مصر‏!..‏ إننا أمام برامج واسعة ومناقشات حادة حول الإصلاح الثقافي والسياسي والديني‏..‏ والإعلام من أهم وأخطر الوسائل المعاصرة في هذه اللعبة‏..‏

إن دور الإعلام لا يقل في أهميته عن دور الجيوش‏..‏ وقناة تليفزيونية أهم من عشرات الكتائب العسكرية في رسم مستقبل الحياة‏..‏ إصلاحا أو فسادا‏..‏ ومن هنا فإن بيع القنوات التليفزيونية آو حتي تآجيرها يجب أن يخضع لحسابات دقيقة جدا حتي لا نجد أنفسنا بين يوم وليلة أمام إعلام لا يرحم‏..‏


وما ينطبق علي القنوات التليفزيونية ينطبق أيضا علي الصحافة‏..‏ إن بيع مؤسسة صحفية كبري أو تخصيصها أو فتح باب الإسهام فيها قرار سيادي يجب أن يكون علي أعلي مستويات القرار السياسي في مصر‏..‏ والقيادة السياسية رفضت ذلك بكل الحسم‏..‏ قد يري البعض الجانب الاقتصادي في القضية أمام مؤسسات صحفية خاسرة‏..‏ وهنا يكون بيعها هو البديل الأفضل‏..‏ ولكن لنا أن نتصور أن تقع هذه المؤسسات في يد جهات لها أطماعها ومآربها وتسعي إلي تحقيق مصالحها‏..‏ هنا يتراجع الجانب الاقتصادي والخسائر والديون‏..‏ وتصبح القضية قضية أمن وطن‏..‏ واستقلالية قرار‏..‏ وحماية عقل أمة‏..‏



تأتي في هذا السياق أيضا أفكار تطالب بخصخصة مؤسسات كبري مثل الكهرباء والسكك الحديدية والمياه بعد أن نجح برنامج الخصخصة في قطاع مهم هو الاتصالات‏..‏ ولكن كيف لنا أن نتصور مثلا بيع هيئة السكك الحديدية وهي تقوم وحدها بمسئولية تتجاوز‏30%‏ من خدمة المواصلات‏!..‏ يضاف إلي هذا أن ديون السكك الحديدية التي تراكمت طوال عشرين عاما تمثل عبئا رهيبا علي خصخصة مثل هذه الهيئة‏..‏ وهذا ينطبق أيضا علي محطات المياه والكهرباء‏..‏ وكلها مشروعات من الوزن الثقيل وتحتاج إلي دراسة خاصة قبل التفكير مجرد التفكير في الدخول بها إلي برنامج الخصخصة‏..‏


وبجانب هذا كله ينبغي أن نراعي الجوانب الاجتماعية‏..‏ إن الدولة تحاول التخفيف من أعبائها‏..‏ وتحاول أيضا توفير موارد مالية لتغطية العجز والإنفاق والديون‏..‏ ولكن هل نعالج كارثة بكوارث أكبر‏!!..‏

إن مشروعات الخدمات الكبري يجب أن تبقي علي الأقل في ظل إشراف من الدولة لأننا في الحقيقة لا نملك قطاعا خاصا قادرا علي إدارة مثل هذه المشروعات الضخمة‏..‏ كما أن رأس المال المصري المحلي غير قادر علي اقتحام مثل هذه العمليات الاقتصادية الكبري‏..‏ وقبل هذا كله فإن خصخصة مثل هذه المشروعات سوف تؤدي بالضرورة إلي تسريح ملايين العمال في وقت نعاني فيه من مشكلة مزمنة اسمها‏'‏ البطالة‏'..‏


وليس معني ذلك أنني أرفض التفكير في كل هذه المجالات‏..‏ ولكن الأهم من طرح الفكرة أن تجيء في الوقت المناسب والظروف السليمة‏..‏ إننا لسنا أمام مسلسل تليفزيوني أو قصة فيلم نحاول تغيير بعض مشاهده‏..‏ ولكننا أمام واقع اجتماعي واقتصادي وإنساني يجب أن نستوعب كل جوانبه‏..‏

لقد وصل الشطط في الخيال لدي البعض إلي خصخصة المجالات الثقافية وبيع قصور الثقافة‏..‏ بل وإنشاء متاحف خاصة للآثار‏..‏ وبيع مراكز الشباب‏..‏ وهذه كلها ظواهر غير صحية لأنها لا تتناسب مع ظروف شعب تعداده‏70‏ مليون إنسان لهم واقعهم الاجتماعي وظروفهم الحياتية الصعبة‏..‏


لقد فشلت التجارب الاشتراكية لأن البعض استوردها من الخارج‏..‏ وفشلت أيضا برامج الانفتاح والخصخصة في بلاد كثيرة لم تحاول دراستها كما ينبغي وتجاهلت واقعها وظروفها المختلفة‏..‏

إننا لا نريد وصفات سحرية للإصلاح الاقتصادي بين يوم وليلة‏..‏ إن الذي نستطيع أن نفعله في هذا اليوم وهذه الليلة أن نرفع كفاءة الإنتاج المصري‏..‏ وأن نوفر احتياجاتنا من السلع الزراعية‏..‏ وأن نزيد صادراتنا‏..‏ وأن نحقق معدلات أفضل للتنمية‏..‏ وأن نواجه مشكلات البطالة والعجز في الميزانية‏..‏ وقبل ذلك كله نوفر مناخا أكثر شفافية ونزاهة‏..‏


إن البعض يتصور أن أفضل الحلول هو أن نبيع ما نملك‏..‏ ولكن الحل الأمثل في الحقيقة أن نعيد استثمار ما نملك لكي يتحقق لنا قدر من الرخاء والاستقرار والاكتفاء‏..‏ ولا أقول الرفاهية‏..‏

وهذا يعني أن البيع ليس هو الطريق الوحيد للإصلاح الاقتصادي وأن إنقاذ المشروعات المفلسة‏..‏ سواء كانت في البنوك أو الإعلام أو الصحافة أو الثقافة أو مشروعات الخدمات هو أن نوفر قيادات أكثر شفافية وأكثر قدرة علي التعامل مع روح العصر‏..‏ وأن نضع سياسات إدارية وإنتاجية وتصديرية قادرة علي إخراج الاقتصاد المصري من محنته‏..‏


إن قرارات الحكومة لتشجيع الاستثمار وإنعاش سوق الأوراق المالية وتخفيض الجمارك والضرائب والأعباء عن المواطنين‏..‏ هذه كلها قرارات في الاتجاه الصحيح‏..‏ أما قطار الخصخصة الذي يحاول البعض الاندفاع به في مجالات غاية في الحساسية ومنها البنوك والإعلام والثقافة والخدمات فهي مغامرة غير محسوبة‏..‏ من حيث التوقيت الخطأ والظرف غير المناسب‏..‏

يجب أن نكون علي وعي كامل‏..‏ خاصة في الظروف الحالية‏..‏ بأشياء يمكن أن تباع‏..‏ وأشياء أخري ينبغي ألا تباع‏..‏



Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads