هوامش حرة
أغنيات للحرية..في الشارع اللبناني
يكتبها: فـــاروق جـــويـــدة
هناك لحظات قد تبدو قصيرة تعكس معادن الشعوب وجوهرها.. وهناك أيضا لحظات أخري تحمل الانكسار والهزيمة.. وفي كل الحالات فإن الإنسان هو أساس كل شيء.. إذا انكسرت إرادته تحول إلي كائن هزيل.. وإذا انتصرت إرادته تجاوز كل الحسابات.. ومن هنا يصبح الفارق بين لحظة وأخري وزمان وزمان هو فارق الإرادة عند الإنسان.. لأن انكسار الإرادة هو الهزيمة الحقيقية..
وعندما كنت أتابع علي شاشات التليفزيون أفواج الشعب اللبناني وهي تتدفق في ساحة الشهداء في بيروت مثل الطوفان كنت أشعر بأن هناك شيئا جديدا يولد وسط هذا الزحام.. كان اللبنانيون يحملون علمهم بألوانه الزاهية.. وكانت ألوان العلم تتعانق في السماء الزرقاء الصافية كأنها طيور تحلق بلا قيود أو سجون أو وصاية.. اختفت كل الأشياء خلف هذا العلم وتراجعت.. لم يكن هناك صليب أو هلال.. ولم يكن هناك شيعي أو سني أو درزي.. قام الجميع يصلون نحو قبلة واحدة هي قبلة الوطن لبنان الذي جمع أحلامهم وانكساراتهم ومآسيهم.. وكانت قضية الوطن أكبر من كل القضايا وكانت الحرية أكبر من كل الخلافات..
وهؤلاء هم شباب لبنان الذين خرجوا من أنقاض حرب دامت ستة عشر عاما.. ولم يكسب فيها أحد.. وخرج الجميع منها خاسرون.. وبقي الوطن.. هذا هو شباب لبنان الذي يرقص علي الفضائيات ويغني ويحب ويحلم خرج كالطوفان يهز أركان كل شيء ويبشر بميلاد فجر جديد..
علي الجانب الآخر من الصورة كان مجلس النواب اللبناني يخوض معركة ضارية ضد حكومته.. كان أعضاء المجلس يشعرون بفخر شديد وهم يلفون علي أعناقهم علم لبنان.. لقد تخلصوا من كل شيء قبل أن يؤدوا الصلاة من أجل الحرية.. نسي كل واحد منهم تاريخه وحياته وصراعاته ومآسي أيامه.. ووقف في اعتزاز أمام علم بلاده..
في كلمات الأعضاء وانتقاداتهم شموخ في الحوار.. وجمال في اللغة.. وترفع في إلقاء التهم وتقديم دفاتر الحسابات.. كان حديث كل واحد منهم قطعة جميلة من النثر الجميل.. لم يخطئ واحد منهم في كلمة عربية والتزموا جميعا بالفصحي..' تاجنا' الذي فرطنا فيه.. كان الهجوم ضاريا.. بلا ابتذال.. وكان النقد عنيفا بلا تجن.. وكانت هناك أكثر من فكرة وأكثر من رأي..
هناك من هاجم الوجود السوري علي التراب اللبناني بضراوة.. وهناك من دافع بعنف.. وبين هذا وذاك كانت الحكومة حائرة أمام هذا الطوفان الصاخب من النقد والهجوم والإصرار علي المواجهة..
الصورتان تقتربان.. الشارع في لحظة احتجاج صاخبة.. ومجلس النواب في لحظة حساب حادة.. وما بين هذا وذاك كان لابد أن تنسحب الحكومة وتعلن استقالتها لتنتصر الحرية.. في بلد الحريات.. ووقف الجيش اللبناني في لحظة تاريخية يحمي المواطنين جميعا.. شعبا وحكومة.. معارضة ومؤيدين..
هذا ما رأيناه علي شاشة التليفزيون وقد تحول مأتم الحريري إلي عرس للحرية في ربوع لبنان.. كان من الممكن أن يمر اغتيال الحريري مثل عشرات الأحداث الدامية.. وأن يتحول إلي برقيات عزاء أو مشاطرة أو أحاديث معادة علي الفضائيات العربية.. ولكن الحريري تحول إلي رمز.. واجتمع الشعب اللبناني حول هذا الرمز ليفجر منه أشياء كثيرة وليبدأ من نهاية حياة الحريري حياة جديدة لشعب عظيم..
ليس هذا هو لبنان الحرب الأهلية.. والتصفيات الجسدية.. وآلاف القناصة الذين يقفون علي أسطح البيوت بعد أن أدمنوا القتل وكرهوا الحياة.. لقد استوعب اللبنانيون الدرس ولن يتركوا مصيرهم في أيدي العابثين سواء كانوا منهم أو كانوا عليهم..
لقد خاضت لبنان أسوأ ألوان الحروب عندما خرجت الملايين إلي الشوارع تحمل السلاح ويقتل بعضها بعضا.. لم يبق شيء لم تدمره الحرب الأهلية في لبنان.. البيوت والمساجد والكنائس والأشجار والجبال وملاعب الأطفال وحدائق الزيتون.. كل شيء في لبنان شرب الكأس مرا وعاش سنوات طويلة ما بين سكرة الموت وسكرة الدمار..
كان العالم كله يقدم السلاح للشعب اللبناني حتي يقتل بعضه.. المسلمون يقدمون السلاح للمسيحيين.. والمسيحيون يساعدون المسلمين لقتل المسيحيين.. واختلطت الدماء ما بين شيعي وسني ودرزي.. وغاب وجه لبنان وسط ساحات الدمار.. عشرات القصص من المآسي التي شهدها لبنان في حربه الأهلية الدامية..
وخرج الجميع من المعارك متعبون مهزومون منكسرون.. لم ينتصر طرف واحد في هذه الحرب.. وخسر الجميع وكان لبنان الوطن الجميل هو أكبر الخسائر.. لم تعد في لبنان بناية وحيدة صامدة.. ولم يعد هناك مسجد بلا خراب.. أو كنيسة بلا أطلال.. أو إنسان بلا عاهة أو إصابة أو عذاب ضمير..
واستطاع لبنان أن يتجاوز محنته.. بدأ من الصفر مرة أخري وأرسلت إليه السماء ابنا يسمي' رفيق الحريري' حمل الجسد المصاب ليبدأ رحلة العلاج.. وتكون نهاية المأساة في وطن يستعيد عافيته..
هناك ظلال كثيفة في لبنان.. وسحب سوداء تطل من كل جانب.. هناك نزعات دينية وعرقية.. وصراعات طائفية وعائلات وقبائل وأصول.. وكان الشيء الوحيد الذي يجمع هؤلاء.. ساحة جميلة راقية اسمها' الحرية'..
في أكثر الأزمنة العربية استبدادا وبطشا كان لبنان هو العصفور الوحيد الذي يغني للحرية.. ويبدو أن الصوت كان نشاذا وأن العصفور غير مرغوب في بقائه.. ومن هنا تواطأت أزمنة القهر العربي ليصبح العش الجميل خرابا.. وسكت صوت لبنان وتلاشي في زحام البطش العربي..
ولكن يبدو أن العصافير علي الرغم من أنها صغيرة في الحجم ضئيلة في التكوين فإنها لا تنسي الغناء ببساطة.. حتي آخر لحظة كان لبنان يصر علي أن يغني في أزمنة الصمت العربي..
وفي مواكب الشباب الذين خرجوا إلي شوارع بيروت انطلقت صيحات الحرية مرة أخري.. إنهم يطالبون بخروج القوات السورية.. ويطالبون بتحديد واضح لسنوات حكم رئيس الدولة.. ويطالبون باستقالة الحكومة.. ويطالبون بتحقيق عادل في جريمة اغتيال الحريري.. لقد قرر الشعب اللبناني أن يفتح كل الملفات وأن يكشف عن كل الوجوه لأن ذلك هو نقطة البداية لأي إصلاح جديد..
لم يخرج اللبنانيون في مظاهرات من أجل أسعار الخبز والبنزين ومصاريف المدارس.. ولكنهم خرجوا من أجل شيء أكبر وأعظم هو حرية الشعب اللبناني..
كانت الأنظار تتجه نحو ساحة الشهداء في بيروت والناس يتساءلون: تري من أخرج كل هذه الآلاف ووحدها خلف شيء واحد هو علم لبنان..
لا تستطيع قوة في الأرض أن تحشد كل هذه الجموع.. إن أطرافا كثيرة تعبث في لبنان.. أطرافا عربية وأجنبية.. مخلصة وعميلة.. ولم يستطع طرف واحد منها أن يتسلل وسط هذا الطوفان الزاحف لأن لبنان هو الهدف والغاية..
وعندما تسللت في المظاهرات بعض العناصر المشبوهة وهم يحملون السلاح وسط الجموع الحاشدة.. تعالت الصرخات ضدهم وفروا هاربين..
كانت مظاهرات الشارع اللبناني التي لم تشهد إصابة واحدة من أي نوع تحمل وجها حضاريا جديدا علي الشارع العربي كله.. لم أكن أتصور وأنا أتابع أمواج البشر أنني أشاهد وطنا عربيا بهذا الالتزام وهذا الحماس وهذا الإيمان بالحرية.. وهذا الانضباط في السلوك..
إن ما حدث درس لشعوب كثيرة في المنطقة يجب أن تتعلم من وقفة الشعب اللبناني.. لقد اغتال الإرهاب ـ أيا كان لونه وجنسيته ـ رفيق الحريري.. ولكن الذي انتصر في النهاية هو الحرية وليس الإرهاب.. وعلينا أن نحدد طريقنا.. لأن الحرية وحدها هي القادرة علي مواجهة الإرهاب.. أما أساليب البطش والقمع والاستبداد فلن تترك خلفها إلا المزيد من الإرهاب والدمار والتسلط..
ولعل أغرب ما حدث في هذه الصورة أن البعض تصور يوما أن الحرب الأهلية في لبنان قد وضعت نهاية للحوار السياسي.. واتضح أخيرا أن اللبنانيين ازدادوا وعيا وإدراكا لمسئولياتهم السياسية.. ولكن بحوار العقل.. وليس بطلقات الرصاص..
كثيرون في العالم العربي أبهرهم مشهد الشعب اللبناني وهو يخرج في وقار والتزام وحكمة.. مطالبا بالتغيير بلا صخب أو ضجيج أو رشاشات.. وكان هذا شيئا مشرفا لوطن عربي يقدم نموذجا راقيا وصورة حية للمعارضة الحقيقية..
ولعل المعارضين في الأقطار العربية والمتربصين لمواكب الحرية يقرأون ما حدث في لبنان قراءة صحيحة..
وكما كانت في لبنان يوما ما أجمل العصافير التي تغنت للحرية.. فقد عاد لبنان مرة أخري يحتضن طيوره ليغني لنا من جديد.