هوامش حرة
أمسيتان.. في باريس
يكتبها: فاروق جويدة
في الأسبوع الماضي حملتني الطائرة إلي باريس.. أجمل مدن الكون نظافة وأناقة وثقافة وفكرا.. كان الجو باردا ودرجة الحرارة تقترب من الخامسة تحت الصفر.. ولكن المدينة الجميلة قادرة دائما علي احتواء عشاقها ومحبيها بالكثير من الدفء.. في كل مرة أري فيها باريس أشعر أنها تزداد شبابا علي الرغم من تقدم سنوات العمر.. والمدن مثل البشر.. البعض منها يصيبه الخمول والترهل ويفقد البريق والشموخ والكبرياء.. والبعض الآخر يزداد مع الزمن بريقا ومع الأيام تألقا.. وقد بقيت باريس مدينة الشباب الدائم والتقاليد الراسخة.. والجمال الذي لا يذوي ولا يموت..
إن فرنسا هي الدولة الوحيدة في العالم التي تخصص شهرا كاملا كل عام للاحتفال بالشعر والشعراء.. وقد اختارت شهر مارس بداية الربيع لتقيم فيه مهرجان ربيع الشعراء حيث تتحول المدن الفرنسية إلي قصائد جميلة تتناثر كالضوء علي وجه الحياة ويستعيد الناس مع الكلمات الشاعرة مشاعر كثيرة غابت وسط ضجيج الزمن ومتغيرات الحياة وتوحش الحضارة..
ولم تكن هذه هي المرة الأولي التي أشارك فيها في هذه المناسبة.. لقد شاركت من قبل وكنت ضيفا علي منظمة اليونسكو أكثر من مرة وهي تقيم عرسا للشعر في يوم الشعر العالمي..
ذهبت إلي باريس بدعوة من المركز الثقافي المصري لإقامة أمسية شعرية مع لقاء فكري وثقافي مع الجالية المصرية والعربية في باريس.. وجوه كثيرة من المصريين والعرب في مقر المركز الثقافي بشارع سان ميشيل.. د. طه عبد الله مستشارنا الثقافي في باريس ود. فاطمة خليل يقدمان برنامجا ثقافيا متنوعا في هذا المبني البسيط.. بدأت الأمسية شعرا ما بين الحب والسياسة والوطن.. وتنقلنا في ساحات كثيرة اختلطت فيها مشاعر الغربة.. بالحلم.. بالتساؤل عند الحاضرين.. وما إن انتهت جولة الشعر حتي حاصرتني عشرات الأسئلة من كل جانب.. تساؤلات حادة.. ومشاعر غاضبة.. وشباب يبحث عن أمل..
قالوا: ما هي مسئولية الكاتب الآن وهو يري كل شيء يسقط حوله ابتداء بالقيم وانتهاء بقدسية الأوطان انتماء وعطاء ودورا.. هل يكتفي الكاتب بقلمه.. أم أن هناك دورا أكبر.. وكان الإصرار في التساؤلات الغاضبة علي أن المسئولية الآن تتجاوز حدود الكلمة.. حتي لو وصلت إلي درجة الاحتجاج الكامل فعلا وليس كتابة..
وقلت: إن مسئولية الكاتب أن يقدم وجهة نظره بالكلمة.. ومسئولية صاحب القرار أن يقدم الفعل.. بالقرار.. ومن هنا يكون من الصعب جدا أن يتحول صاحب الكلمة إلي سلطة لأنه لا يملك ذلك.. وعندما يتناول الكاتب قضية من القضايا الشائكة فإن مسئوليته أن يلقي الضوء عليها ويكشف مخاطرها.. وربما لجأ إلي الكتابة مرات عديدة حتي يصل إلي ما يشبه القرار.. ولكن يبقي القرار دائما قرار سلطة وليس قرار كاتب..
سؤال آخر: وما جدوي ما تكتبون إذا ما فقدت الكلمة تأثيرها.. إنها جهد ضائع..
قلت: هناك بالفعل حالة' تطنيش' من الحكومة وسلطة القرار في الكثير جدا مما تتناوله الصحافة الجادة وهذا خطأ فادح.. هناك قضايا ينبغي أن تتدخل فيها بحسم سلطة القرار ولكن هذا لا يحدث في أحيان كثيرة بل إن المسئولين في أحيان كثيرة لا يكلفون أنفسهم مهمة الرد علي ما يكتب الكتاب وأصحاب الفكر وما يطرحونه من قضايا.. وهذه قضية تحتاج إلي قدر من المسئولية والحسم..
قالوا: وماذا عن الصحافة المستقلة.. والمعارضة في مصر الآن..
قلت: لو كنت مسئولا في جريدة مستقلة أو معارضة لوضعت أهمية خاصة لتشكيل وعي سياسي جاد عند الشباب من خلال ثقافة عامة وثقافة سياسية وفكر مستنير بدلا من أخبار الفضائح والمعارك الوهمية التي لن تصل بنا إلي شيء.. إن الثقافة السياسية للشارع المصري وصلت الآن إلي أحط درجاتها أمام الإهمال وعدم الجدية.. ولدينا نموذج واضح في شباب الجامعات الذين حرمناهم من ممارسة العمل السياسي.. وكانت النتيجة هذا الفقر الشديد في الفكر السياسي..
كنت أتصور أن تتحول الصحف المستقلة إلي مدارس لتخريج أجيال جديدة أكثر انتماء لوطنها وفهما لقضاياها ومشاركة في تشكيل مستقبلها.. ولكن هذا لم يحدث..
في جانب آخر.. فإن المعارضة في مصر بقيت مجرد مبني ولافتة وصحيفة.. المبني لقيادة الحزب.. واللافتة لمجموعة شعارات والصحيفة تحارب طواحين الهواء.. ولهذا بقيت الأحزاب بعيدة عن الشارع المصري وسوف تدفع ثمن ذلك في الأيام المقبلة.. يجب أن تعود الصحافة المستقلة إلي دورها في تنمية الوعي السياسي وأن تكون منابر للثقافة قبل أن تكون صفحات للفضائح.. وأن تعود الأحزاب المعارضة لتخوض معاركها بين الناس وليس علي صفحات الجرائد أو كواليس الحزب الوطني.. وأن تقدم قيادات حقيقية للشارع المصري بدلا من قيادات انتهي عمرها الافتراضي..
قالوا: وماذا عن قضايا التغيير..
قلت: قد يكون الوقت قد تأخر كثيرا ولكن التغيير قادم..
قالوا: التليفزيون المصري فقد بريقه وتأثيره أمام الفضائيات العربية..
قلت: في مصر أكبر مخزون من الكفاءات البشرية في العالم العربي.. ولو أننا بحثنا وراء أي أداء في جهاز إعلامي عربي سوف نكتشف أن خلف الكواليس عقلا مصريا متميزا.. ولكن مأساتنا الآن أن أصحاب المواهب الحقيقية ينسحبون حزنا وكمدا أمام' كذابي الزفة' والمتسلقين ومواكب المرتشين.. إن مشكلة التليفزيون أنه يحتاج إلي دماء شابة لم تتلوث بعد.. وهذه مسئولية ضخمة أرجو أن ينجح فيها وزير شاب يدرك مسئوليته في الفترة المقبلة وهو أنس الفقي..
قالوا: إننا ندرس هنا في فرنسا للحصول علي أعلي الشهادات.. ونتساءل أحيانا: ماذا سنفعل بعد عودتنا وقد سقطت تماما منظومة القيم في المجتمع المصري..
قلت: أن تنير شمعة أفضل من أن تبقي وحدك تلعن الظلام.. وعلي كل إنسان منا أن يؤدي دوره.. طبيب أمين يمكن أن يعطي القدوة لعشرات الفاسدين حوله.. وقلم شريف يستطيع أن يعلم أجيالا.. ومسئول صادق يمكن أن يكون أكثر حسما.. أما إذا تركنا كل شيء لمشاعر الإحباط والسلبية فسوف تزداد الأحوال سوءا.. إن مسئولية الإنسان الآن أن يشارك في صنع شيء وأن يترك مقاعد المتفرجين.. فقد أسرفنا في سلبياتنا وجلوسنا علي المقاهي..
قالوا: وماذا تفعل شمعة وحيدة وسط ظلام دامس!..
قلت: لو حمل كل إنسان شمعة فسيصبح الليل نهارا.. ولكن يبدو أننا اعتدنا الظلام حتي أننا إذا رأينا ضوءا أغمضنا عيوننا حتي لا نراه.. وانتهي اللقاء وبقيت الأسئلة..
* كانت الأمسية الثانية حفل تكريم أقامه سفير مصر في باريس حاتم سيف النصر.. تذكرت ـ وأنا أصافح السفير المصري وهو يستقبلني ـ جيلا قديما من الدبلوماسية المصرية العريقة. كان يحترف السياسة ويعشق الثقافة ويحب الشعر والأدب.. كان من هذا الجيل رائده الأول محمود فوزي ونخبة كبيرة جاءت بعده.. ويبدو أن هذا التقليد انتهي زمانه حيث كانت السفارات المصرية في الخارج تحتفي بالكتاب والشعراء والمفكرين كما تحتفي بكبار رجال السياسة..
إن السفير حاتم سيف النصر بوعيه الثقافي والسياسي أراد أن يعيد هذا التقليد الجميل.. دعا السفير المصري السفراء العرب والمستشارين الثقافيين وأعضاء البعثات الدبلوماسية العربية في باريس إلي هذا الحفل.. وفي مبني بيت السفير المصري العريق الذي اشترته مصر في العشرينيات عدنا مرة أخري إلي أصول وجذور هذه الأمة وهي ثقافتها ورموزها الفكرية والإبداعية.. وكان المكان يحمل جلال التاريخ وروعة الماضي.. وكانت وجوه السفراء العرب تحمل مشاعر الود التي صاغتها علاقات أزلية لن تغيرها مؤامرات أو خطط للبيع أو الاحتلال أو التقسيم..
وكان الشعر بيتنا جميعا.. كما كان يوما واحة العرب وعشاق الكلمة في كل زمان..
وجوه كثيرة تشعر معها بالدفء من أبناء الوطن.. الدكتور أحمد رفعت سفير مصر في منظمة اليونسكو والسفيرة نهاد العشري قنصل مصر في باريس والآلاف من أبناء الجالية المصرية التي لا يعرف أحد حتي الآن كم عدد أبنائها في فرنسا.. هذا بجانب حماس الدارسين والمبعوثين الذين يدرسون في الجامعات الكبري في باريس..
وقبل هذا كله سفيرنا في فرنسا حاتم سيف النصر واجهة تليق بالدبلوماسية المصرية العريقة فكرا وسلوكا..
وقضيت في باريس خمسة أيام في عيد الشعر والشعراء وتمنيت لو أننا يوما أخذنا هذه التجربة خاصة بعد الكلمة الرائعة التي وجهها كاتبنا الكبير نجيب محفوظ إلي مؤتمر الرواية الأخير وأكد فيها أن الشعر سيبقي ديوان العرب وأنه من الخطأ أن يدعي البعض غير ذلك.. وكانت كلمة إنصاف جاءت في موعدها من كاتب كبير لفن عريق..
بقيت عندي ملاحظة أخيرة أتقدم بها إلي الفنان الصديق فاروق حسني وزير الثقافة والدكتور عمرو عزت سلامة وزير التعليم العالي.. وكلاهما زار المركز الثقافي المصري في باريس بل إن فاروق حسني بدأ حياته العملية الحقيقية فيه.. وأتساءل هنا: هل هذا المبني يليق باسم مصر.. بقدر ما كانت سعادتي وأنا أشاهد التاريخ الرائع في بيت السفير المصري.. بقدر ما كان حزني وأنا أشاهد المركز الثقافي.. وحاضره المؤلم.. هذا المبني يمكن أن يباع بسعر مغر.. بحيث يتم إنشاء مركز ثقافي جديد والحكومة الفرنسية لن تمانع في إهداء مصر قطعة أرض لكي يقام عليها مركز جديد يليق بنا..
وتركت باريس وكل شيء فيها يرسم صورة المدينة العريقة وهي تحتفي كل عام بالشعر والشعراء..