هوامش حرة
صفقة مريبة!
يكتبها: فاروق جـــويـدة
غضب مني المسئولون في حكومتنا الرشيدة عندما كتبت يوما أن الحكومة المصرية تحولت إلي سمسار أراض وأن هذا النشاط لا يدخل أبدا في أعمال وأنشطة الحكومات التي تقدر المسئولية وتعرف شيئـا عن أمانة المال العام.. وأمامي الآن واقعة غريبة ومريبة في كل تفاصيلها أضعها أمام الرأي العام وأنا أتساءل ماذا وراء هذه القصة.. والقصة تبدأ مع إعلان نشر في الصفحة الأولي في الأهرام يوم الجمعة8 فبراير عن فرصة استثمارية نادرة بأجمل المواقع بمدينة الاسكندرية..
ويقول الإعلان: تعلن الشركة القابضة للصناعات المعدنية عن بيع آخر قطعة أرض داخل الكتلة السكنية بالاسكندرية والتي تكفي لإقامة مدينة متكاملة بمرافقها حيث ان مساحتها354 ألف متر مربع أي حوالي85 فدانـا وتقع هذه المساحة بامتداد منطقة كفر عبده وسموحة وموعد المزاد هو يوم8 مارس2008 والمبلغ المطلوب كتأمين لدخول المزاد هو35 مليون جنيه..
وقد سألت نفسي وهل يعقل أن في مدينة الاسكندرية وفي المنطقة السكنية مثل هذه المساحة الخالية من الأراضي وكيف بقيت هذه المساحات حتي الآن, إن المساحة المذكورة تقع بجوار أرقي أحياء الاسكندرية وأغلاها سعرا وهي كفر عبده.. وللأسف الشديد اتضح أن هذه المساحة هي أرض مصانع النحاس المصرية التي كانت يوما واحدة من أهم معاقل الصناعة المصرية وكان العاملون فيها يحصلون علي أعلي الرواتب في الدولة المصرية.. أليس أمرا غريبا أن تعلن الشركة القابضة للصناعات المعدنية عن مشروع لبيع الأراضي بغرض الإسكان وليس الإنتاج الصناعي أو التعديني وما هذا التداخل في أنشطة مؤسسات الدولة..
مصانع النحاس تحولت إلي أراضي بناء وتباع بالمتر في قلب الاسكندرية كما حدث مع مصانع أخري بيعت وتوقف نشاطها تماما وتم تسريح عمالها وبيعت بالمتر كأراضي بناء في القاهرة والاسكندرية وأماكن أخري..
وأمام مصانع النحاس التي تبيعها الحكومة الآن كأراضي بناء نجد أمامنا أكثر من سؤال..
* إن متر الأراضي في كفر عبده- وهذه الأراضي المطروحة للبيع امتداد لها_ يباع بسعر يتراوح بين عشرين ألفا وخمسة وعشرين ألف جنية.. أي أن مساحة85 فدانـا التي جاءت في الإعلان يتجاوز سعرها35 مليار جنيه ستباع قطعة واحدة كما جاء في الإعلان والسؤال: من في مصر الآن يستطيع أن يدفع هذا المبلغ في قطعة أرض.. ولماذا الاصرار علي بيعها كاملة كقطعة واحدة.. ومن يستطيع أن يوفر هذا المبلغ خلال شهر واحد حدده الإعلان لجلسة المزاد وهي8 مارس القادم.. وما هي الجهة المخولة بتنفيذ مثل هذه الصفقة الرهيبة وهل يوجد في الدنيا كلها بلد يعرض354 ألف متر من أراضي البناء في صفقة واحدة وفي شهر واحد..
* ما هو مصير مصانع النحاس الموجودة في هذا المكان والتي تباع خردة ضمن صفقة بيع الأراضي وهل يعقل أن تتحول المصانع إلي أراضي بناء وتباع في مزادات علنية وهل هذه نهاية المطاف بالنسبة لبرنامج الخصخصة الذي يركز الآن علي بيع أراضي المحروسة ولماذا هذا الإصرار علي بيع المشروعات الصناعية التي كانت تنتج سلعا وتوفر وظائف وتفتح بيوتـا بحيث تتحول إلي أراضي بناء..
* إذا كانت الدولة تتحدث عن العدالة الاجتماعية وتوفير المساكن للمواطنين لماذا لم تستغل وزارة الإسكان هذه المساحة الرهيبة لإنشاء مساكن للمواطنين غير القادرين خاصة أن85 فدانـا من الأراضي تكفي لإنشاء مدينة كاملة في قلب الاسكندرية خاصة أنها تمتد من أرقي مناطق الاسكندرية ـ كفر عبده ـ إلي أفقر مناطقها' حجر النواتيه'..
* لماذا لا يتم تقسيم هذه المساحة الضخمة إلي مساحات صغيرة وبيعها مجزأة.. أم أن هذا سيكون مصيرها بعد إتمام الصفقة وتسليمها للمشترين لكي يقوموا بذلك ويرفعوا سعرها عشرات المرات..
* من المسئول عن هذا الإعلان وعن هذه الصفقة وهل يمكن أن نضع مسئولية بيع مثل هذه المساحة المخيفة في يد مجموعة من الموظفين كبارا كانوا أم صغارا أم أن هناك خلف الستار أشياء لا يعلمها أحد ومن في مصر الآن يؤتمن علي صفقة بهذا الحجم وبهذا المبلغ..
* إن قضية بيع أراضي مصر بهذه الصورة المريبة تطرح أكثر من سؤال خاصة تلك المساحات التي تباع في السر دون إعلانات أو مناقصات أو مزادات خاصة أن مثل هذه المساحات الضخمة تحتاج إلي قرارات علي درجة عالية من الشفافية قد لا تتوافر أمام إغراءات شديدة الضراوة في مثل هذه الصفقات..
نحن في هذه الصفقة أمام354 ألف متر مربع أراضي بناء.. وأمام صناعة مصرية تم تدميرها وهي مصانع النحاس وأمام85 فدانـا في قلب الاسكندرية وقبل هذا نحن أمام صفقة ثمنها يزيد علي35 مليار جنيه ولنا أن نتخيل توابع هذه الصفقة..
علي الجانب الآخر ولكي تتأكد لنا عبثية الصورة يقول لنا د. جودت الملط رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات في تقاريره إن حصيلة برنامج الخصخصة كلها من عام1992 إلي عام2006 قد بلغت50 مليار جنيه.. هل يعقل أن يكون هذا هو العائد في15 عاما بيعت فيها مصانع الأسمنت والأسمدة والحديد والغزل والنسيج والبنوك ومساحات شاسعة من الأراضي والفنادق والشواطيء..50 مليار جنيه في15 عاما أي أقل من10 مليارات دولار أي أقل من دخل قناة السويس في عامين أي أقل من800 مليون دولار في السنة.. وأين ذهبت هذه المليارات بعد ذلك كله..
يقول الجهاز المركزي للمحاسبات ان هذه الأرقام لم تظهر في سداد الديون أو تغطية عجز في الميزانية أو إنشاء مصانع جديدة.. لم تظهر في إصلاح وتطوير المصانع الحالية إداريا أو فنيا حيث بلغ كل ما أنفقته الدولة في15 عاما3.7 مليار جنيه فقط في عمليات إعادة الهيكلة ولا أحد يعرف أين تسرب الباقي..
والغريب في الأمر أن الحكومة لا تعترف في عمليات البيع برقابة الجهاز المركزي للمحاسبات خاصة أن اللجنة الوزارية للخصخصة لم تعد قائمة الآن وكان يرأسها رئيس مجلس الوزراء وتضم عددا من الوزراء ورئيس الجهاز المركزي للمحاسبات ومحافظ البنك المركزي ورؤساء سوق المال وهيئة الاستثمار والرقابة الإدارية.. إن تقييم بيع الشركات والمشروعات الآن لا يخضع لقواعد عامة ولا تمثل فيه القطاعات المسئولة ولن يكون غريبا طبقـا لهذه الأوضاع أن تباع أراضي مصانع النحاس في الاسكندرية بعشرة جنيهات للمتر كما حدث في أرض هدي شعراوي في ميدان التحرير..
إن أخطر ما يهدد برنامج الخصخصة الآن أنه تحول إلي برنامج لبيع الأراضي بعد أن كان الهدف بيع المصانع الخاسرة لإنقاذ المصانع الناجحة.. وتطوير الهياكل الإدارية والفنية في مؤسسات الدولة وإنشاء صناعات جديدة تفتح بيوتـا وتقدم إنتاجا, ولكن البرنامج المريب الغريب جنح عن أهدافه تماما وتحولت المصانع المنتجة إلي أراضي بناء تباع بالمتر.. ولم يتم تطوير المصانع القائمة وتم تسريح الملايين من العمال بنظام المعاش المبكر لتباع أراضي المصانع في مزادات علنية..
ومن هنا وبعد عشرين عاما علي هذا البرنامج المشئوم يجب أن تكون لنا وقفة نراجع فيها كل شيء قبل أن نجد الحكومة تعلن عن بيع نهر النيل وقناة السويس والشعب المصري الذي لن يشتريه أحد..
ويبقي الشعر
من ألـف عام
عشت أحلـم أن أري امرأة
تـعربد في كياني كـالزلازل
وتطير في بستـان عمري كـالفـراشة
عنـدما تـغـفـو عـلي صدر الـجداول
أبني لـها عشـا عـلـي العينـيـن
أسكنـها ضـلـوع القلـب
تكبر في عيوني كـالسنـابـل
وأعود عصفـورا أغـنـي الحب
لـحنـا للـحياري
أكـسر القـضبان حولي والسلاسل..
الآن ياعمري
دعينـي كـي أنـام علي جفـونك ساعة
إنـي أري خلـف الجـدار
فـحيح جلاد.. وقـاتل