هوامش حرة : ارتبــــاك

هوامش حرة



ارتبــــاك



يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـدة ‏‏




لا يوجد أحد فوق النقد مادام يتولي عملا عاما سواء كان وزيرا أو خفيرا‏..‏ وفي أحيان كثيرة يضيق كبار المسئولين عندنا بالنقد متصورين أنه ليس في الإمكان أفضل مما كان‏..‏ وقد ترتب علي ذلك أن كبرت الأخطاء وأصبحت خطايا‏,‏ وبعد أن كان من الممكن مواجهة أزمة من الأزمات أصبح الحل صعبا‏,‏ وأصبح الممكن مستحيلا‏..‏ وللأسف الشديد أن مثل هذه المواقف تحمل الدولة والنظام والشعب أعباء كثيرة بعضها مادي‏,‏ والبعض الآخر نفسي‏..‏ وهناك أيضا ما يتصل بسمعة وطن ومستقبل شعب‏..‏ إن المسئول لا يتحمل وحده مسئولية قرار خاطيء‏..‏ ولكننا جميعا شعبا وحكومة ندفع ثمن هذه الأخطاء‏..‏



فجأة وبلا مقدمات ظهرت علي الساحة المصرية مجموعة من الأزمات المتلاحقة التي تؤكد ما أقول‏..‏ بعض هذه الأزمات كانت له جذوره القديمة‏..‏ والبعض الآخر ظهر بلا مقدمات وفي كل الحالات وجدنا أجهزة الدولة ومسئوليها في حالة ارتباك تقترب كثيرا من العجز‏..‏ وكانت النتيجة حالة ذهول غريبة علي وجوه أصحاب القرار‏..‏


*‏ لا أحد يعرف في مصر الجهة الوحيدة التي يمكن استجوابها أو محاسبتها حول ملف مياه النيل‏..‏ هناك إكثر من جهة لها حق الحديث في هذا الملف‏..‏ هناك وزارة الخارجية‏..‏ ووزارة الري والموارد المائية‏..‏ وهناك أيضا وزارة الزراعة‏..‏ والغريب في الأمر أن ملف السودان ارتبط دائما بملفات مياه النيل رغم أن هناك أطرافـا أخري غير السودان فيما يخص ماء النيل‏..‏ هناك أثيوبيا ولها سجل حافل من العلاقات السياسية والاقتصادية بل والدينية مع مصر‏..‏ وهناك جنوب السودان ودول حوض النيل والغريب في الأمر أن مصر تركت هذه الملفات جميعها سنوات طويلة‏..‏ ولم يكن السودان وحده الذي غاب عن البوصلة المصرية ولكن ذلك امتد إلي مياة النيل بمصادرها ودولها واتفاقياتها وقضاياها‏..‏ كان إهمال السودان جزءا من تراجع العلاقات بين مصر وإفريقيا‏..‏ وبالتبعية بين مصر ودول المنبع وحوض النيل‏..‏



فجأة وجدت مصر نفسها أمام عاصفة قوية جاءت من الجنوب واجتاحت السودان بكل ظروفه الصعبة حتي وصلت إلي السد العالي‏..‏ ليهتز يقين مصري قديم بأن مياه النيل فوق كل الحسابات والتهديدات والمخاطر جاءنا التمرد من دول المنبع‏,‏ وبدأ الحديث عن إعادة توزيع حصص المياه‏..‏ وأن الاتفاقيات القديمة تمت في عهود الاستعمار‏,‏ وأنها غير ملزمة الآن لدول حوض النيل‏_‏ أفاقت مصر علي هذه العاصفة المدوية التي وضعت مياه النيل الأزمة والمستقبل في مقدمة الأجندة المصرية سياسيا‏..‏ واقتصاديا وإنسانيا‏..‏



لا أريد الحديث عن أهمية مياه النيل القضية والأهمية والخطورة‏..‏ ولكن يكفي أن يقال إن مياه النيل قضية حياة وموت‏..‏ ولاشيء يسبقها علي الإطلاق‏..‏ والآن تحاول مصر أن تستعيد مواقعها وتأثيرها الغائب مع دول حوض النيل‏,‏ ونرجو ألا يكون الوقت قد فات‏..‏ ولكن الأمر الآن يتطلب خطوة جريئة نواجه بها الموقف‏,‏ وهي أسناد ملف مياه النيل لجهة مستقلة تماما عن الحكومة والوزارات تتبع الرئيس مبارك شخصيا في الظروف الحالية حتي لا يحدث ما نندم عليه بعد ذلك أو يكون مثارا للخلافات حول من أهمل ومن أنجز ومن تراجع‏..‏ يجب أن يعود ملف ماء النيل إلي سلطة قرار واحدة تتبع رئيس الدولة فلا مجال للعبث أو التواكل أو إلقاء الاتهامات في هذه المنطقة‏..‏ لقد أهملنا ملف مياه النيل وأخشي أن ندفع ثمن ذلك رغم أن لدينا من العلماء والخبراء من يعرفون كل صغيرة وكبيرة في هذا الملف الخطير والمطلوب أن نسمع منهم‏..‏


*‏ القضية الثانية التي خرجت من ايدنيا لتصبح أزمة دولية بدأت صغيرة للغاية‏,‏ وكبرت لتصل إلي عواصم العالم‏..‏ عندما أثرت منذ عامين تقريبا قضية المستثمر المصري وجيه سياج مع الحكومة المصرية جاءتني بطرق مختلفة جميع أوراق القضية بما في ذلك دفاع سياج ودفاع الحكومة المصرية‏..‏ وتأكدت يومها أن موقف مصر ضعيف للغاية نحن أمام‏650‏ ألف متر من الأراضي في طابا‏..‏ تمتد‏8‏ كيلومترات علي البحر بعمق‏15‏ كيلو مترا علي الحدود مع إسرائيل‏..‏ باعتها حكومة مصر بسعر دولار ونصف للمتر الواحد ثم دخل سياج في شراكة مع شركة إسرائيلية‏..‏ وهنا أصدرت الحكومة المصرية قرارا جمهوريا بنزع ملكية الأرض للمنفعة العامة‏..‏ وكان هذا مبررا سليما وصحيحا إلا أن رئيس الوزراء السابق د‏.‏ عاطف عبيد أصدر قرارا بتخصيص هذه المساحة لمستثمر آخر وشركة قطاع خاص أخري‏..‏



أمام القضاء المصري حصل وجيه سياج علي ثلاثة أحكام نهائية بإسترداد الأرض ودفع تعويضات وكانت هناك أكثر من فرصة لحل هذا النزاع سلميا بعيدا عن المحاكم‏..‏ ولكن الحكومة رفضت ذلك كله وذهبت تتابع القضية في البنك الدولي حتي جاء الحكم‏'‏ الصدمة‏'‏ بأن تدفع الحكومة المصرية تعويضا ملزما قدره‏740‏ مليون جنيه‏..‏ قبل هذا الحكم كانت هناك إمكايات للتصالح بمبلغ يقل كثيرا عن هذا الرقم المخيف‏..‏ ولكن الحكومة رفضت ذلك كله بما فيه خمسة ملايين جنيه حكم بها القضاء المصري تعويضا لسياج‏..‏ ولنا أن نتصور لو أن القضية وجدت طريقـا للتصالح علي هذا المستوي من التعويض الذي قدره القضاء المصري‏..‏ إن البعض يلقي المسئولية علي سياج المواطن المصري الذي يحمل الجنسية الإيطالية‏..‏ ولكن في تقديري أن الخطأ يقع علي من باع له هذه المساحة من الأراضي‏..‏ وعلي من سحب الأرض للمنفعة العامة وأعطاها لشخص آخر‏..‏ وعلي من رفض تنفيذ أحكام القضاء المصري وجعل الرجل يلجأ للتحكيم الدولي‏..‏ إنها حلقات من الفساد ولا أدري كيف تستطيع الحكومة الآن محاسبة كل من أصدروا هذه القرارات وهذا هو المخرج الوحيد في هذه القضية‏..‏ اتهام المسئولين فيها بجريمة فساد وإحالتهم للنائب

العام وهذا هو الضمان الوحيد لوقف تنفيذ هذا الحكم‏..‏ هناك قضايا أخري مشابهة تنتظر دورها في التحكيم الدولي وسوف تكون كارثة إذا حصل أصحابها علي أحكام مشابهة‏,‏ خاصة أن بعضها يقع في نفس المنطقة وبنفس الظروف أن إحالة شخص واحد من المسئولين في قضية سياج للقضاء بتهمة الفساد تعطي مصر فرصة أخيرة لوقف هذا الحكم الذي تحول إلي فضيحة دولية بعد الحجز علي فرعي البنك الأهلي في لندن وبنك مصر في باريس‏,‏ وأرجو أن تنظر هيئة الدفاع عن الجانب المصري في هذا الاقتراح‏..‏



كان من الممكن التصالح في قضية سياج بتعويضات هزيلة‏,‏ لو أن الحكومة احترمت أحكام القضاء‏,‏ أو تعاملت مع المال العام بقدر أكبر من الأمانة والشفافية‏..‏


*‏ أعود إلي قضية نقل مدافن القاهرة إلي‏6‏ أكتوبر والخريطة التي أعدتها الحكومة لذلك‏..‏ لقد وصلتني رسائل كثيرة حول هذه القضية خاصة أن طرحها الآن قد بدا شيئـا غريبا أمام أزمات ومشكلات كثيرة في الإسكان والمياة والخدمات العامة‏..‏ بعض هذه الرسائل كان يتساءل كيف نتحدث عن‏1600‏ فدان ستتحول إلي حدائق عامة برغم أن مناطق كثيرة في قلب القاهرة لا تصل إليها مياه الشرب بكميات كافية‏..‏ وكيف سيتم منع الدفن في المدافن القديمة والحكومة لم تبدأ بعد في إنشاء المدافن الجديدة‏..‏ وعلي أي أساس سوف يتم اختيار المقابر‏..‏ وإذا كان الهدف هو إسعاد المصريين بهذه المساحة الخرافية من الحدائق لماذا لا تقام الحدائق وسط المدافن الحالية‏,‏ ويعاد تخطيطها علي أسس أفضل وأكمل‏..‏ إن إنشاء هذه المساحات الهائلة من الحدائق يحتاج إلي نفقات باهظة يصعب توفيرها في الظروف الاقتصادية الحالية‏..(‏ وإذا كان الحي أبقي من الميت‏)‏ كما يقولون فإن الأولي أن نقيم للمواطنين مساكن يعيشون فيها‏,‏وما لدينا من المقابر الآن يكفي‏..‏


*‏ هناك قضية أخيره توقفت عندها باستغراب شديد وهو نظام التعليم المفتوح الذي أقرته الحكومة‏..‏ هذا النظام بدأ يتسع ويتشعب ويتجاوز الكليات النظرية ويسمح للطالب الحاصل علي‏50%‏ في الثانوية العامة أن يدخل كليات الطب والإعلام وحتي الفنون الجميلة مقابل مصروفات تبلغ‏2000‏ جنيه سنويا‏..‏



والواضح أن هذا النظام سوف يعمم في جميع الجامعات بحيث يكون هناك مستويان من التعليم‏..‏ المستوي الأول للمتفوقين علميا والمستوي الثاني للقادرين ماديا‏..‏ وبرغم أن مجانية التعليم في مصر الآن في ذمة التاريخ‏..‏ وبرغم أن المتفوق لا يجد فرصة عمل أمام سياسة الوساطة وبرغم أن أوائل الجامعات يجلسون الآن في بيوتهم بلا عمل بينما الفاشلون والراسبون من أبناء كبار المسئولين يجلسون في مقدمة الصفوف إلا أن امتهان التميز والتفوق بهذه الصورة القاسية يمثل تحديا صارخـا لكل منظومة العدل الاجتماعي‏,‏ وتكافؤ الفرص ويضع نهاية حزينة لما بقي من الجامعات المصرية العريقة‏..‏ إن طالب التعليم المفتوح الذي يدرس في كلية الطب لن يدخل الكلية إلا مرات معدودة‏,‏ ولن يشارك في محاضراتها‏,‏ أو يشاهد معاملها وبعد ذلك يأخذ طريقه ليعبث في صحة المصريين الغلابة‏..‏



هذا القرار الذي يساوي بين طالب فاشل حصل علي‏50%‏ وطالب متميز حصل علي‏98%‏ يمثل إهدارا لكل مقومات التفوق في هذا المجتمع‏..‏ ويكفي ما يحدث في مواقع العمل المختلفة حيث استباحت أجهزة الدولة بكل مؤسساتها قيم العدالة والفرص المتكافئة وكل السياسات الخاطئة التي أطاحت بالكفاءات والقدرات المميزة أمام أسطورة أهل الثقة وأهل الخبرة‏..‏



إن أمام أصحاب هذه المجاميع الضعيفة من القادرين ماليا عشرات الجامعات الخاصة والأجنبية وإذا كانت الحكومة تريد توفير بعض الموارد المالية للجامعات الحكومية فلا ينبغي أن يكون ذلك أولي خطوات تدميرها‏,‏ وإذا كان ذلك يمثل تراجعـا مرحليا عن مجانية التعليم فليقل لنا المسئولون أين هذه المجانية أمام منظومة التعليم التي أفسدتها الدروس الخصوصية والتخبط والعشوائيات في برامج التعليم وأهدافه‏..‏ من حق الطالب المتفوق أن يحافظ علي مظاهر تميزه أمام أصحاب الملايين فلديهم أبواب كثيرة يذهبون إليها إلا إذا كان الهدف هو التخلص مما بقي من جامعات مصر التي كانت يوما‏..‏ جامعات عريقة‏..‏




..‏ ويبقي الشعر





تمهـل قليلا‏..‏

سيأتي الحياري جموعا إليك

وقـد يسألونك عن عاشقــين

أحـبا كثيرا وماتا كثيرا



وذابا مع الشـوق في دمعتين

كأنـا غدونا علـي الأفق بحرا

يطوف الحياة بلا ضفــتين

أتينـاك نـسعي ورغم الظـلام



أضأنـا الحياة علـي شمعتين

تمهـل قليلا‏..‏

كلانـا علـي موعد بالرحيل

وإن خادعتـنـا ضفاف المني



لماذا نـهاجـر مثل الطيور

ونهرب بالحلم في صمتنـا

يطاردنـا الخوف عند الممات

ويكبر كالحزن في مهدنا



لماذا نـطـارد من كل شيء

وننسي الأمان علي أرضنا

ويحملـنا اليأس خلف الحياة

فنكره كالموت أعمارنـا


'‏من قصيدة تمهل قليلا فإنك يوم سنة‏1983'‏

Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads