هوامش حرة
السودان.. وصفحة جديدة
يكتبها: فاروق جـــويـدة
كنت ومازلت أعتقد أن السودان ومصر كيان واحد ومستقبل واحد وأن أكبر خطايا ثورة يوليو كان تخليها عن السودان.. وأن تراجع أهمية السودان في خريطة العلاقات المصرية كان كارثة كبري.. وأن أولويات السياسة المصرية أخطأت كثيرا حين وضعت السودان في غير مكانه ووضعت بلدانا أخري في مواقع لا تستحقها.. وأن النحاس باشا كان علي حق عندما قال تقطع يدي ولا يفصل السودان عن مصر ولكن لا ينبغي الآن أن نبكي علي ما ضاع وأن نسعي لتعديل المسار ومواجهة الأخطاء..
ليس هناك مجال للحديث عن أهمية العلاقات المصرية السودانية فهذا حديث طال ولا يوجد مواطن مصري أو سوداني لا يدرك أهمية هذه العلاقة وضرورتها ولكن لغة الشعوب شيء ولغة القرار السياسي شيء آخر..
لا أريد أن أتحدث عن نيل يمثل شريانـا يربط البلدين ولا عن تداخل سكاني ينتشر بطول هذا النهر من جنوب السودان حتي الاسكندرية ولا أريد أن أتحدث عن مناطق سكانية في جنوب مصر وشمال السودان ذابت فيها الأنساب وتداخلت الأعراق لتصنع نسيجا واحدا.. هذا حديث يطول ولكن الجديد الآن أن العلاقات المصرية السودانية شهدت في الشهور الأخيرة تطورات سريعة ومتلاحقة علي المستوي الاقتصادي والإنتاجي وهذه التطورات تعكس حالة من الوعي في سلطة القرار ربما تكون فتحا جديدا لما كنا نحلم به من سنوات بعيدة مضت..
لقد جمعني لقاء مع السيدة فايزة أبو النجا وزيرة التعاون الدولي ووجدت لديها ملفـا كاملا أعاد لي الثقة في إمكانية أن نجد يوما علاقات مصرية سودانية تليق بتاريخ الشعبين ومصالحهما معا.. هذا الملف يحتوي علي زيارات ولقاءات جمعت بين رئيس الوزراء المصري د. أحمد نظيف ونائب رئيس الجمهورية السودانية السيد علي عثمان طه.. وخرجت هذه اللقاءات بعدد كبير من المشروعات الهامة..
أول هذا المشروعات مشروع لإنتاج اللحوم يكون مقره السودان بين وزارتي الدفاع في البلدين بشراكة القطاع الخاص يتضمن تربية وتسمين المواشي وإقامة المجازر الآلية فضلا عن إقامة عدد من المصانع المتوسطة لصناعات مكملة مثل صناعة الفراء والسماد والجلود والأعلاف.. وأنا أثق كثيرا في تلك المشروعات التي تتبناها قواتنا المسلحة حيث الدقة والجدية..
في مجال الزراعة يجري الآن إقامة مشروعات زراعية مشتركة لإنتاج المحاصيل الزيتية والذرة الصفراء والقمح بجانب زراعة القطن وزهرة الشمس وفول الصويا وسوف يبدأ هذا المشروع علي مساحة مليون فدان في ولاية الجزيرة وهي من أخصب الأراضي الزراعية في السودان..
من بين المشروعات التي تم الاتفاق عليها أيضا إنشاء شركة لإنتاج الوقود الحيوي كما تم وضع خطة لاعمار جنوب السودان بمشاركة مصرية وإنشاء محطات لتوليد الكهرباء في أربع مدن سودانية وهناك خطة أخري لإنشاء عدد من المشروعات الخدمية في مجالات التعليم والصحة والزراعة والموارد المائية هذا بجانب الجهد الكبير الذي قامت به الحكومة المصرية في منطقة دارفور..
هذه بعض روءس الموضوعات حول مشروعات تم الاتفاق عليها بين الحكومتين في القاهرة والخرطوم.. وفي تقديري أن هذا التطور في العلاقات المصرية السودانية جاء نتيجة طبيعية لما حدث للبلدين..
أن السودان يواجه مشاكل أمنية وسكانية معقدة في دارفور والجنوب وحتي المناطق الشمالية ليست بعيدة عن المشاكل والأزمات وهذه المشاكل فتحت أبوابا كثيرة للتدخلات الدولية في شئون السودان الداخلية ولعل ما حدث في دارفور أكبر تأكيد علي ذلك.. أن العالم كله يدرك حجم الموارد الاقتصادية المهمة في السودان من الأراضي الزراعية والثروة الحيوانية والمياه وأخيرا البترول في جنوب السودان..
علي جانب آخر تقف المشكلة السكانية في مصر في أول القائمة حيث تبتلع كل محاولات التنمية الاقتصادية منذ سنوات بعيدة وكم طالب العقلاء في البلدين بضرورة وضع سياسة للتعاون في مجال الزراعة والإنتاج الحيواني وكان مشروع الجزيرة الشهير في أول القائمة لإنتاج القمح ولكن للأسف الشديد تعثرت كل هذه المشروعات سنوات طويلة أمام خلافات سياسية عابرة أضاعت علي الشعبين المصري والسوداني فرصا كثيرة للتقدم والتنمية..
أن مشكلة الغذاء في العالم الآن تطرح شكلا جديدا علي العلاقات المصرية السودانية خاصة إذا كانت تسعي لتحقيق مصالح متبادلة بين البلدين لقد أخطأت مصر خطأ فادحا حينما أهملت الجنوب واتجهت إلي كل بلاد الدنيا ابتداء بالكويز مع إسرائيل وانتهاء باتفاقيات الشراكة مع دول أوروبا رغم أن هذه المشروعات والاتفاقات لم تقدم شيئـا للاقتصاد المصري.. أن منسوجات الكويز والشراكة الأوروبية التي استهلكت العلاقات الدولية المصرية لم تنجز شيئـا بل إنها أصبحت عبئـا علي الاقتصاد المصري في اتفاقات افتقدت الشفافية مثل اتفاق بيع الغاز لإسرائيل..
كان السودان هو الأولي والأحق بعلاقات اقتصادية قوية مع مصر.. لقد توقفت الصادرات المصرية للسودان سنوات طويلة رغم أن المواطن السوداني لم يكن يعرف شيئـا غير المنسوجات المصرية والدواء المصري والفن المصري والكتاب المصري.. وتبحث عن ذلك كله في أسواق السودان الآن ولا تجد منه شيئـا..
كانت مصر تستورد اللحوم السودانية بكميات كبيرة وبأسعار منخفضة ولكن سماسرة اللحوم في مصر كانوا يحاربون ذلك ومازالوا حتي الآن.. يمارسون نفس اللعبة.. كان السودان أحق بإنتاج القمح لحساب مصر وكانت مصر أحق باستيراد اللحوم من السودان ولكن الحديث عن الماضي لن يفيد الآن.. كل ما نرجوه أن تشهد العلاقات المصرية السودانية مرحلة جديدة تقوم علي الثقة وعلي تبادل المصالح الحقيقية بعيدا عن الشعارات والكلمات الرنانة..
في السودان موارد كثيرة متوقفة وفي مصر أيدي عاملة تبحث عن فرصة ولا مستقبل للسودان إلا من خلال مصر ولا حل لمشاكل مصر إلا بالاتجاه جنوبا.. لقد جربنا أن نعانق الأعداء.. فلنجرب مرة واحدة أن نصافح الأشقاء فهم الأجدر والأحق..
ويبقي الشعر
حجر عتيق فوق صدر النـيـل يبـكي في العراء..
حجر ولكن من جمود الصخر ينبت كبرياء
حجر ولكن في سواد الصخر قنديل أضاء
حجر يعلـمنـا مع الأيام درسا في الوفاء..
النهر يعرف حزن هذا الصامت المهموم
في زمن البلادة.. والتنطـع.. والغـباء..
حجر عتيق فوق صدر النـيـل يصرخ في العراء
قد جاء من أسوان يوما
كان يحمل سرها
كالنـور يمشي فوق شط النيل
يحكي قصة الآباء للأبنـاء..
في قلبه وهج وفي جنـبـيـه حلم واثق
وعلي الضفاف يسير في خـيلاء..
ما زال يذكـر لونه الطيني
في ركـب الملـوك وخلـفه
يجري الزمان وتـركع الأشياء..