هوامش حرة
حين يغيب الحساب..
يكتبها: فاروق جـــويـدة
ما حدث في الثانوية العامة هذا العام نتيجة طبيعية لمسلسل طويل اسمه الفساد اجتاح الشارع المصري بضراوة في السنوات الأخيرة.. والغريب في الامر أن هذا المسلسل الظاهرة لم يتوقف علي أجهزة حكومية مسئوله ولكنه استطاع أن يتسلل إلي جموع الناس في الشوارع والبيوت.. إنني أشعر أحيانـا أن هذا الفساد تسرب في مياه النيل وشربه المصريون وغرقوا فيه ولهذا فإن من بين ثمار ذلك ما حدث في امتحانات الثانوية العامة التي سقط فيها مئات الالاف من الضحايا الذين لم يستطيعوا شراء الامتحانات ولا توجد خلفهم مناصب كبري تحميهم من المسئولين وبعض أعضاء مجلسي الشعب والشوري وقادة الحزب الوطني الذين يجري التحقيق معهم الآن في هذه المصيبة..
كان ينبغي أن ندرك منذ زمن بعيد أن نظام التعليم في مصر قد وصل إلي أعلي نقطة في مسلسل الفساد.. ومن خلال نظرة بسيطة لمستوي الخريجين والمجاميع التي تجاوزت105% والحاصلين علي الشهادات العليا ولا يستطيع واحد منهم أن يقرأ خمسة سطور قراءة صحيحة.. كان ينبغي أن نعلم أن المؤسسة التعليمية في مصر قد اجتاحتها مواكب الفساد من كل جانب وعندما حاولنا الإصلاح دخلنا في سرداب طويل من التجارب لم يسفر عن شيء غير المزيد من التراجع والفشل.. لقد تحول أبناؤنا في السنوات الأخيرة إلي حقول تجارب مثل الفئران ما بين إلغاء السنة السادسة الابتدائية وإعادتها..
وما بين تغيير نظام الثانوية العامة بين مرحلتين أو مرحلة واحدة.. وتغيير المناهج عشرات المرات وتشوية أحداث التاريخ لأهداف سياسة وتشجيع الدروس الخصوصية وإنشاء التعليم الخاص ابتداء بمراحله الأولي وانتهاء بالجامعات وكيف تحول إلي مشروعات تجارية استثمارية لا تقل خطرا عن تجارة الحديد ومضاربات الأسمدة والاسمنت في أسواق البناء.. لقد تداخلت المشاكل والأزمات في بعضها وترتب علي ذلك كله سقوط منظومة القيم بين السلطة والشعب فكلاهما أصبح شريكـا في هذه الجريمة وكان من أبرز مظاهرها غياب العدالة وتكافؤ الفرص وضياع الحقوق بحيث أصبح الصوت الأعلي لصاحب منصب أو مال.. أما الذين لا يملكون المال ولا يحتلون المناصب فلا مكان لهم وسط هذا الزحام ابتداء بزحام رغيف الخبز وانتهاء بزحام الواقفين في طابور الثانوية العامة..
في قضية الثانوية العامة وتسريب الامتحانات ظهرت مجموعة مؤشرات منها.. أن عددا من كبار المسئولين في مواقع هامة وخطيرة أقاموا لأبناءهم لجنة خاصة يؤدون فيها الامتحانات.. وهذا ليس جديدا فقد كنا نعلم أن أبناء كبار المسئولين في الأقاليم يلقون معاملة خاصة بل أن بعض العائلات كانت ترسل أبناءها من المدن الكبري لتأدية الامتحانات في المحافظات حيث يلقون معاملة خاصة في الغش وتسريب الامتحانات وتصحيح الأوراق والنتائج النهائية..
فإذا كان المسئولون يفعلون ذلك مع أبناءهم في امتحانات الثانوية العامة فماذا ننتظر منهم بعد ذلك.. إن هؤلاء الأبناء يدخلون الجامعات بلا أدني جهد.. وينجحون فيها بلا متاعب.. ويعينون في أرقي المناصب دون وجه حق.. فأصبح منهم الآن أستاذا في الجامعة التي يعمل فيها والده وأصبح قاضيا في نفس المحكمة التي يعمل فيها والده.. وأصبح طبيبا لأنه ورث المهنة عن والده وأصبح نجما تلفزيونيا بدعم من والده وأصبح ممثلا فنانـا سيرا علي خطي والده.. إن الذي يحكم العمل في مصر الآن ليست معايير الكفاءة أو التميز ولكنها إعلام وراثة يتسلمه الابن من الأب حيا وليس ميتـا..
ولنا أن نتصور مصر المستقبل في ظل هذه التركيبة الغريبة.. طالب حصل علي الثانوية العامة بالتزوير والتدليس والغش.. وأصبح من أوائل الخريجين ودخل كلية من كليات القمة فأصبح طبيبا مزيفـا.. أو مهندسا نصابا.. أو سفيرا أو وزيرا وتفوق في الكلية وأصبح أستاذا يعلم الأجيال أو قاضيا يحكم بين الناس لنا أن نتصور أحوال هذا البلد بهذه الصورة الكئيبة.. في الجامعات أبناء أساتذة كانوا ينجحون بتقدير مقبول.. وفي القضاء أبناء مستشارين قضوا سنوات في فصول الدراسة يرسبون..
ورغم ذلك تولوا أعلي المناصب بالوراثة وليس بالعلم.. هناك طلابا حصلوا علي الثانوية العامة من القسم الأدبي بلا مجموع والتحقوا بكليات' مضروبة' للطب في الخارج وأصبحوا الآن أساتذة في كليات الطب المصرية.. إن ما حدث في الثانوية العامة هذا العام لم يكن أمرا جديدا فقد كانت الامتحانات تتسرب وتباع.. وكانت عمليات التصحيح تشهد تلاعبا خطيرا بالنسبة لأبناء المسئولين الكبار.. وإذا فشلت هذه المحاولات في التعليم فهي لم تفشل في الحصول علي الوظائف المميزة.. فلا يوجد الآن في مصر شاب متميز جاد يحصل علي فرصته ويكافؤ علي تفوقه وإذا حدث ذلك فهي حالات فردية قليلة للغاية وتدخل في باب المعجزات..
كنا نتحدث عن فساد الأجهزة الإدراية في الدولة ابتداء بما حدث في البنوك من ضياع مدخرات المواطنين وانتهاء بعشرات من قضايا الفساد التي حكمت فيها المحاكم وتصدي لها القضاء في الأغذية والأدوية والأراضي ونهب القطاع العام وغير ذلك كثير ولكن ماذا عن فساد ضمير المواطن المصري.. إن المسئول الكبير الذي ارتضي أن يسرق الامتحانات لأبنه هو مواطن قبل أن يكون مسئولا هذا النموذج المريض أصبح هو القاعدة وليس الاستثناء فالذين اشتروا الامتحانات والذين باعوها والذين سرقوها من كواليس الوزارة كل هؤلاء مواطنون مصريون فكيف استشري هذا الداء.. داء الفساد بهذه الدرجة المخيفة.. ومن الذي يحاكم هؤلاء وهم أصحاب سلطة وأصحاب مال وأصحاب قرار..
إن قضايا الفساد لا يمكن أن تتجزأ فالفساد في حديد التسليح والأسمنت والسماد ومشروعات الخصخصة ونهب أموال البنوك هو نفس الفساد في تسريب الامتحانات وانتشار ظواهر الغش وهدم منظومة تكافؤ الفرص في المجتمعات.. لو أن شخصا واحدا أدين.. لو أن وزيرا واحدا أقيل.. لو أن محتكرا واحدا لقي عقابه.. لو أن مزورا أو لصا أو صاحب منصب وجد من يردعه.. لو حدث ذلك لما وجدنا هذا الكم المخيف من الجرائم التي تسدعين الشمس وتكتب عنها كل يوم الصحف والمجلات..
ما حدث في الثانوية العامة هذا العام شهادة وفاة متأخرة لنظام تعليمي فاشل ومسئولين بلا ضمائر.. ومجتمع بلا حساب.
ويبقي الشعر
حجر من الزمن القـديم
علي ضفـاف النـيـل يجلس في بهاء
لمحوه عند السد يحرس ماءه
وجدوه في الهرم الكـبير
يطل في شمم وينـظر في إباء
لمحوه يوما..
كان يدعو للصلاة علي قباب القـدس
كان يقيم مئذنة تـكـبر فوق سد الأولياء
لمحوه في القـدس السجينة يرجم السفهاء..
قد كان يركـض خلفهم مثل الجواد
يطارد الزمن الرديء يصيح فوق القـدس
يا الله.. أنت الحق.. أنـت العدل
أنت الأمن فينـا والرجاء
لا شيء غيرك يوقف الطـوفان
هانت في أيادي الرجس أرض الأنبياء
حجر عتيق من زمان النـبـل
يلعن كل من باعوا شموخ النـهر
في سوق البـغاء