هوامش حرة
بين الدولة وصاحبة الجلالة
يكتبها: فاروق جـــويـدة
لم يكن زواج السلطة مع رأس المال هو الخطأ الوحيد الذي دفعنا ثمنه في السنوات الأخيرة ولكن هناك زواجا آخر باطلا وغير شرعي هو زواج الصحافة مع رأس المال.. وما بين السلطة ورأس المال والصحافة يمكن لنا أن نضع أيدينا علي كثير من الظواهر السلبية التي اجتاحت المجتمع المصري.. وقد ترتب علي هذا الزواج مناخ سياسي افتقد الشفافية وأزمات اقتصادية لم يكن من الصعب معرفة أسبابها ورصد نتائجها وكان التحول في منظومة الصحافة المصرية أخطر هذه النتائج خاصة في تلك الجوانب الأخلاقية التي كشفت مدي التراجع الذي أصاب صحافة مصر..
استطاع رأس المال أن يقلب موازين الصحافة المصرية التي قامت علي مجموعة من الثوابت والتقاليد التي ارتكزت إلي تراث أخلاقي ومهني وفكري امتد عشرات السنين. لا ننكر أن رأس المال يلعب دورا مهما وخطيرا في صناعة الصحافة الحديثة ولكن رأس المال لم يكن يوما هو العنصر الاساسي الوحيد, ولكننا في السنوات الأخيرة وجدناه يقفز إلي مقدمة العناصر بل أنه أطاح بكل المقومات الأخري وجعل من نفسه سيدا علي صاحبة الجلالة.. ولم يحدث ذلك فقط في الصحف المستقلة التي تبحث عن مصادر للتمويل أو الصحف الحزبية التي تعتمد علي إعانة الحكومة للحزب ولكنه اجتاح الصحف القومية وكان سببا في إفساد مجموعة القيم التي قام عليها تاريخ الصحافة المصرية..
كان تقييم الصحيفة يخضع عادة لمقاييس أخلاقية وفكرية ومهنية وكان التنافس بين الصحف يسعي إلي تأكيد هذه القيم وكان الصراع بين المؤسسات الصحفية لاجتذاب كاتب كبير أو طرح وجهة نظر جادة أو إثارة المعارك الفكرية والثقافية.. وحتي في تلك الأوقات التي سبق فيها الولاء الكفاءة وأهل الثقة أهل الخبرة بقيت هذه التقاليد تمثل أهم مقومات الصحافة المصرية.. وفي السنوات العجاف في عمر الصحافة المصرية رأينا صورا جديدة كانت حصادا طبيعيا لهذا الزواج الباطل بين المال والصحافة..
* وجدنا في مكاتب السادة الوزراء وكبار المسئولين منصبا جديدا هو المستشار الصحفي للسيد الوزير وهذا المستشار يحصل علي آلاف الجنيهات من ميزانية الوزارة ويكون عمله الوحيد هو تجميل صورة السيد الوزير ونشر أخباره وصوره وتصريحاته.. بل وصل الأمر إلي أن هذا المستشار يقود حملات صحفيه للدفاع عن خطايا الوزير وتبرير أخطائه.. وأنا أتصور أن يكون هذا المنصب وظيفة مستقلة وعلي الصحفي في هذه الحالة أن يترك موقعه في الجريدة التي يعمل فيها ويمارس عمله كمستشار للسيد الوزير وهذا حقه ولكن هذا الخلط ترتبت عليه آثار سيئة للغاية وكان بداية إفساد العمل الصحفي خاصة أن بعض الوزراء لم يكن يكتفي بمستشار واحد من صحيفة واحدة.. بل كان يبدل فيهم كل يوم.. ولم يكن الوزير يريد صحافة يسترشد بها وتضيء له الطريق ولكنه كان يريد أبواقا حتي ولو دفع لها مئات الآلاف من الجنيهات لأنه في النهاية لا يدفع من جيبه..
والأخطر من ذلك أن عددا من الصحفيين دخلوا من هذا الطريق في مجالات البيزنس وعقد الصفقات والحصول علي الأراضي وجمع الثروة والتوكيلات وقد شجع المسئولون هذا التوجه سعيا وراء إسكات الصحافة أو استخدامها بصورة تخدم مصالح السلطة.. كان شراء الصحافة أولي الخطايا التي ارتكبتها الدولة في حق الصحافة وحق نفسها ودفعت ثمنها بعد ذلك عندما وجدت أن هناك من يدفع أكثر منها وإن كانت هي صاحبة المبادرة الأولي في شراء الصحفيين..
* كان الخطأ الثاني هو خلط الأوراق في العمل الصحفي بين التحرير والإعلان بحيث أصبح المحرر يفضل أن يكون بوقـا للمسئول سواء كان مستشارا له يتابع أخباره أو وصيا علي إعلانات وزارته.. وأمام تدفق الإعلانات ركعت أسماء كثيرة وكبيرة في بلاط صاحبة الجلالة ووجدنا المحرر الفاشل الذي لا يعرف كيف يكتب خبرا وقد تحول إلي رأسمالي كبير يحصل علي الملايين من الإعلانات كان الكتاب الكبار يحصلون علي راتب لا يتجاوز2000 جنيه في الشهر ومندوب الإعلانات الذي يحمل لقب محرر يحصل علي100 ألف جنيه في الشهر هذا الزواج الباطل بين التحرير والإعلانات كان من أهم الأسباب التي أفسدت العمل الصحفي.. وللأسف الشديد أن الإعلانات في أحيان كثيرة تنشر كصفحات تحريرية رغم أن هذا خطأ أخلاقي تحاسب عليه الجريدة وقد ترتب علي ذلك أن الكثير من شباب الصحافة لم يكن يهمهم الاسم والتاريخ والموقف كما فعلت أجيال سابقة ولكن جمع المال والتجارة وأعمال السمسرة أصبحت بديلا مقنعا عن العمل الصحفي الذي يستهلك العمر ولا يحقق العائد المادي المناسب.. وللأسف الشديد أن معظم الصحف القومية شجعت هذا الزواج الباطل سعيا للحصول علي أكبر جزء من كعكة الإعلانات الحكومية.. وكان هذا هو الخطأ الثاني الذي تتحمل مسئوليته الدولة في إفساد الصحافة المصرية خاصة انه أفسد منظومة الأحلام في حياة الصحفيين والصراع بين المال والدور أو بين نجومية الفكر ونجومية الثراء وللأسف الشديد أن منظومة الثراء كانت هي الأقوي من حيث التأثير والنتائج..
* كان الخطأ الثالث الذي ارتكبته الدولة في حق الصحافة هو قواعد اختيار القيادات الصحفية في المؤسسات القومية وقد جنحت عمليات الاختيار في حالات كثيرة بل أن بقاء قيادات صحفية في مواقعها سنوات طويلة قد ضيع الفرصة علي أجيال كاملة وجدت نفسها خارج السياق بعد أن هرب منها العمر وتسربت من بين أيديها السنون.. وهنا لا نستطيع أن نتجاهل هذا الداء القديم في عمليات الاختيار بين أهل الثقة وأهل الخبرة.. وقد انعكس ذلك علي الكثير مما يكتبه بعض المسئولين في الصحف القومية حيث الإسفاف واللغة الهابطة التي تجاوزت أحيانـا ما يكتب في الصحف المستقلة.. ولم تعد المنافسة في القضايا والفكر والرأي ولكنها تحولت إلي صراع دائم من يكون أكثر إسفافـا..
ولابد أن نعترف أن هناك أجيالا صحفية كاملة سقطت سهوا في مسيرة الصحافة المصرية ومن هذه الأجيال من انسحب من الساحة تماما ومنها من قاوم وفرض نفسه رغم صعوبة الظروف وأصر علي اختياراته حتي ولو دفع الثمن.. ولكن هناك فريقا آخر هرب إلي الصحف المستقلة التي بدأت في الظهور, وهذا الجيل كان أكثر شراسة وفهما لقواعد اللعبة.. وربما وجد في ذلك فرصة لتصفية بعض الحسابات مع مسلمات خاطئة في بلاط صاحبة الجلالة وعلاقتها بالدولة ولاشك أن هذا الجيل كان أكثر تحديا من أجيال أخري صمتت أو هربت أو قاومت.. وأنا هنا لا أستطيع أن أبريء الدولة من هذا الواقع الكئيب الذي تعاني منه الصحافة المصرية خاصة أنها شاركت في الكثير من الظواهر السلبية التي اجتاحت بلاط صاحبة الجلالة..
.. ويبقي الشعر
تـعالـي أعانــق فيـــك اللـيــــالــــي
فـلـم يبق للـحن غير الصــدي
وآه من الحزن ضيفـا ثــــــقيــــلا
تـحكـم في العمر واستعبــــــدا
فهيا لنـلـقيـه خــلـــــف الزمــــــان
فـقـد آن للقلـب أن يسعــــــــدا
إذا كـنـت قد عشت عمري ضلالا
فبين يديك عرفـت الهـــــــــدي
هو الدهر يبني قـصور الرمــــــال
ويهدم بالموت.. ما شيـــــــــدا
تـعالي نـشــــم رحيــــــق السنيـــن
فـسوف نـراه رمادا غـــــــــــدا
هو العام يسكــب دمـــــع الـــوداع
تـعالـي نـمد إليــــــــه اليــــــــدا
ولا تـسألي اللــحن كـيف انتـهــــي
ولا تـسأليه.. لماذا ابــتــــــــــدا
نحلـق كالطـير بيـــن الأمــــانــــــي
فلا تـسألي الطـير عما شــــــدا
فمهما العصافير طــــارت بعيـــــدا
سيبقـي التـراب لـها سيـــــــــدا
مضي العام منـا تعالــــي نـغـنـــــي
فقبلك عمري.. ما غـــــــــردا
'من قصيدة أريدك عمري سنه1990'