هوامش حرة
مذابح غزة.. وأسطورة السلام
يكتبها: فاروق جـــويـدة
أعادت مذابح غزة للمصريين صور الماضي القريب وطافت في عيونهم آلاف الصور المعلقة علي جدران بيوتهم لشهداء كانوا ضحايا الوحشية الإسرائيلية سنوات وسنوات.. عادت صور طائرات الفانتوم وهي تلقي النابالم علي مدارس الأطفال الصغار في بحر البقر والوحشية التي تعامل بها الجنود الإسرائيليون مع الأسري المصريين في سيناء في حرب67.. ورغم أن هذه الذكريات الأليمة مازالت تسكن خيال الملايين من المصريين الذين شاهدوا كل هذه المآسي فإنها غابت عن ذاكرة أجيال أخري لم تعرف شيئـا من ذلك كله, خاصة هؤلاء الذين ولدوا بعد حرب أكتوبر وعاشوا أكذوبة السلام ما بين الأغاني والأحلام..
أفاق الجميع علي مأساة غزة, حيث تفصلها عن حدود مصر أمتار معدودة وحيث تتواصل البيوت والناس والأماكن في نسيج إنساني وتاريخي أمتد مئات السنين بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية.. بين سكان غزة وسكان سيناء.. بين أهالي العريش وسكان الحدود, خاصة أن غزة بقيت لسنوات طويلة تحت الإدارة المصرية بعد احتلال فلسطين وقيام الدولة العبرية في عام1948..
وسط سحابات الدخان الكثيفة وأصوات المدافع وأزيز الطائرات وصواريخ الأباتشي وقنابل الفوسفور وآلاف الصور للضحايا علي الشاشات, دار هذا السؤال في رأسي هل تحقق السلام بالفعل بين مصر وإسرائيل بعد ثلاثين عاما من توقيع اتفاقية السلام في كامب ديفيد.. وهل استفادت مصر بالفعل من هذا السلام وهل انعكس ذلك علي حياة المصريين أمنـا ورخاء واستقرارا وحياة كريمة؟..
أن السلام يرتبط عادة في حياة الشعوب بما يتحقق لهم من جوانب الرخاء والبناء والتنمية, فهل يمكن لنا أن نقول إن هذا السلام حقق لمصر شيئـا من ذلك؟.. لا يستطيع أحد أن يقول أنه ضد السلام الحقيقي لأن الإنسان بطبيعته وتكوينه يسعي إلي الأمن ويرفض كل شيء يفتح أبواب الصراع والموت والدمار.. ولكن إذا كانت هناك رغبات صادقة في السلام فينبغي أن يكون ذلك معادلة بين طرفين.. وطريقا يسلكه اثنان أما أن يجيء من طرف واحد فإنه يصبح عبئـا ثقيلا ومأساة كبري..
عندما ذهب الرئيس الراحل أنور السادات إلي القدس كان الرجل يحمل انتصارا تاريخيا غير مسبوق فلم يكن يسعي وراء سلام مهزوم ولكنه كان يحمل سلام المنتصر.. وقد كنت واحدا من الملايين الذين عجزوا عن فهم هذه الزيارة في ذلك الوقت ولكن الأحداث سبقت قدرتنا علي الخيال والتخيل ووجدنا أنفسنا شعبا وقيادة ووطنـا في واقع جديد شطب في لحظة كل صور الماضي وكأن الشعوب آلة تصوير سينمائي حذفت من الذاكرة كل ما تحقق من إنجازات العبور والتضحيات والدماء والكرامة.. يومها اشتبكت مع كاتبنا الكبير الراحل د.حسين فوزي عندما زار جامعة حيفا وأعلن فيها أن مصر ليست عربية وأنها تدخل في نطاق دول وثقافة البحر المتوسط وأنها أقرب إلي أوروبا منها للعرب.. كتبت مقالا في الأهرام وقلت إن مصر لم تستبدل عروبتها بسلام مع إسرائيل.. وفي أحدي خطبه أثار الرئيس السادات قضية عروبة مصر ودافع عنها قائلا أن أم العرب' هاجر' مصرية وإن عروبة مصر قضية ينبغي ألا نختلف عليها أو يساوم عليها أحد..
لم أقتنع طوال ثلاثين عاما بقضية السلام مع إسرائيل ولم يتغير موقفي حتي كتابة هذه السطور وعندي عشرات الحيثيات التي تبرر هذا الموقف وإن كانت الأيام قد أكدت صدق قناعاتي وأنني كنت علي حق حين آمنت بأن إسرائيل قيادة وشعبا وأحزابا لا تؤمن بالسلام..
لم تكن أحداث غزة الأخيرة هي أولي هذه الحيثيات بل كانت آخرها فقد سبقتها مآس كثيرة لحقت بالعالم العربي كله منذ كامب ديفيد وحتي الآن.. لقد اجتاح شارون التراب اللبناني وأحتل الجنوب ووصل إلي بيروت ونصب أمام العالم كله مذابح صابرا وشاتيلا.. وخرجت الطائرات الإسرائيلية ودمرت المفاعل النووي العراقي بعد ساعات من لقاء بين السادات وبيجن.. وشارك الطيران الإسرائيلي بصورة أو أخري في حرب الخليج.. وفي سقوط بغداد وهاجمت إسرائيل جنوب لبنان وارتكبت أكثر من مذبحة في قانا في صيف عام..2006 وأخيرا اجتاح الجيش الإسرائيلي غزة وحارب الفلسطينيين وطاردهم حتي حدود سيناء.. كل هذه الدلائل تؤكد أن إسرائيل لم تؤمن بالسلام ولم تسع إليه لأنه يتناقض تماما مع مكونات وثوابت وقناعات الدولة العبرية وأحلامها التوسعية..
علي الجانب الآخر يمكن لنا أن نطرح هذا السؤال: هل كانت مصر الشعب والناس والحياة أفضل في ظل السلام.. وأين مشروعات البناء والوعود البراقة التي ارتبطت في فترة من الفترات بأحلام السلام.. أين فيلا لكل مواطن.. وأين عمل لكل شاب.. وأين الأمن والاستقرار علي حدودنا ؟ قد يري البعض أن هناك إنجازات تحققت في البنية الأساسية في الطرق والمواصلات والكباري والتليفونات والمدن الجديدة والمنتجعات ونحن لا ننكر ذلك ولا ننفيه.. ولكن هذه الأشياء جميعها كانت تصب في اتجاه الطبقة الجديدة التي ظهرت في ظل هذه المنظومة إنها لم تتجاوز حدود قشرة صغيرة في المجتمع بينما بقيت الملايين تعاني أزمات الحياة اليومية في المياه والمواصلات والأسعار والبطالة وذلك التفاوت الرهيب في مستويات الدخول..
* لابد أن نعترف بأن السلام مع إسرائيل أوجد طبقة جديدة هي التي استفادت من توزيع الأراضي.. وإقامة المشروعات السياحية علي الشريط الفيروزي في شواطيء سيناء وهي التي سكنت منتجعات وفيلات الملايين بل إنها الطبقة التي ارتبطت بمصالح اقتصادية واضحة وصريحة مع مؤسسات إسرائيلية في أكثر من مجال.. ومن هذه الطبقة أيضا خرجت نخبة من منظري السلام ارتبطت بعلاقات مريبة مع إسرائيل ومنها انتقلت إلي مواقع أخري في السفارات الأجنبية والمعونات والمؤسسات المدنية وطرحت علي المجتمع أفكارا وسلوكيات جديدة أغرقت أجيالا كاملة في مستنقعات التحلل والإسفاف والفكر المشبوه.. لا يمكن لنا أن نفصل ذلك كله عن تلك الظواهر السلوكية التي اجتاحت شبابنا ابتداء بالمخدرات وانتهاء بالفنون الهابطة.. وهنا خرجت أجيال لا تدرك معني الانتماء أو الوطن أو الأمن القومي وكل هذه المصطلحات التي أدخلها الحواريون مع زفة السلام متاحف التاريخ..
* في فترة وجيزة حدثت تغييرات جوهرية في أجيال مصر من الشباب, وفي ظل ما يسمي ثقافة السلام وجدنا مفاهيم جديدة اختلفت معها منظومة القيم والسلوك التي كانت تمثل أهم مصادر الحماية للمجتمع المصري في ثقافته وفكره وسلوكياته وثوابته.. تحللت تماما الطبقة المتوسطة وانتهي دورها وظهرت طبقة جديدة من أثرياء السلام الذين جنوا كل الثمار بما في ذلك دماء الشهداء الذين ماتوا في سبيل هذا الوطن..
* ومع اختلال منظومة القيم اختلفت سلوكيات الشارع المصري, فانتشرت الجريمة بصورة غير مسبوقة وظهرت أنواع غريبة من الجرائم التي لم يعرفها المصريون من قبل.. وفي الوقت الذي تصورنا فيه أن السلام سوف يحقق لنا قدرا أكبر من الأمن والاستقرار زادت أعباء الأمن أمام مسئوليات جديدة وظواهر غريبة تسللت إلي المجتمع المصري وغيرت كل الثوابت فيه..
* علي جانب آخر كان هناك التحول الاقتصادي الذي شهدته مصر في ظل سياسة السلام.. في البداية كانت هناك وعود كثيرة بمشروعات ضخمة لإعادة بناء مصر في ظل مشروع يشبه مشروع مارشال في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.. ولم تكن هذه الوعود إلا حبرا علي ورق.. لم يقدم الغرب لمصر ما وعد به من معونات ولم تتجاوز المعونة الأمريكية حدود الملياري دولار التي وعدت بها في كامب ديفيد وكانت تتخذها أحيانـا وسيلة ضغط علي القرار المصري.. واقتصر الأمر مع إسرائيل علي صفقات الكويز من المنسوجات والملابس الداخلية بل إن إسرائيل خرجت بواحدة من أكبر صفقاتها وهي صفقة الغاز الشهيرة واقتحمت إسرائيل حياة المصريين بضراوة ابتداء بمراكز الأبحاث والمعلومات وانتهاء بالشارع المصري وما يحدث فيه..
* وكان أمرا غريبا أن تتوقف التنمية في سيناء بعد الإعلان عن خطة ضخمة ببلايين الجنيهات في بداية الثمانينيات.. وبقيت ترعة السلام دون استخدام ربما تنتظر وصولها إلي إسرائيل بمياه النيل في يوم قريب.. ولم تكن التنمية فقط هي التي غابت عن سيناء المحررة ولكن القوات المصرية لم تتجاوز750 جنديا علي حدودنا مع إسرائيل وهذا يعني أن تبقي سيناء بلا تنمية وبلا حماية ويدخلها الإسرائيليون بالبطاقات الشخصية في اي وقت وأي زمان..
وبجانب هذا كله هناك حقائق أخري: في ظل السلام مع إسرائيل وصل حجم ديون مصر كما جاء في آخر تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات عن ميزانية عام2007\2008 مبلغ847.3 مليار جنيه منها666.9 مليار جنيه للدين الداخلي و33.9 مليار دولار للدين الخارجي وهي تعادل180.4 مليار جنيه مصري حدث هذا رغم البلايين التي سقطت من هذه الديون بعد مشاركه مصر في حرب الخليج وتحرير الكويت.. وابتلعت الأزمات الاقتصادية والفساد بلايين أخري في قضايا البنوك والاستيلاء علي أراضي الشعب ودخل قناة السويس.. وفي ثلاثين عاما, هي عمر السلام مع إسرائيل لا يستطيع أحد أن يقول لنا أين ذهبت كل هذه الأموال وماذا فعلت بها الدولة المصرية..
هذه الأموال بإختصار شديد كانت علي التوالي:847 مليار جنيه ديونـا قائمة حتي الآن.. وما يقرب من50 مليار دولار دخل قناة السويس وأكثر من50 مليار دولار معونات خارجية.. وأكثر من40 مليار دولار ما بين دخل السياحة ومدخرات المصريين في الخارج.. ولا أحد يعرف أين ذهبت قيمة مليون فدان من الأراضي الزراعية تحولت إلي أراضي بناء.. بجانب ملايين الأفدنة التي حصل عليها رجال الأعمال وأبناء الطبقة الجديدة.. يضاف لذلك60 مليار جنيه هي أقل التقديرات للخسائر في قطاع البنوك ما بين قروض ضاعت وتسهيلات سقطت وأموال هرب أصحابها..
لا يستطيع أحد أن يسأل الحكومات السابقة أو الحكومة الحالية عن كل هذه الأموال وأين ذهبت, خاصة إذا أضفنا لذلك كله50 مليار جنيه هي حصيلة برامج الخصخصة.. ولن نسأل عن أموال التأمينات وماذا بقي منها بعد كل خسائرها في البورصة.. ولن نسأل أيضا عن ديون مؤسسات الدولة لدي البنوك خاصة بنك الاستثمار القومي.. وقبل هذا كله لن نسأل عن ممتلكات السادة المسئولين من الوزراء ورؤساء الوزارات وكبار المسئولين وما دخل حساباتهم في ظل ثقافة السلام.. وأيام السلام.. وجرائم السلام..
إذا أضفنا لذلك كله خسائر مصر الدور والمسئولية والمكانة.. وكيف تراجع هذا الدور أمام محاولات إسرائيل الدائمة تشويه صورة مصر وتغيير ملامحها وقد ساعد علي ذلك دور أمريكي مشبوه كان يسعي دائما طوال حكم الرئيس بوش إلي تحجيم الدور المصري وتشجيع ظهور مراكز نفوذ أخري في المنطقة حتي وإن تعارض ذلك مع ثوابت الأشياء والتاريخ. لقد تهمش دور مصر السياسي في ظل منظومة جديدة فرضتها أمريكا مع إسرائيل وقامت في الأساس علي ضرورة خلع مصر من محيطها العربي.. وواكب ذلك تراجع الدور الثقافي لمصر وكل الشواهد تؤكد ذلك الآن وبعد ذلك كله فقد اختفي الدور المصري تماما في أحداث كبري علي الساحة العربية وتجسد ذلك في احتلال العراق.. واحداث لبنان.. وما جري في جنوب السودان.. ومأساة دارفور.. وتقسيم الصومال.. بل إن يد إسرائيل امتدت إلي منابع النيل تعبث فيها وتدبر المؤامرات.. كل هذه الشواهد كانت علي حساب الدور المصري تحت دعاوي السلام الذي لم يتحقق وكانت آخر فصوله ما حدث في غزة..
إن إسرائيل تسعي الآن بقوتها العسكرية وأساليب البطش والدمار التي تجيدها إلي أن تصبح القوة العظمي في المنطقة وكل خطوة تخطوها إسرائيل نحو هذا الهدف تسحب شيئـا من رصيد مصر ودورها.. وسوف تبذل إسرائيل كل ما في وسعها لتهميش الدور المصري حتي يتلاشي.. وعندما تقرر أمريكا أن تواجه مشاكلها وأزماتها في الداخل فسوف تترك لإسرائيل مسئولية إدارة شئون الشرق الأوسط وهذا ما تنتظره إسرائيل في ظل منظومة السلام العاجز..
إن ثقتنا في جيش مصر وقدرته علي حماية ترابها ثقة لا حدود لها ولكن ما يؤرقني كثيرا هو حالة التفكك والانفلات التي أصابت حياتنا وجعلت منا صورة مشوهة من ماض عريق..
ليس معني ذلك أن نعلن الحرب غذا أو نلغي اتفاقيات السلام ولكن المطلوب أن يكون لدينا الكثير من الحذر والإحساس بالخطر وأن ندرك في كل الحالات أن بناء مصر من الداخل هو مصدر حمايتها الحقيقي وأننا مازلنا نتعامل مع عدو لا يؤتمن ومغتصب لا حدود لأطماعه.
fgoweda@ahram.org.eg
.. ويبقي الشعر
مت صامدا
لا شيء يغني الناس عن أوطانهم
حتي ولو ملكوا قصور الأرض
جاها.. أو سكن
كل الذي نبغيه من أوطاننا
أن نستريح علي ثراها
حين يؤوينا الكفن..
بعض الخيول يموت حزنـا
إن تغرب لحظة
يغدو سجين المحبسين
فلا أمان.. ولا وطن
أنت الشهيد فدا لأرضك لا تمت
من غير ثأر.. أو قصاص.. أو ثمن
أغمض عيونـك فوق عين القدس
واصرخ دائما
إن كل فيها العزم يوما أو وهن
لا تأتـمن
من خادعوك.. وشردوك.. وضللوك
وضيعوا الأوطان في سوق المحن..
كن صيحة للحق
في الزمن الملوث بالدمامة والعفن
لا تخش كـهان الزمان الوغـد إن عروشهم
صارت قبورا
فاترك التاريخ يحكم والزمن
'من قصيدة إلي آخر شهداء الانتفاضة سنة2003'