هوامش حرة
ليس دفاعـا عن الأهرام
يكتبها: فاروق جـــويـدة
بقيت عندنا بعض الرموز وبعض المؤسسات وقليل من الثوابت التي ينبغي أن نحرص عليها.. لأنها آخر ما بقي من الحصون أمام متغيرات حادة وقاسية تبدلت معها الأشياء والأخلاق والبشر, وفي مقدمة هذه المؤسسات.. الأهرام.. المؤسسة الصحفية العريقة..
أشعر بإستياء شديد من القرار الذي اتخذه مجلس الشوري بضم بعض المؤسسات الصحفية الخاسرة إلي مؤسسة الأهرام.. ينبغي دراسة هذا القرار بصورة أعمق لأن القضية ليست تحميل مؤسسة كبري خسائر تحققت في مشوار طويل من الانهيارات والإدارات الفاشلة في مؤسسات الدولة.. إن هذا القرار المتسرع يحتاج إلي إعادة النظر وأرجو من السيد صفوت الشريف رئيس مجلس الشوري أن يكلف المسئولين في المجلس بإعداد دراسة شاملة للآثار التي يمكن أن تترتب عليه لأن إنقاذ مجلة هنا أو هناك لا ينبغي أن يكون علي حساب مؤسسة عريقة مثل الأهرام لها تاريخـها ودورها وتأثيرها, وينبغي أن تحافظ الدولة علي ذلك كله..
أرجو ألا يغضب مني أحد إذا تناولت هذه القضية بقدر من الصراحة, فأنا أعتقد وعندي من الدلائل الكثير أن مؤسسات الدولة سواء كانت الحكومة أو المؤسسات التشريعية لا تدرك القيمة الحقيقية لجريدة عريقة أسمها الأهرام.. ولو كانت هناك أجهزة مسئولة تدرك هذه الأهمية وهذا الدور ما تعرض الأهرام لكل هذه الأزمات المتلاحقة التي عاشها وعاني منها سنوات طويلة.. إن هذه المؤسسات لا تدرك أهمية الأهرام الكيان.. والدور.. والرسالة.. والتاريخ.. لو وضعت الحكومة المصرية مئات الملايين من الجنيهات وأقامت عشرات المنشآت لا تستطيع اليوم أن تصدر صحيفة في قيمة أو أهمية, أو تأثير الأهرام, ولكن للأسف الشديد إننا نتعامل مع هذا الكيان العريق باستخفاف شديد..
نحن أمام مؤسسة عمرها الزمني يتجاوز130 عاما.. وإذا توافرت المطابع والمباني والمنشآت وحتي البشر من أين سيجيء التاريخ.. والزمن والتأثير والمصداقية والثقة.. أن الصحف العالمية التي تشارك الأهرام هذا العمر قليلة للغاية ولا تتجاوز أصابع اليد الواحدة..
نحن أمام مؤسسة احتلت مكانة خاصة جدا علي المستوي المصري والعربي والدولي.. في مصر مازال للأهرام رصيد لا ينافسه فيه أحد رغم كل الظروف من حيث مصداقيته وتأثيره وثقة القاريء فيه.. وعلي المستوي العربي نحن أمام أقدم الصحف العربية وأعرقها وأكثرها شهرة وبريقـا.. وعلي المستوي العالمي تستطيع أن تسأل عن الأهرام في أي دولة أجنبية, وتجد أنه أكثر شهرة من الصحف التي تصدر في هذه الدولة.. منذ سنوات بعيدة كنت في زيارة طويلة للهند ولم أكن في حاجة لأن أشرح للمسئولين الذين التقيت بهم ما هو الأهرام.. كانوا يعرفونه جيدا..
إن الأهرام هو الذي احتضن أكبر رموز مصر في الفكر والفن والثقافة طوال مائة عام.. ولو أردنا أن نؤرخ للثقافة المصرية فإن دور الأهرام سيكون في الصدارة من حيث التأثير والإشعاع.. في الأهرام كتب أعظم كتابنا وعلي صفحاته أضاءت مئات الأسماء في الفكر والشعر والرواية والفن والتاريخ من أين سنجيء بكل هذا التاريخ, وكل هذا الزخم وكل هذه الرموز..
في الأهرام كان العناق بين الماضي والحاضر.. أسماء عريقة وعتيقة ومؤثرة تبدأ من لطفي السيد وطه حسين والعقاد والحكيم وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وسلامة موسي وقاسم أمين وتنتهي عند نجيب محفوظ ولويس عوض وذكي نجيب محمود وحسين فوزي وبنت الشاطيء ويوسف إدريس وصلاح عبد الصبور, وفي السلسلة الذهبية للفن حيث أم كلثوم والسنباطي وعبد الوهاب ويوسف وهبي وفاتن حمامه وأمينة رزق وسميحة أيوب وسناء جميل وسعاد حسني ونجوم الفن المصري الجميل.. من أين نجيء بكل هذا التاريخ..
وإذا كان الأهرام مراحل وفترات فقد جمع بينها دائما أن مصداقية الاهرام كانت دائما هي الجواد الرابح والمؤثر سواء في عهد أصحابه من آل تقلا قبل ثورة يوليو أو عهده الذهبي مع محمد حسنين هيكل أو في فترات لاحقة حافظ فيها الأهرام علي ثوابته في احترام القاريء ونزاهة الكلمة ومصداقية الحرف..
هذا هو الأهرام التاريخ والدور فماذا عن الأهرام المؤسسة المالية الضخمة التي تحقق أرباحا لا أعتقد أن هناك مؤسسة صحفية في العالم كله تحقق مثل هذه الأرباح ويكفي أنها تضم15 ألف عامل ما بين صحفيين وإداريين وعمال.. مازال الأهرام حتي الآن يرفض_ أقول يرفض- إعلانات بملايين الجنيهات في عدده الأسبوعي يوم الجمعة.. وهذه الظاهرة الفريدة لا تحدث اليوم أو أمس ولكنها تحدث منذ عشرات السنين ومازالت حتي الآن..
ورغم المشاكل المالية التي واجهها الأهرام في السنوات الأخيرة أمام سياسات مالية وإدارية متخبطة دامت ربع قرن من الزمان استطاع في فترة لا تتجاوز الثلاثة أعوام أن يستعيد توازنه ويسدد ديونه ويحقق أرباحا لا تحققها مؤسسات أخري كانت في ظروف أفضل..
كل هذه الأشياء تجعلني أتساءل.. هل تدرك أجهزة الدولة المصرية أهمية مؤسسة ضخمة مثل الأهرام, وإذا كانت بالفعل تدرك ذلك فلماذا تتعامل معها بهذه الأساليب التي تفتقد الحرص والمسئولية والتجرد.. منذ شهور قليلة كنت أجلس مع عدد من شباب الصحافة المستقلة وأنا أقدر نجاحاتهم, وأتمني لهم المزيد.. وكان الحديث عن الأهرام.. وشعرت نغمة هجوم مفادها أن زمان الأهرام قد انتهي.. وسألتهم.. أين تعلمتم الصحافة وبدأتم مشواركم أجابوا جميعا في الأهرام.. وسألتهم, ومن يطبع الصحف التي ترأسونها الآن ويوزعها في الأسواق قالوا.. الأهرام.. قلت لهم.. وما عدد الكتاب والمحررين الذين تستعينون بهم ومن أين جاءوا.. قالوا جميعهم من الأهرام. قلت لهم هذا يعني أن الأهرام كان وسيبقي البيت الكبير لصحافة مصر سواء كانت قومية أو حزبية أو مستقلة..
وهنا ينبغي أن أتحدث بصراحة ووضوح.. إذا كانت الدولة تعاني من وجود عدد من مؤسساتها الصحفية الخاسرة فيجب أن تواجه الأزمة بنفسها, وليس علي حساب مؤسسات أخري وهنا يمكن أن تلجأ لأكثر من أسلوب..
* أن تغير قيادات هذه المؤسسات وتضع علي رأسها قيادات أخري تستطيع أن تخرج بها من حالة الإخفاق والافلاس والتردي التي تعيشها..
* أن تدمج جميع هذه المؤسسات الصحفية الخاسرة وتعرضها للبيع كما باعت عمر أفندي.. والبنوك. وشركات التأمين والفنادق..
* أن يدخل القطاع الخاص من رجال الأعمال شريكـا في هذه المؤسسات ضمن خطة جديدة تعاد فيها هيكلة هذه المؤسسات لوضعها علي الطريق السليم.. إذا كانت لدينا سفينة غارقة فهل من العدل والمنطق أن نحاول إنقاذها بسفينة أخري تسير في أمان الله حتي تغرق السفينتان.. وإذا كانت لدينا إدارة ناجحة فهل نضع في رقابها أخطاء إدارات أخري لإصلاحها من واجب الدولة أن توفر وسائل شريفة لتعويض العاملين في هذه المؤسسات بضمان حقوقهم, ولكن ينبغي أن يكون ذلك علي حساب حقوق الآخرين..
لقد أخطأت الدولة كثيرا في حق مؤسسة الأهرام طوال السنوات الماضية.. أخطأت حينما تركتها ربع قرن من الزمان لا تسدد ضرائبها ولا تعرف حساباتها ولا تدري عنها شيئـا وأفاقت بعد فوات الأوان لتطالب بحقوق ماتت وضرائب سقطت وتجاوزات كانت تعرفها وسكتت كثيرا عليها.. وأخطأت وهي تشاهد هذا الدور وهو يتراجع برغم أنه من أهم وأخطر الأدوار في منظومة الإعلام المصري وأكثرها بريقـا ونفوذا وتأثيرا أن أعظم ما بقي من الأهرام برغم كل الظروف القاسية التي تعرض لها أنه مازال يحافظ علي الكثير من ثوابته المهنية والأخلاقية والوطنية التي ورثها جيلا بعد جيل..
عندما خرج الأهرام من محنته واستعاد عافيته لتبدأ رحلة الصعود مرة أخري وجدنا الدولة وهي تلقي في طريقة كل هذه الأعباء المالية والإدارية والمهنية.. ماذا يفعل الأهرام لصحف خاسرة ومؤسسات مالية لا يمكن إصلاحها.. أن ميزانية الأهرام ليست أكبر من ميزانية الدولة المصرية وإذا كانت الدولة لا تستطيع إنقاذ هذه المؤسسات الخاسرة فلا ينبغي أن تعالجها بمزيد من الأخطاء..
لا أعتقد أننا قادرون الآن علي بناء السد العالي أو حفر قناة السويس أو إنشاء بنك مصر.. أو إصدار صحيفة في حجم ودور وتاريخ الأهرام ولهذا ينبغي أن نحافظ علي ما بقي من هذه الرموز..
أي زمان وأي أموال وأي أرض وأي مناخ يمكن أن نبني فيه أهراما جديدا.. صدقوني أنا لا أتحدث كواحد من أبناء هذه المؤسسة, ولكنني أتحدث كواحد من أبناء هذا الوطن الذي ينبغي أن نحافظ علي ما بقي فيه من الأشياء الجميلة والعريقة.. والأهرام علي قمة هذه الأشياء..
.. ويبقي الشعر
أحبك عمرا نقي الضمير
إذا ظلل الزيف وجه الحياه
أحبك فجرا عنيد الضياء
إذا ما تهاوت قلاع النجاه
ولو دمر الزيف عشق القلوب
لما عاش في الأرض عشق سواه
دعيني مع الزيف وحدي بسيفي
وتبقين أنت المنار البعيد
وتبقين رغم زحام الهموم
طهارة أمسي وبيتي الوحيد
أعود إليك إذا ضاق صبري
وأسقاني الدهر مالا أريد
أطوف بعمري علي كل بيت
أبيع الليالي بسعر زهيد
لقد عشت أشدو الهوي للحياري
وبين ضلوعي يئن الحنين
وقد أستكين لقهر الحياة
ولكن حبــك لا يستكين
يقولون عني كثيرا كثيرا
وأنت الحقيقة لو تعلمين
'من قصيدة وأنت الحقيقة لو تعلمين سنة1982'