هوامش حرة
قبل أن يفلت الزمام
يكتبها: فـــاروق جـــويـــدة
هناك خيط رفيع جدا بين التوازن والانفلات.. وبين الجرأة والبجاحة.. وهناك مسافة كبيرة بين الصراحة والوقاحة.. وفي تقديري أننا نستطيع أن نقول كل شيء بكامل الوضوح وأن نعبر عن أي شيء بلا محاذير أو مخاوف.. ولكن يبقي بعد ذلك كله سقف لا نراه ولكننا ندركه.. وحدود ليس فيها ألوان.. ولكنها واضحة وصريحة.. وقبل هذا كله تبقي بعض الإشارات التي ندرك من خلالها أننا نمضي في الطريق الصحيح.. أو أن أقدامنا ضلت.. وهنا ينبغي أن تكون لنا وقفة لتعديل المسار..
أقول ذلك وأنا أتابع في الفترة الأخيرة بعض الظواهر الغريبة التي تتسلل مثل النيران في حياتنا ويتسع مداها ولا أدري هل نحن غافلون أم مدركون لخطورة ما نري..
* سوف أبدأ من بلاط صاحبة الجلالة وهي الدور الذي أراه من أعظم الأدوار في الحياة أن تكون مدافعا عن حق أو قيمة أو بشر وهذا هو دور الصحافة الحقيقية.. أما صحافة الرقص علي الحبال والتسطيح والتسلية والعبث بعقول الناس فلا يبقي منها غير روائح كريهة تطارد أصحابها في كل مكان..
لقد كانت سعادتنا كبيرة ونحن نري عشرات الصحف المستقلة التي تتناثر كالنجوم في سماء المحروسة.. هذه الصحف الجديدة هي أول من يمهد الطريق لوعي سياسي حقيقي ورغبة صادقة في التغيير وإحساس عميق بالمسئولية.. وفي الفترة الأخيرة بدأت السفينة تجنح.. ولاحت في الأفق بوادر تغير غير محسوب العواقب خاصة أن لغة المخاطبة اختلت موازينها في أحيان كثيرة..
إنني أشعر بضيق شديد عندما أجد قلما يتجاوز حدود اللياقة ولا أقول الأدب وهو يخاطب رمزا من الرموز التي تحتل مكانة خاصة في نفوسنا.. وعلي سبيل المثال فإن رئاسة الدولة في مصر ليست منصبا سياسيا فقط.. وليست مقرا لرئاسة الجمهورية.. وليست شخص الرئيس.. ولكنها قبل ذلك كله تمثل رمزا لكل المصريين سواء اتفقنا معه أو اختلفنا.. لأن الخلاف شيء وارد وهو حق مشروع.. ولكن يجب أن يبقي للرمز احترامه في لغة الخطاب قبل أي شيء آخر.. إنني هنا أتحدث عن بعض الكتابات التي لا تدرك حدود المخاطبة وتترك الحبر يسيل علي الأوراق بقعا سوداء بلا مسئولية.. إننا قد نختلف مع الرئيس حسني مبارك في أشياء والرجل لم يقصف قلما ولم يعتد علي حرية كاتب ولم يصادر فكرا حتي ولو عارضه.. وهنا ينبغي بل يجب أن يكون الكلام علي مستوي المقام.. إن الانفلات الذي حدث في لغة المخاطبة يمكن أن يحملنا إلي أشياء أخطر لأن الخلاف لا يعني التجاوز.. والنقد لا يعني الشطط.. ومن هنا تزعجني كثيرا لغة المخاطبة لشخص رئيس الدولة في الفترة الأخيرة.. ويجب أن يكون هناك سقف نقف أمامه جميعا من أجل مصر وليس من أجل الرئيس.. وهذه ـ في تقديري ـ مسئولية رؤساء التحرير في الصحف المستقلة وكلهم تقريبا كتاب كبار يدركون أصول المهنة وتقاليد صاحبة الجلالة.. هذه ليست دعوة للمصادرة ولكنها حرص علي عدم الانفلات أو الشطط في بلاط صاحبة الجلالة خاصة أن هذه العدوي يمكن أن تنتقل بسهولة إلي لغة المخاطبة في الشارع المصري خاصة في المظاهرات.. إن الشارع المصري ربما افتقد طويلا الوعي السياسي الحقيقي ولغة الحوار ولكن بقيت لديه بعض التقاليد التي ينبغي أن نحافظ عليها والصحافة هي الأولي بأن تحمي هذه التقاليد.. إن الاختلاف في الرأي والتعبير عنه شيء.. والتجاوز في لغة الخطاب شيء آخر مرفوض..
* هناك أيضا ظواهر غريبة تتعلق بدرجة الحساسية بين سلطة القرار.. وما تكتبه الصحافة الجادة.. فليست كل الصحافة المصرية الآن علي نفس الدرجة من الجدية.. إن الملاحظة الغريبة أن الحكومة لا ترد علي أحد وكأن السادة الوزراء والمسئولين يديرون مؤسسات خاصة.. لقد اكتفي المسئولون بإصدار القرارات وكأنهم يقولون لأنفسهم دعوهم يكتبوا.. ونحن نفعل ما نريد.. وفي تقديري أن هذا أيضا نوع من الانفلات لأن المسئولية مشتركة بين سلطة القرار وسلطة الكلمة.. وإذا كان صاحب القرار مسئولا أمام الدولة ومجلس الشعب فإن الكاتب مسئول أمام الناس وأمام قرائه.. وهذا يعني أن تجاهل ما تكتبه الصحافة تجاوز مرفوض ولا أدري ماذا يعمل عشرات المتحدثين الرسميين باسم السادة الوزراء الذين تم تعيينهم أخيرا.. وهل ينحصر دورهم في بيان أو رقم أو تصريح.. أم أن دورهم أن يكونوا طرفا في حوار خلاق بين الكلمة وسلطة القرار..
* هناك أيضا ظاهرة أخري غريبة كنا قد نسيناها منذ فترة بعيدة وهي نبش القبور.. لقد سادت هذه الظاهرة في فترة من الفترات خاصة ما يتعلق بالرموز السياسية.. فقد حدث ذلك بعد وفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.. ثم حدثت مرة أخري بعد رحيل الرئيس السادات.. ولكنها عادت الآن لنبش قبور رموزنا الفنية والثقافية.. آخر هذه الظواهر حكاية غريبة عن زواج أم كلثوم من كاتبنا الكبير مصطفي أمين.. ويبدو أن الإعلام ـ سواء كان صحافة أو تليفزيونا ـ لم يجد شيئا يشغل الناس به غير هذه القصة فانطلقت الفضائيات العربية تنسج الحكايات حول هذا الزواج وهي تسعي إلي أي كارثة في مصر لكي تنقلها بسرعة مريبة إلي العالم كله.. وأصبح زواج أم كلثوم ومصطفي أمين حديث العالم بعد سنوات طويلة من رحيلهما..
وهذا أيضا تجاوز مرفوض وانفلات لا معني له.. وأنا هنا عندي شهادة تحسم هذه القضية.. فقد سألت يوما كاتبنا الراحل مصطفي أمين السؤال بصراحة واضحة.. هل تزوجت أم كلثوم فأنكر تماما وقال: أم كلثوم كانت صديقة عزيزة ورمزا غاليا أعتز به.. وكانت لها مواقف عظيمة وأنا أعاني سنوات السجن ولم تتنكر لي كما فعل غيرها من الفنانين..
* من الظواهر الغريبة أيضا العصبية الشديدة التي تتعامل معها بعض الأجهزة الحساسة في الدولة مع كثير من القضايا التي تتعلق بالمواطنين إن المسئول أيا كان نوع السلطة التي يمارسها لابد أن يؤكد أن منصبه يرتبط بدوره ومسئولياته في خدمة هذا الشعب.. ولكن للأسف الشديد أن البعض يري غير ذلك ويتعامل مع الناس بعصبية لا تتناسب مع قدسية المكان الذي يجلس فيه.. بل إنها تصل أحيانا إلي درجة من درجات التعالي في طريقة التعامل وهذه أيضا ظاهرة خطيرة..
* من بين هذه الظواهر أيضا تسطيح اهتمامات الناس.. فقد طفت علي السطح قضية غريبة أصبحت حديث كل بيت ووجدنا أنفسنا أمام مفاهيم شاذة حول الزواج والطلاق والحريات ووجدنا أنفسنا ندخل سردابا طويلا مظلما لا يتناسب مع بلد عريق له تقاليده الراسخة في الأخلاق والسلوك.. وهذه الظاهرة تحتاج إلي وقفة عاقلة وصارمة وحكيمة حتي لا نجد أنفسنا أمام مجتمع آخر لا نريده ولا نسعي إليه..
* أما أخطر الظواهر التي أطالب بالتعامل معها بجدية كاملة ـ سواء علي المستويين الرسمي أو الشعبي ـ فهي ما يسمي بالنشاط المدني أو الأهلي أو أي مسمي آخر..
لا يوجد أحد ضد الجمعيات الأهلية التي تساعد الفقراء والمحتاجين.. ولسنا ضد النشاط المدني الذي يسعي إلي إنشاء دار للمسنين أو الأيتام.. ولسنا ضد المشاركة الإنسانية بكل ألوانها.. إن هذه الأنشطة تشجع التواصل بين الناس وتخلق مناخا اجتماعيا يقوم علي الرحمة والعطاء والمسئولية ويجب أن يكون مثل هذا النشاط داخل إطار واضح وصريح لمشاركة أبناء الوطن الواحد.. ومن هنا يجب أن تراجع الدولة أقول الدولة كل مصادر تمويل هذه الأنشطة خاصة الخارجية منها..
إن دول العالم ترفض المساعدات الأهلية بعيدا عن رقابة حكوماتها.. لا يستطيع ثري عربي أن يقدم دعما أو تمويلا لجامعة أو مدرسة في دولة غربية من وراء ظهر حكومتها.. بل إن أمريكا تراقب الآن بشدة كل عمليات التمويل للأنشطة الأهلية ليس في أمريكا وحدها ولكن في كل دول العالم.. لقد أوقفت مساعدات كثيرة كانت تصل إلي أبناء الشعب الفلسطيني في المدارس والمستشفيات.. فكيف نفتح في مصر الأبواب لكل من هب ودب لكي يمارس نشاطا تحت دعاوي العمل الأهلي أو النشاط المدني.. وإذا كان ذلك مقبولا علي المستويين الاجتماعي والإنساني.. فماذا عن المعونات السياسية التي يمكن أن توجه أحزابا أو مراكز أبحاث أو رغبات محمومة للوصول إلي السلطة!.. إن نمو النشاط الأهلي في مصر في الأعوام الأخيرة ظاهرة صحية ولكن ينبغي أن يكون نشاطا مصريا وليس لمصلحة جهات أجنبية.. ولهذا يبدو غريبا أن يذهب بعض رؤساء الجمعيات الأهلية ويتسلمون شيكات من مبني السفارة الأمريكية.. أو أن يتنقل السفراء الأجانب في محافظات مصر يزورون القري والنجوع ويدخلون البيوت والحقول والمدارس تحت ستار النشاط الأهلي.. هل يستطيع سفير دولة عربية أن يفعل ذلك في أمريكا بعيدا عن عيون الحكومة.. إن هذا الاختراق واحد من أخطر الظواهر المخيفة في مصر الآن لأن ذلك يفتح أبوابا كثيرة ربما جاء وقت لا يستطيع أحد أن يغلقها.. النشاط الأهلي حق مشروع.. ولكن يجب أن تبقي عمليات التمويل والمعونات تحت عين الدولة حتي لا نجد أنفسنا مشاعا بين أيدي المغامرين والمقامرين من هواة التنطع علي أبواب السفارات الأجنبية.. وهذا جزء مهم من قضية أخطر هي الأمن القومي المصري..
هناك عمليات اختراق يجب أن نكون علي وعي بها قبل أن يفلت الزمام.