هوامش حرة
في ذكري سقوط بغداد
يكتبها: فـــاروق جـــويـــدة
بعد عامين من احتلال الأرض العراقية وسقوط عاصمة الرشيد في يد القوات الأمريكية وقوات التحالف ظهر العالم العربي علي خريطة الأحداث وكأنه في حالة من حالات الغيبوبة الطويلة.. لقد عبر الحدث مثل كل الأحداث اليومية في أجندة الحكومات والأنظمة العربية.. ولم يحاول أحد أن يبدي اعتراضا أو رفضا لما حدث وكأن احتلال العراق أصبح جزءا من الماضي الذي يحاول الجميع نسيانه.. وعلي الرغم من أن النسيان صفة عربية أصيلة وقديمة ومتأصلة فإن الدماء ما زالت تسيل علي التراب العراقي حتي كتابة هذه السطور.. كان رد الفعل العربي بعد عامين من احتلال العراق شيئا غريبا.. لا الحكومات أدانت حتي بأثر رجعي.. ولا الشعوب تظاهرت حتي من باب المجاملة لشعب عربي يذبح كل يوم.. وبدت الصورة كما لو أننا جميعا شعوبا وحكومات قد قبلنا بالأمر الواقع وأصبح الوجود الأمريكي واقعا لا نملك الرفض فيه أو القبول..
منذ عامين أي أربعة وعشرين شهرا أي أكثر من سبعمائة يوم احتلت الدولة العظمي الوحيدة في العالم الآن أرضا عربية وعادت بنا مرة أخري عشرات السنين إلي الوراء لكي يطل مرة أخري وجه قبيح كنا قد نسيناه أو تناسيناه اسمه الاستعمار الغربي للشعوب العربية وأخيرا احتفلت القوات الأمريكية باحتلال العراق واكتفينا نحن بالصمت والبكاء علي الأطلال..
وعلي الرغم من رد الفعل العربي البارد والعاجز والمتخاذل فإننا لا نستطيع أن نقول بعد مرور عامين علي بداية المعارك بين أمريكا والشعب العراقي إن أمريكا انتصرت.. فلا القوات الأمريكية التي تملك أحدث تكنولوجيا العصر في القتل والدمار حسمت المواجهة.. ولا عشرات الآلاف من المارينز المدربين نامت ليلة واحدة في مأمن من المقاومة العراقية.. حتي الآن يمكن أن يقال بوضوح أن أمريكا مهزومة في العراق.. لقد فشل المشروع الأمريكي في أهم أهدافه حتي وإن نجح في تحقيق أهداف أخري..
لقد احتلت القوات الأمريكية التراب العراقي.. هذه حقيقة.. ونهبت النفط العراقي وزاد الاحتياطي الأمريكي من البترول المخزون والمسروق من الآبار العراقية.. هذه أيضا حقيقة.. وفي أقل من عامين زاد سعر البترول حتي وصل إلي ما يقرب من60 دولارا للبرميل وكانت أمريكا أول المستفيدين.. وهذه أيضا حقيقة.. وأفزعت القوات الأمريكية الأنظمة العربية وجعلتها تعيش حالة من الذعر والخوف علي الكراسي.. هذه كلها حقائق لا يختلف عليها أحد.. ولكن في مقابل هذه المكاسب هناك خسائر أكبر..
* إن أمريكا بكل قوتها العسكرية الضارية لم تستطع أن تحسم معركتها مع المقاومة العراقية وهي لا تضم كل فئات الشعب العراقي.. وفي أكثر من مكان وأكثر من موقع طالت يد المقاومة اللحم الأمريكي وأوجعته.. ولن يكون غريبا أن تخفي القوات الأمريكية خسائرها البشرية وأن تضلل الرأي العام الأمريكي الذي يعرف حقيقة ما يجري بين الجيش الأمريكي والمقاومة العراقية الباسلة..
* إن أمريكا الدولة العظمي صاحبة التاريخ في الإدارة والأمن والتخطيط والتكنولوجيا الحديثة لم تستطع أن تحقق الأمن لشعب لا يتجاوز تعداده إحدي الولايات الأمريكية.. لقد فشلت تماما في إنشاء أجهزة أمنية وإدارية تحفظ للبلد العريق استقراره وأمنه ابتداء بتراثه الحضاري الذي نهبه اللصوص وانتهاء بالمدرسة والمستشفي والشارع..
* إن أمريكا دفعت فواتير كثيرة علي الرغم من مكاسبها في البترول وتشغيل شركات إنتاج السلاح والتخلص من مخزونها من الأسلحة في تجارب أبادت بها عشرات الآلاف من البشر.. إن الاقتصاد الأمريكي الآن يعيش أسوأ حالاته علي الرغم من الانتعاش الكاذب.. لقد انهار الدولار في شهور قليلة أمام الين واليورو.. وبلغ العجز في الميزانية الأمريكية أرقاما لم تحدث من قبل.. وارتفعت نسبة البطالة بصورة حادة.. هذا بجانب الظواهر الخطيرة التي تواجهها أسواق المال الأمريكية التي لم تستقر منذ نزلت القوات الأمريكية الأراضي العراقية..وقبل ذلك كله لقد دفعت أمريكا حتي الآن أكثر من200 مليار دولار فاتورة احتلال العراق.
وبعد عامين من احتلال العراق.. يقف الطرف الأكثر استفادة من كل ما حدث وهو إسرائيل.. إن إسرائيل هي الفائز الأول في هذه المغامرة الأمريكية فلا أحد يعلم متي ستخرج أمريكا من مستنقع العراق لأنها حتي الآن لا تستطيع أن تخرج بشرف.. أو أن تقول أمام العالم إنها انتصرت.. أو أن الشعب العراقي أصبح شعبا حرا في ظل الاحتلال الأمريكي.. حتي الآن لم تنجح تجربة الديمقراطية علي جنازير الدبابات.. ولم تستطع الإدارة الأمريكية حماية قواتها من المقاومة العراقية التي تستطيع أن تطولها في أي لحظة..
ومن هنا فإن الإدارة الأمريكية لجأت إلي أكثر من طريقة لإلهاء العالم عن كل ما يحدث في العراق وما يصيبها من خسائر كل يوم.. إنها تفتح جبهات أخري مع إيران بسبب السلاح النووي.. ومع سوريا لإخراجها من لبنان.. ومع لبنان لضرب حزب الله.. ويقف وراء ذلك كله وجه إسرائيل القبيح.. لو أن أمريكا حسمت الموقف تماما في العراق لمصلحتها لكان الدور الآن علي إيران.. ولكن المشروع تأجل.. ومن هنا لم يعد أمامها غير سوريا تحت زعم أن المقاومة العراقية تتسلل من الأراضي السورية.. والحقيقة أن العراق الآن بلد مفتوح الحدود ويمكن أن يتسلل الملايين وليس الآلاف إلي الأراضي العراقية علي امتداد حدود تشمل6 دول مرة واحدة ابتداء بتركيا وإيران وانتهاء بالدول العربية..
وفي ظل تراجع المخطط الأمريكي الذي بدأ باحتلال بغداد كان ولابد أن تفتح الإدارة الأمريكية علي الدول العربية أبواب جهنم حتي تستكمل برنامجها..
لقد فتحت معارك بين الشعوب العربية وحكوماتها تحت دعاوي الديمقراطية وأن الرئيس بوش زعيم العالم الحر يريد عالما عربيا حرا حتي ولو استخدم في ذلك القوة العسكرية.. ولعلها المرة الأولي التي نسمع فيها أن احتلال الشعوب أصبح وسيلة عصرية لتحريرها.. ولعل التقرير الأخير الذي أدان وكالة المخابرات الأمريكية(CIA) بسبب معلوماتها الكاذبة عن أسلحة الدمار الشامل في العراق أكبر رد علي مزاعم الرئيس بوش ورغباته الكاذبة حول قضايا الديمقراطية.. لقد تسللت أجهزة المخابرات الأمريكية إلي الشارع العربي تحت ستار الحريات وبدأت عمليات تمويل ضخمة لأنشطة مشبوهة تحمل شعار' النشاط المدني' بل إنها بدأت في إعداد رؤساء وحكام المستقبل وأصبحت تهيمن علي قطاعات كبيرة من الإعلام العربي المقروء والمسموع والمرئي ابتداء بتمويل أنشطة العري علي الشاشات العربية وانتهاء بالهجوم الضاري علي الإسلام تحت دعاوي تحرير المرأة وحرية المواطنين.. ولأول مرة في التاريخ نقرأ إعلانات عن الحاجة لعملاء في أجهزة المخابرات الأمريكية.
هناك حملة من التشكيك في قدرات العرب وكأنهم أصبحوا خارج الزمن والتاريخ.. ومن هنا كان هذا الانقسام الحاد بين الدول العربية حتي أن13 حاكما عربيا اعتذروا مرة واحدة عن المشاركة في قمة الجزائر علي الرغم من الظروف التاريخية الصعبة التي تشهدها المنطقة.. وهنا أيضا كان الانقسام بين أبناء الشعب الواحد بين مؤيد للتدخل الأمريكي في الشأن العربي ومعارض له.. حتي أن البعض منا ينادي جهرا ويطالب بالتدخل الأمريكي المباشر حتي ولو كان احتلالا من أجل الديمقراطية.. وفي جانب آخر كان الانقسام الأعمق والأخطر بين المثقفين العرب المطالبين بالديمقراطية علي حصان أمريكي.. أو حصان عربي.. أو حتي حصان إسرائيلي!!.. ووسط هذا كله تسللت الدولارات الأمريكية لتحسم القضية بين الشعوب وليشهد العالم العربي واحدة من أخطر وأسوأ الظواهر وهو حق العمالة لقوي أجنبية جهارا نهارا سواء كان ذلك تواطؤا أو تمويلا أو دعوة للاحتلال..
ووسط هذا الانقسام الحاد لم يكن غريبا أن تسقط كلمة' المقاومة' لتحل مكانها كلمة' الإرهابيين'.. وتختفي كلمة' الشهيد' لتحل مكانها كلمة' القتيل'.. وتخرج عشرات الأقلام تدين المقاومة العراقية وتصفها بأسوأ الأوصاف..
لا نستطيع أن ننكر أن أمريكا نجحت في شق الصف العربي نجاحا كبيرا ولم يكن ذلك مقصورا علي الأنظمة ولكنه وصل إلي الشارع العربي وبين مواطنيه وأقلامه وإعلامه وكوادره السياسية.. لقد أصبح من الصعب الآن أن تحدد مواقف الناس وملامحهم ولحساب من يعملون.. حتي صفوف المعارضة يجب أن يتم فرزها فرزا دقيقا.. فقد خرج أبطال مزيفون من جحور لا نعلم عنها شيئا.. وأصبح من السهل أن تجد مواطنا عربيا يتسلم شيكا من سفير أجنبي تحت دعاوي الدفاع عن الديمقراطية.. وأغرب ما في هذه الظاهرة أن المعارضين في الماضي كانوا يسجنون.. والمعارضون في زماننا' الأغبر' يقبضون..
بعد عامين من احتلال بغداد فشلت أمريكا عسكريا وإداريا وحضاريا وإنسانيا.. ولكنها بكل المقاييس نجحت في شرذمة العالم العربي بحكامه وشعوبه وطوائفه.. وبعد أن كنا نقرأ علي خرائط التاريخ أسماء الدول العربية أصبحنا الآن نقرأ أسماء عشرات الطوائف ومئات القيادات وسلسلة طويلة من المغامرين والمقامرين الذين هانت عليهم أوطانهم وباعوها بسعر زهيد..
إن الشرخ الحقيقي الذي أصاب العرب ليس فقط سقوط بغداد ولكن توابع ما بعد السقوط كانت هي الأخطر والأسوأ.. إن الشعب العراقي ما زال يخوض معركته ويقدم كل يوم مئات الشهداء ولم يركع لجبروت القوة الأمريكية الغاشم ولكن الذي ركع واستسلم هو الواقع العربي القبيح الذي وصل إلي أسوأ حالات التشرذم والضياع.. ولهذا لم يكن غريبا أن تعبر ذكري احتلال العراق دون أن تترك صدي في الشارع العربي لا حكاما ولا محكومين.. والسبب في ذلك كله أن سقوط بغداد لم يكن الكارثة الوحيدة ولكن انقسام الأمة شعوبا وحكومات هو الكارثة الأكبر.