هوامش حرة
الساحل الشمالي.. مسئولية حكومة
يكتبها: فـــاروق جـــويـــدة
قضية استثمار الساحل الشمالي مسئولية حكومة وليست مسئولية وزارة أو وزير.. ومن هنا فهي تخضع لما يمكن أن نسميه المسئولية الوزارية.. إنها مشروع قومي بكل المقاييس كانت له إيجابياته التي لا ينكرها أحد.. وهناك أيضا سلبيات كان ينبغي أن نعالجها منذ سنوات مضت في إطار فكر شامل تلتزم به الحكومات المتعاقبة..
ولكن المشكلة في مصر أن المسئولية تسقط مع سقوط وزارة أو تغيير مسئول.. إن الساحل الشمالي مشروع متكامل.. فهو إسكاني.. ترفيهي.. زراعي.. إنتاجي.. وكان من الخطأ الجسيم أن يظل مشروعا يخضع فقط لحسابات وزارة الإسكان والتعمير دون النظر إلي جوانب وأهداف أخري حملها المشروع في بدايته من حيث التوسع الزراعي والتنمية السياحية والإنتاج بكل أشكاله.. وهذه عناصر غابت في تجربة الساحل الشمالي..
وقد آن الأوان لكي نعيد عرضها ومناقشتها والدخول بها في دائرة العمل والتنفيذ..
ففي لقاء مع د. محمد إبراهيم سليمان وزير الإسكان والتعمير.. اعترف الرجل من البداية بأن مشروع الساحل الشمالي إنجاز كبير بكل المقاييس وأنه فكرة رائعة.. ولو أن هذا المشروع عرض اليوم لما تردد لحظة في تنفيذه كوزير مسئول.. وأن فكرة المشروع في حد ذاتها كانت عملا كبيرا.. وفي حديثه معي ركز وزير الإسكان علي مجموعة نقاط أساسية تعكس موقفه ورأيه كمسئول:
* إن تكاليف الساحل الشمالي بلغت12 مليار جنيه أسهمت الحكومة فيها بمبلغ3 مليارات جنيه وأسهم القطاع الخاص بمبلغ9 مليارات جنيه.. وأن ما تم إنجازه من مشروعات في الساحل الشمالي يتجاوز بكثير الآن هذه التكاليف خاصة مع ارتفاع الأسعار وقيمة المواد الخام التي تم استخدامها علي امتداد عشرين عاما هي عمر المشروع..
* إن الساحل الشمالي وفر250 ألف فرصة عمل يمثل عائدها الحقيقي25 مليار جنيه شملت قطاعات إنتاجية كثيرة أهمها: صناعة الحديد والأسمنت والزجاج وعمليات البناء ومشروعات الخدمات من المياه والكهرباء والتليفونات والطرق.. وهذه المشروعات أتاحت فرص عمل كثيرة لآلاف الشباب.. وفتحت الباب أمام صناعات متقدمة حققت رواجا كبيرا من خلال هذا المشروع..
* إن الساحل الشمالي فتح أمام المواطنين فرصا للترفيه والاستمتاع بساحل جميل ارتقي بالمنطقة كلها وقدم خدمة حضارية غير مسبوقة.. وعائدا إنسانيا لا يقدر بثمن خاصة أن الإسكندرية- المدينة والإمكانات- ما كان لها أن تتحمل ثلاثة ملايين مواطن يقضون الصيف في الساحل الشمالي الآن..
* إذا كان الساحل الشمالي قد شهد مضاربات عقارية أو عمليات بيع وشراء.. فهذا أمر مطلوب لأنه استثمار في النهاية وليس هناك ما يمنع أبدا أن تتسع هذه المضاربات لأنها نشاط اقتصادي مشروع وليس من الخطأ أبدا أن يربح البعض من هذه الأنشطة سواء كانوا من أصحاب العقارات أو الذين قاموا بالأعمال الإنشائية أو مشروعات الخدمات.. لأن ذلك كله انعكس علي الاقتصاد المصري بصورة عامة في صورة موارد وأنشطة متعددة الأغراض..
* لن يشهد الساحل الشمالي توسعات إنشائية في المناطق المتبقية وحتي مدينة مطروح.. فقد تقرر أن تبقي هذه المساحة للأجيال المقبلة ولدينا مناطق لم يتم استثمارها حتي الآن ولكن بداية من الكيلو114 وحتي رأس الحكمة فإن هذه مناطق لن تدخل دائرة الاستثمار أو التوسع في الفترة الحالية..
* هناك خطة الآن لإنشاء مجموعة كبيرة من' الموتيلات' بعضها تقوم به وزارة الإسكان والبعض الآخر يقوم به القطاع الخاص.. هذا بجانب أن مطار العلمين يجري تشغيله الآن وقد تم إنشاؤه علي أحدث الأساليب الحديثة في إقامة المطارات كما يجري حاليا إنشاء مستشفي ضخم أمام منطقة' مارينا'.. هذا بالإضافة إلي فندق يضم400 غرفة.. وهذه كلها مشروعات ستشارك فيها الحكومة مع القطاع الخاص..
ويكمل وزير الإسكان حديثه: إننا بهذه الصورة نكون قد وضعنا الساحل الشمالي علي خريطة الاستثمار الحقيقي وهنا يجيء دور الوزارات الأخري حيث بدأ وزير السياحة السيد/ أحمد المغربي في إعداد تصور شامل عن مستقبل السياحة في هذه المنطقة.. وبدأت وزارة الزراعة ووزيرها المهندس أحمد الليثي في وضع خريطة للإنتاج الزراعي علي امتداد الساحل الشمالي في ظل خطة مدروسة لإزالة ألغام الحرب العالمية الثانية..
هذا ما قاله وزير الإسكان د. محمد إبراهيم سليمان..
في جانب آخر.. اتصل بي المهندس حسب الله الكفراوي وزير الإسكان الأسبق وصاحب فكرة المشروع ودار بيننا حوار حول المشروع.. الفكرة والهدف.. وقال المهندس الكفراوي إن مشروع الساحل الشمالي اكتمل في شكله وخططه وأهدافه في عام1977 من خلال مجموعة من خيرة العقول المصرية في العمارة والهندسة والإدارة والتخطيط وقد رسمت هذه النخبة من العقول المصرية مشروعا متكامل الأهداف يجمع بين التوسع العمراني والتخطيط السكاني والاستثمار البشري.. بجانب أهداف محددة في الإنتاج الزراعي والسياحة والطيران..
كان المشروع يهدف إلي التوسع العمراني علي امتداد الشاطئ بحيث يشمل جانبين رئيسيين: خطة للتوسع السياحي في المصايف من خلال القري السياحية وخطة موازية لإنشاء عشرات الفنادق و'الموتيلات' لتشجيع السياحة الداخلية والخارجية بحيث تدار هذه الفنادق من خلال شركات عالمية كبري.. وكان الشق الثاني في هذه الخطة هو الاستثمار الزراعي بزراعة400 ألف فدان صالحة للزراعة في هذه المنطقة التي كانت يوما تمثل سلة الغلال في عهد الرومان.. فهي منطقة زراعية منذ بداية التاريخ..
كانت هناك أهداف أخري في مقدمتها إنشاء المطارات وقد وضعنا تصورا كاملا لهذا المشروع بما في ذلك مكاتب شركات الطيران التي تم إنشاؤها في مارينا.. وقال المهندس الكفراوي إن هذا المشروع كان وليد فكر نخبة رائعة من عقول مصر المبدعة في كل المجالات..
ومن خلال لقاء د. سليمان.. وحديث المهندس الكفراوي- وكلاهما شارك في مشروع الساحل الشمالي في بدايته وفي تطويره- وضعت يدي علي بعض الملاحظات:
أولا: أن المشروع في حاجة الآن إلي نظرة شاملة تعود به إلي فكرته الأولي من حيث التكامل في الأهداف والخطط.. لقد سقط من المشروع جانبان رئيسيان.. هما: الاستثمار الزراعي الذي أطاح بحلم استصلاح400 ألف فدان كان من الممكن أن تغطي الآن جزءا كبيرا من احتياجات مصر من القمح أو توفر إنتاجا زراعيا يسهم في مواجهة الزيادة السكانية..
أما الجانب الآخر الذي سقط سهوا فهو الاستثمار السياحي فلم يدخل الساحل الشمالي حتي الآن في خريطة السياحة المصرية كما حدث في مناطق أخري مثل الغردقة وشرم الشيخ وطابا.. ومن هنا فإن تحويل بعض القري السياحية أو إضافة إمكانات جديدة إليها تناسب الاستثمار السياحي يحتاج إلي دراسة مشتركة بين وزارتي الإسكان والسياحة ومحافظة الإسكندرية..
وهذا التناول لا يمكن أن يتم في إطار نظرة فردية تخص وزارة من الوزارات.. إنه يحتاج إلي دراسة شاملة تقوم بها الحكومة كمجموعة عمل حتي يتحول المشروع إلي برنامج ملزم لكل الوزارات.. إن وزارة الإسكان تري أنها قدمت المنشآت والخدمات والمرافق وليس دورها أن تأتي بالسياح أو تستصلح الأراضي وهنا ينبغي أن يتوافر قدر من التنسيق لأن الواضح بعد عشرين عاما من إقامة المشروع أنه توقف علي عمليات الإنشاء والجزء السكاني ولم يتجاوزها إلي أهداف أخري زراعية أو سياحية.
ثانيا: أن قضية الاستثمار السياحي تحتاج إلي دراسة الإمكانات الفندقية للساحل الشمالي وإمكانات التوسع فيها أو تسويقها أمام الشركات العالمية بكل ما يشمله ذلك من الجوانب الإدارية.. والاقتصادية.. إن الموتيلات الجديدة التي يجري إنشاؤها أو الفنادق أو المطارات تحتاج إلي خطة للدخول بها في عمليات التسويق السياحي داخليا وخارجيا.
ثالثا: ما زلت أعتقد أن هذه المنطقة في حاجة إلي خدمات صحية متقدمة خاصة من رجال الأعمال والقطاع الخاص.. إن هناك مراكز صحية تتبع وزارة الصحة تدخل في مجال خدمات الطوارئ وهي لا تكفي لأن الساحل الشمالي يحتاج إلي أكثر من مستشفي متقدم وهناك شواهد كثيرة علي حالات حرجة واجهت مصيرا غامضا أمام غياب المستشفيات في هذه المنطقة..
وفي نهاية حديثه معي قال الدكتور محمد إبراهيم سليمان: هناك شيء واحد تمنيت لو تحقق في تخطيط الساحل الشمالي وهو أن يكون منطقة واحدة بامتداد هذا الساحل ويشقها طريق مواز للطريق الصحراوي.. كنت أتمني لو لم تكن هناك فواصل بين القري السياحية بحيث يستمتع جميع المواطنين بالخدمات الممتدة علي هذا الطريق الطويل بحيث يتحول المشروع إلي كيان موحد يجمع كل رواده ومحبيه ولكن هذا الحلم يصعب تحقيقه الآن في ظل خصوصيات القري وحدودها.. وسكانها ومشروعات الخدمات فيها.
وفي النهاية.. لقد أنفقت الدولة علي الساحل الشمالي أموالا كثيرة وجعلت منه امتدادا عمرانيا وسكانيا واسع المدي.. وينبغي ألا يبقي مغلقا عشرة شهور في السنة ويتحول مع الزمن والوقت إلي مجرد شاطئ يقضي فيه المواطنون أسابيع قليلة..
إننا نتمني أن يجيء اليوم الذي يصبح فيه الساحل الشمالي مجتمعا سكانيا متكاملا ويصبح حيا من أحياء الإسكندرية العريقة ولن يتحقق ذلك إلا من خلال نظرة شاملة من الحكومة بكل المسئولين فيها..
من هنا ينبغي أن يعود الساحل الشمالي إلي دائرة الضوء مرة أخري وأن نعيد قراءة أهداف المشروع الأولي فقد تكون هذه هي الفرصة الأخيرة لإعادة استثماره سياحيا وزراعيا بحيث يتحول إلي واحد من أهم مواردنا الاقتصادية..
الساحل الشمالي يحتاج إلي فكر مجموعة عمل وليس اجتهادات أفراد.. وسياسة حكومة ومسئولية وزارة حتي لا تتكرر الأخطاء وتدخل أهداف المشروع الأساسية دائرة النسيان مرة أخري.