ممدوح البلتاجي‏ ..‏ ومستقبل الإعلام المصري


هوامش حرة



ممدوح البلتاجي‏..‏


ومستقبل الإعلام المصري


يكتبها‏:‏ فـــاروق جـــويـــدة







عرفت د‏.‏ ممدوح البلتاجي في بداية الثمانينيات ولم نلتق في قاهرة المعز ولكننا التقينا لأول مرة في باريس مدينة الجن والملائكة كما سماها طه حسين‏..‏ وعاصمة الكون وبقية الدنيا ضواحيها كما قال عنها فيكتور هوجو‏..‏ ومنذ هذا التاريخ نشأ بيننا حوار جميل اقتربت فيه رؤانا كثيرا واتفقت فيه وجهات نظرنا في كثير من القضايا والأفكار‏..‏






وقد تابعت رحلة البلتاجي في كثير من جوانب العمل الوطني وهو وإن كان رجل قانون إلا أن الإعلام بكل ألوانه وأطيافه كان مشواره الحقيقي مستشارا ثقافيا في باريس ثم رئيسا لهيئة الاستعلامات‏..‏ ثم وزيرا للسياحة‏..‏ وأخيرا كانت محطته المرهقة وزيرا للإعلام‏..‏ وفي كل هذه المواقع لم يتغير فكر ممدوح البلتاجي‏..‏ ولعل رحلته مع السياحة المصرية كانت واحدة من أكبر الإنجازات في مسيرة وزير مسئول في السلطة التنفيذية‏..‏






وقبل أن يصدر قرار تشكيل الوزارة الأخيرة برئاسة د‏.‏ نظيف كنت أجلس معه في مكتبه بوزارة السياحة‏..‏ وسألته‏:‏ ماذا ستفعل لو كلفك الرئيس مبارك بحقيبة الإعلام في الحكومة الجديدة أجاب‏:‏ أنا جندي في كتيبة ولا أملك غير أن أنفذ ما يراه الرئيس‏..‏ وأصبح البلتاجي وزيرا للإعلام‏..‏ ولا شك في أن كل قادم إلي البيت الإعلامي بعد صفوت الشريف لابد وأن يشعر بقلق شديد‏..‏ لقد بقي الرجل في هذا الموقع أكثر من عشرين عاما وترك فيه إنجازات لا ينكرها أحد‏..‏ وترك أجيالا من العاملين البعض منها كان علي مستوي الآمال‏..‏ والبعض الآخر خيبها‏..‏ كما أن صفوت الشريف ترك بنية إنشائية للإعلام المصري لها قيمتها ودورها حتي وإن اختلفنا حول عائدها البشري ورصيدها الفكري والحضاري‏..‏ باختصار شديد إن صفوت الشريف كان صاحب دور كبير وكان مثار خلاف حول إنجازه الإعلامي وهذه سمات وضرورة في حياة كل إنسان ينجز‏..‏






جاء البلتاجي إلي الإعلام المصري وفي ذهنه أفكار وأهداف ورسالة‏..‏ فلا أعتقد أنه من ذلك النوع من المسئولين الذي يري أن السلطة شيء من المظاهر‏..‏ أو مرحلة في مشوار‏..‏ إنه صاحب فكر واضح تشكل من خلال تركيبة ثقافية وحضارية وإنسانية غاية في الخصوصية‏..‏ إنه من بيت عدالة وقانون‏..‏ جمع في ثقافته بين حرية الغرب المسئولة‏..‏ وعبق الشرق الأصيل‏..‏ ولهذا دخل الإعلام وفي ذهنه أفكار كثيرة‏..‏






كان حريصا علي أن يوفر الإعلام المصري مساحة من الحرية تتناسب مع دور مصر الثقافي والحضاري في المنطقة وفي العالم‏..‏






كان حريصا علي أن يدخل التليفزيون المصري كل بيت ليرسي قيما لا ليهدم أصولا‏..‏ وليقدم ثقافة جادة وفكرا متحررا ملتزما‏..‏ وفي ظل انفلات إعلامي خطير يهدد الكون كله كان ينبغي أن تكون لنا وقفة مع الفنون الهابطة‏..‏ والأخلاقيات الغريبة‏..‏ والفكر المتهور‏..‏ وقد اتضح ذلك من خلال عودة متدرجة لجذور من الأصالة في الغناء‏..‏ والفن‏..‏ والثقافة‏..‏ والتاريخ‏..‏






كان حريصا علي أن يقوم التليفزيون بدوره في تعميق مشاعر الانتماء لدي الأجيال الجديدة أمام هجمات شرسة لا نعرف من أين تأتي‏..‏ وما هي أهدافها‏!!..‏ وفي محاولة عالمية لفرض وصايات ثقافية‏..‏ وحضارية‏..‏ وسلوكية كان ينبغي لنا أن نكون دائما علي وعي كامل بأن هناك أهدافا وأغراضا ومصالح وراء ذلك كله‏..‏






كان حريصا علي أن يعيد للفن الجاد دوره في حياة الناس وأن تصبح الثقافة الحقيقية مرة أخري زادا يوميا للمشاهد‏..‏ لأن ذلك لا يتعارض أبدا مع جوانب الترفيه‏..‏ والتسلية‏..‏ ولكن ينبغي أن تكون هناك مساحة مناسبة لعقول الناس حتي لا يصبح التليفزيون مجرد وسيلة لملء الفراغ واستهلاك الوقت‏..‏






وكان حريصا علي أن تأخذ الدراما المصرية مكانها ومكانتها كفن أصيل في قائمة الإبداع المصري بغنائه‏..‏ ومسارحه‏..‏ وموسيقاه‏..‏ وفنونه المختلفة‏..‏






كانت هذه أهدافا عامة وضعها البلتاجي نصب عينيه‏..‏ ومن هنا بدأت سلسلة قراراته التي حاول من خلالها أن يضغط النفقات دون أن يخطئ الهدف والرسالة‏..‏ فتم تخفيض ساعات الإرسال في القنوات الإقليمية بحيث يكون عنصر الجودة أهم من طول فترات الإرسال‏..‏ وكان قرار دمج الفضائيات بحيث تكون هناك فضائية واحدة أفضل من اثنتين من حيث الجهد والرسالة‏..‏ مع تعميق دور قناة النيل الإخبارية‏..‏ ثم جاء شهر رمضان الكريم وكان ينبغي له أن يواجه طوفانا من المسلسلات والبرامج الإعلانية‏..‏ ومكاسب كثيرة أخذها البعض عبر سنوات طويلة‏..‏ وهو هنا يواجه مصالح ضخمة تمس الآلاف من العاملين في هذا الجهاز الخطير‏..‏






وللإنصاف‏..‏ فإن صفوت الشريف كان صاحب الفضل الأول في فتح الأبواب وإعطاء الفرص لفن جديد اسمه‏'‏ الدراما المصرية‏'..‏ ولولا التليفزيون المصري ودوره في تشجيع هذا الفن في السنوات الأخيرة ما وصلت الدراما التليفزيونية إلي هذا المستوي‏..‏ ولكن أمام التوسع الكمي طغت روح الكم علي كل العناصر الفنية الأخري وفي مقدمتها عناصر الجودة‏..‏ والهدف‏..‏ والرسالة‏..‏ لقد انساقت أجهزة الإنتاج والفنانين والمخرجين خلف طلبات الأسواق‏..‏ وهنا نسيت في أحيان كثيرة هدف الفن ورسالته ودوره‏..‏ خاصة إذا كان وراء هذا الفن تاريخ مصري جميل ورائع من فنون أخري مشابهة كالسينما‏..‏ والمسرح‏..‏ والموسيقي‏..‏ والغناء‏..‏ وكان من الصعب علي د‏.‏ البلتاجي أن يواجه هذا الطوفان الإنتاجي التسويقي الذي تحركه مصالح ضخمة مرة واحدة‏..‏ ولهذا جاء سوق المسلسلات هذا العام وهو في أسوأ حالاته فكرا‏..‏ وإنتاجا‏..‏ وسذاجة‏..‏ وما كان البلتاجي يستطيع أن يفعل شيئا أمام هذا الطوفان في ثلاثة شهور هي عمره في وزارة الإعلام‏..‏






في جانب آخر كانت لعنة الإعلان تطارد كل برامج التليفزيون‏..‏ وهي للأسف الشديد لعنة شاملة لم تكتف بالتليفزيون وحده ولكنها اجتاحت الصحافة بكل ألوانها وأصبحت خطرا يهدد الإعلام المصري كله‏..‏ كانت البرامج الإعلانية ذات قوة خارقة في فرض تفاهاتها‏..‏ ونجومها الكاذبة‏..‏ ومصالحها‏..‏ بعيدا عن شيء اسمه‏'‏ القيمة‏'..‏ بداية بأصوات المطربين والمطربات وكل ما فيها من قبح واستخفاف‏..‏ ونهاية بالمسلسلات والبرامج‏..‏ وهذه قضية تحتاج إلي وقفة جادة‏..‏






وبعد ذلك جاءت فكرة برنامج‏'‏ البيت بيتك‏'‏ وهي فكرة جيدة وليست جديدة‏..‏ وقد فوجئت بهذا الكم الهائل من المذيعين والمذيعات في حلقته الأولي‏..‏ علي الرغم من أن البرنامج الناجح ينسب للتليفزيون وللمذيع نفسه‏..‏ إن المذيع جزء من أهم الأجزاء في الرسالة الإعلامية‏..‏ وكلما تميز في ثقافته وفكره وحضوره كلما أضفي علي نفسه وبرنامجه قدرا من المسئولية والاحترام‏..‏ ولهذا كان ينبغي أن يكون البرنامج مقصورا علي أربعة أو خمسة مذيعين ومذيعات يتناوبون تقديمه‏..‏ بل إن الأفضل الآن إذا أصبح البرنامج أسبوعيا أن يقدمه اثنان أو ثلاثة‏..‏ وأن يكون لكل واحد فترة مميزة تتناسب مع تخصصه وثقافته ولغته‏..‏






وفي جانب آخر بدأ البرنامج بضجة كبيرة لم يواكبها حضور علي الدرجة نفسها من الضيوف‏..‏ ولهذا لم يفرق بين ضيف له تاريخ وآخر مازال في أول الطريق‏..‏ وهنا كان الخلط بين الضيوف‏..‏ فتداخلت الأقدار واختلطت الموازين‏..‏ وفي تقديري أن البرنامج خاصة في حلقاته الأولي كان في حاجة إلي أن يقدم نجوم العصر الذهبي للفن المصري ويمزج بينهم وبين شباب الأجيال الجديدة‏..‏






في جانب آخر لم تخل شاشة التليفزيون من برامج كثيرة ساذجة هي امتداد لألوان من الأعمال السطحية مثل الكاميرا الخفية وغير الخفية‏..‏ وهي أعمال استنفدت أغراضها ولم يعد فيها شيء جديد وهي الآن تأخذ مكانها في زحمة النسيان مع الفوازير وتوابعها‏..‏






ما كان د‏.‏ البلتاجي يستطيع أن يطبق كل ما في فكره من رؤي في شهور ثلاثة‏..‏ ولهذا تعب الرجل وأرهقه المشوار أمام ضغوط كثيرة لأنه يخوض معركة صعبة‏..‏ ولكنني علي يقين انه مقاتل شرس لا تنقصه الإرادة ولكن ينقصه فريق عمل يؤمن بفكره ورسالته‏..‏ فماذا يفعل كمسئول عن الإعلام أمام جيش تعداده‏37‏ ألف موظف‏..‏ وماذا يفعل أمام مصالح كثيرة وإقطاعيات يصعب الاقتراب منها‏..‏ وماذا يفعل أمام رصيد ضخم من السطحية وضع الكثيرين في أماكن لا يستحقونها وأدوار ليسوا أهلا لها‏..‏






ولهذا ينبغي أن يعاد النظر في أشياء كثيرة لعل أهمها وأخطرها ذلك الربط الغريب بين التدرج الوظيفي والمسئولية القيادية‏..‏ قد نكون امام كاتب ناجح ولكنه إداري فاشل‏..‏ وقد نكون امام مذيع نجم ولكنه لا يحمل فكر إدارة مشروع إعلامي‏..‏ وقد نكون أمام لاعب كبير ولكنه لا يصلح لأن يدير فريقا كاملا‏..‏ ولهذا يجب أن يعيد د‏.‏ البلتاجي النظر في تولي القيادات الإعلامية المسئولية‏..‏ بحيث لا يرتبط ذلك بالوظيفة‏..‏ لأن مسئوليات العمل الإعلامي تحتاج إلي مواهب وكفاءات وعقول وليس درجات وظيفية تأتي بحكم السن أو قضاء المدة أو لوائح العاملين في القطاع العام‏..‏






إنني علي يقين أن ممدوح البلتاجي قادر علي أن يبدأ مرحلة جديدة بالإعلام المصري في كل مجالاته خاصة أن هناك أرضا خصبة وإمكانات لا تتوافر لدولة أخري في المنطقة‏..‏ المهم أن نبحث عن مصادر قوتها وتميزها وأن نعطي الفرصة لمن يستحقها‏..‏



Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads