الدراما التليفزيونية‏..‏ والمستقبل الغامض

هوامش حرة



الدراما التليفزيونية‏..‏ والمستقبل الغامض


يكتبها‏:‏ فـــاروق جـــويـــدة







في يوم من الأيام كانت السينما المصرية تمثل جانبا من أهم جوانب الدخل القومي في مصر وكانت صادرات الفيلم المصري تأخذ مكانة مهمة في قائمة الصادرات المصرية‏..‏


وفي يوم من الأيام كانت أغنية واحدة تشدو بها أم كلثوم في إحدي حفلاتها نشيدا يحرك وجدان الملايين علي امتداد الساحة العربية من أقصاها إلي أقصاها‏..‏ كان الفيلم المصري لا يحتاج إلي تأشيرات دخول للقلوب العربية وكان صوت أم كلثوم هو الملتقي والسبيل إذا تفرقت الطرق وتغيرت الأحوال وألقت السياسة بزوابعها وغبارها علي عقل الأمة ووجدانها‏..‏






ومنذ سنوات ليست بالقليلة تراجعت مكانة السينما المصرية ودخلت في سراديب كثيرة مظلمة وفقدت دورها ورسالتها ما بين سينما المقاولات والضحك الساذج والسطحية الفجة‏..‏ وبعد أن كان الفيلم المصري رسولا أمينا وصادقا ومقنعا لمواكب الفن المصري أصبحنا الآن نعرض بضاعتنا بأبخس الأثمان ولا نجد من يشتريها‏..‏ ومع رحيل الجيل العبقري في تاريخ الغناء المصري ظهرت طحالب كثيرة وانتشرت علي جذوع الأشجار العتيقة حشائش غريبة‏..‏ تسلقت ووصلت وأساءت وشوهت‏..‏ ولم يبق أمامنا غير بقايا أصوات صاخبة تتسلل من خلال أجساد عارية أو دخان كثيف أو أذواق لم تعد تفرق بين عصفور يغني‏..‏ وغراب ينوح‏..‏


وكان من حسن حظ مصر في السنوات الأخيرة بعد غياب السينما وتراجع الغناء أن اجتاح الساحة فن جديد وليد هو الدراما التليفزيونية‏..‏ ووجدنا في هذا الفن عوضا لنا عن خسائر كثيرة لحقت بنا ما بين السينما والغناء‏..‏






واستطاعت الدراما التليفزيونية أن تمد جسورا عميقة من التواصل بين مصر والعالم العربي وتحولت إلي أداة تأثير واسع أمام لغة إعلامية جديدة تجسدت في هذا الكم الهائل من الفضائيات التي تخاطب ملايين البشر في لحظة واحدة‏..‏


ولا أبالغ إذا قلت إن الدراما التليفزيونية المصرية أصبحت حديث كل بيت في العالم العربي وإنها نجحت في فتح أبواب جديدة للفن المصري في عالمنا العربي وشهدت الدراما التليفزيونية عصرا ذهبيا أمام نخبة من كبار كتابنا الذين تحولت أعمالهم الأدبية إلي مسلسلات تليفزيونية‏..‏ ودخل الساحة جيل من كتاب الدراما الذين تخصصوا في هذا المجال ووصلوا به إلي آفاق بعيدة من حيث الصدق والحرفية العالية والمستوي الفني الرفيع‏..‏ هذا بجانب القدرة علي التعامل والاقتراب من قضايا الناس الحقيقية‏..‏ ومع هذه الكوكبة من الكتاب ظهر جيل من المخرجين الذين تحملوا مسئولية هذا الدور وقدموه بصورة تتناسب مع تاريخ الفن المصري ودوره ورسالته‏..‏






وفي شهر رمضان من كل عام كانت الشاشات العربية تنتظر مسلسلات مصر وفنانيها ومؤلفيها ومخرجيها وتفتح لهم البيوت والقلوب والمشاعر‏..‏ وفي هذه الفترة قدمت الدراما التليفزيونية مجموعة من أجمل المسلسلات التي مازالت تشكل جزءا عزيزا من تراث هذا الفن في المكتبة التليفزيونية العربية‏..‏


وعلي الرغم من تدفق رؤوس الأموال العربية علي الدراما المصرية في فترة من الفترات والتسابق الرهيب في عمليات الإنتاج ظهرت أعمال مميزة وكان من السهل جدا أن يفرق المشاهد بين عمل وراءه جهد ووعي ورسالة وعمل آخر يتسم بالسذاجة التي تقترب في أحيان كثيرة من الفجاجة‏..‏






ومع زيادة عدد القنوات الفضائية العربية‏..‏ ومع التوسع في ساعات الإرسال التي تمتد طوال اليوم ليلا ونهارا‏..‏ بدأت سياسة التوسع في إنتاج المسلسلات التليفزيونية‏..‏ وبعد أن كان التليفزيون يعرض مسلسلا كبيرا ناجحا أو مسلسلين زاد العدد مع الوقت والأرباح والانتشار ليصبح خمسة مسلسلات‏..‏ ثم عشرة‏..‏ ثم عشرين‏..‏ ثم‏...‏


ودخل إنتاج المسلسلات التليفزيونية في سراديب كثيرة ما بين إنتاج التليفزيون نفسه أو مدينة الإنتاج الإعلامي أو الإنتاج المشترك مع القطاع الخاص‏..‏






ومن يشاهد مسلسلات رمضان هذا العام سوف يرثي لما وصل إليه حال الدراما المصرية‏..‏ إن العدد كبير فعلا‏..‏ عشرون مسلسلا أو أكثر تجمع نخبة من اكبر نجوم الفن في مصر‏..‏ وخلف ذلك عشرات الملايين من الجنيهات وآلاف الساعات من الجهد‏..‏ ولكن النتيجة كانت علي غير ما توقعنا‏:‏


أن العدد فعلا كبير وكبير جدا‏..‏ ولكن أين الوقت الذي يستوعب ذلك كله‏!‏ وأين الشاشات التي تتحمل كل هذه المسلسلات‏!‏ وأين المشاهد الذي يستطيع أن يتحمل‏20‏ ساعة يوميا من المسلسلات‏!‏ متي ينام‏..‏ ومتي يصوم‏..‏ ومتي يفطر‏..‏ ومتي يعمل‏!..‏ وهنا كان ظهور البعض علي حساب اختفاء البعض الآخر‏..‏ ودخلت المجاملات والضغوط الساحة ليحتل عمل ما الصدارة ويأخذ عمل آخر نهاية القائمة‏..‏ وكان هناك من لم يجد مكانا يعرض فيه‏..‏ والمنطق يقول إنه من المستحيل أن أعرض‏20‏ مسلسلا في شهر واحد‏..‏ والتنسيق يقول إنه من الأفضل أن يوزع هذا الإنتاج علي فترات متباعدة ولا يكون مقصورا علي الشهر الكريم وحده‏..‏ وهنا ظهرت مشكلة الفضائيات العربية وهي كثيرة وتعرض أكبر عدد من المسلسلات بل إن هناك قنوات خاصة للمسلسلات طوال اليوم‏..‏ وهذه القنوات قادرة علي ضرب إنتاج مصر كاملا من المسلسلات خلال شهر واحد‏..‏






أمام التوسع في الإنتاج وزيادة عدد المسلسلات ظهرت أزمة خطيرة هي سطحية القضايا وسذاجة التناول ووجدنا أنفسنا ندور في حلقة واحدة لا يتجاوزها أحد ما بين مشكلات الزواج والطلاق وتعدد الزوجات وواقع المرأة‏..‏ وكأن قضايا الأمة لم تعد أكبر من زوجة مطلقة أو أرملة تبحث عن زوج‏..‏


وقد ظهرت هذه الأزمة بوضوح في مسلسلات هذا العام فقد وجدنا أنفسنا أمام أعمال متشابهة حائرة ما بين فساد رجال الأعمال أو الأطباء أو المذيعات أو ضرب النساء والاعتداء عليهن في صورة لا تليق أبدا بأعمال فنية هادفة تحمل فكرا ورسالة يشاهدها ملايين البشر وتشكل وجدانهم وسلوكياتهم‏.‏






تسللت لغة السينما في مواقف كثيرة في الأعمال الدرامية‏..‏ وفي أحيان كثيرة يخلط الفنانون عندنا بين السينما والمسلسلات علي الرغم من أن المسافة كبيرة جدا بينهما لأن ما يقال في السينما يمكن أن يكون محرما علي الشاشة الصغيرة‏..‏ ولهذا تسللت مشاهد كثيرة ـ ولا أقول كلمات ـ إلي الشاشة ودخلت البيوت واقتحمت عقول الأطفال ابتداء بزواج المحلل‏..‏ وانتهاء بغدر الزوجة التي لاتعترف بزوجها أمام رغبات محمومة ونزوات لا تتناسب مع قدسية إحساس جميل اسمه‏'‏ الأمومة‏'..‏ ومع هذا كله كانت‏'‏ كرنفالات‏'‏ الملابس أكبر تأثيرا من قدرات الأداء الفني أمام تراجع المواهب‏..‏


في الوقت الذي تصورنا فيه أن الدراما التليفزيونية سوف تعوض نجوم السينما عن غيابهم عن الشاشة الكبيرة وتعيد لهم مكانتهم في عيون الناس ظهرت أزمة أخري أخطر من كل ما سبق وهي احتراق نجوم السينما علي شاشات التليفزيون‏..‏ وفي تقديري أن الموقف يحتاج إلي دراسة لأن الظهور غير المناسب لنجوم السينما في مسلسلات تافهة أساء لهم وأساء للسينما وأساء للفن المصري بصورة عامة‏..‏






لقد وفرت المسلسلات لنجوم السينما موارد جديدة من المال ولكنها سحبت منهم رصيدا ضخما من تقدير الناس‏..‏ بل إنها أساءت لتاريخ نجوم كبار ما كان ينبغي لهم أن يظهروا في مثل هذه الأعمال التافهة ولا أريد أن أذكر الأسماء لأننا جميعا نعرفها‏..‏


يجب أن يحمي التليفزيون الفنانين الكبار من أنفسهم لأنهم ثروة لا تعوض‏..‏






إذا كان من المطلوب أن نشجع ظهور أسماء جديدة لكتاب جدد فينبغي ألا يخضع ذلك لمبدأ المجاملات أو‏'‏ الشللية‏'‏ أو رغبة نجم أو نجمة في فرض عمل لا يحمل فكرا ولا هدفا ولا رسالة‏..‏ من بين‏20‏ مسلسلا قدمها التليفزيون المصري في رمضان هذا العام أكثر من‏12‏ مسلسلا يدور في نطاق أفكار قديمة‏..‏ وأحداث وشخصيات تناولها من قبل عشرات الكتاب‏..‏ ولهذا يجب أن يتيح التليفزيون الفرصة لمن يستحقها من أصحاب المواهب الحقيقية سواء كانوا كبارا أو واعدين‏..‏


وبجانب هذا فإن تكرار ظهور الفنانين في أكثر من عمل جعل الشاشة أحيانا تشبه أسواق الأرياف حيث يجمع كل شيء في مكان واحد‏..‏ ومع تداخل الشخصيات والأشخاص تجد الفنان رجل أعمال‏..‏ وطبيبا‏..‏ ومسئولا‏..‏ ومزورا‏..‏ وزير نساء‏..‏ وأمام هذا التداخل وجدنا أنفسنا أمام مسلسل واحد في مئات الحلقات المتشابهة في الوجوه والأحداث والأماكن حتي الأثاث والديكور‏..‏ كان هناك أنتريه واحد في معظم المسلسلات‏..‏ وغرفة نوم واحدة لكل الأبطال‏..‏ ومكتب واحد لكل المسئولين‏..‏ وفيلا واحدة لرجال الأعمال والهاربين وتجار الخردة والأطباء‏..‏ وكان ينبغي أن نتجنب ذلك كله خاصة أن مدينة الإنتاج الإعلامي فيها عشرات الأماكن‏..‏






عندي يقين أن ما يقال في‏30‏ حلقة من المسلسل يمكن أن يقال ـ وربما بصورة أفضل ـ في‏7‏ حلقات وما يقال في‏7‏ حلقات يمكن أن تضمه سهرة تليفزيونية‏..‏ ولهذا فمن الظلم للمشاهد أن يجلس حائرا أمام شخصيات توقفت‏..‏ ودراما ترهلت‏..‏ وأحداث لا تتحرك خطوة إلي الأمام‏..‏ إن مثل هذه الأخطاء يعرفها تلاميذ السنوات الأولي في معاهد السينما والمسرح‏..‏ ولهذا يجب أن نحترم شيئا عزيزا اسمه‏'‏ الوقت‏'..‏ وألا يصل بنا الاستهتار إلي هذه الدرجة ونحن نتعامل مع عقول الناس‏..‏ أقولها بوضوح‏:‏ الدراما المصرية في طريقها إلي سرداب مظلم سبقتها إليه فنون أخري عريقة أمام الإهمال والتسيب وإغراءات المال‏..‏ منها السينما والغناء‏..‏ ويجب أن نوفر الحماية لهذا الفن الوليد‏..‏ لأنه المستقبل‏.‏


Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads