هوامش حرة
قضية الانتماء بين المتغيرات.. والثوابت
يكتبها: فـــاروق جـــويـــدة
ليس من حق إنسان أن يدعي أنه أكثر وطنية من إنسان آخر.. أو أن يتصور أنه يحب وطنه أكثر مما يحبه الآخرون.. لأن نقطة البداية التي ينبغي أن نتفق عليها وتكون من البدهيات أننا كلنا مواطنون تجمعنا عدة أشياء تبدأ بالإحساس بالانتماء للأرض والتراب والتاريخ.. وتنتهي عند إحساسنا جميعا بالمسئولية تجاه هذا الوطن.. فنحن متفقون علي حبه.. وإن كنا نختلف أحيانا في القيام بمسئولياتنا.. وهذا الذي نسميه الحب.. والمسئولية.. والدور.. يدخل في إطار أوسع نسميه الانتماء.
وعلي الرغم من أن الكلمة يمكن أن تجمع أوصافا وأسماء كثيرة فإن هذا الإحساس الذي نسميه الانتماء تجاوز- في أحيان كثيرة- الأوصاف والكلمات والظواهر وتحول إلي علاقة بين الإنسان ووطنه تشبه تلك العلاقات الأزلية التي صاغتها الديانات السماوية في أعماق البشر.. وتحول الانتماء إلي شكل من أشكال الإيمان الذي تجاوز حدود الأرض والتراب والبشر ليدخل بنا مناطق أكثر عمقا وأكثر يقينا.. ولهذا: لم يكن غريبا أن يضحي الإنسان بأغلي ما يملك وهو الحياة فداء لوطن ينتسب إليه ويحمل اسمه..
في العصور القديمة ارتبطت فكرة الانتماء بالعلاقة بين الإنسان والمكان الذي يوفر له مصادر الحياة سواء كان ذلك قطعة أرض يزورها المطر أو شاطئ ماء قبل أن يعرف الناس الأنهار.. وتجسدت هذه العلاقة في المدي الذي تحققه للإنسان من توفير الطعام والماء.. وأمام تطور التجربة الإنسانية بدأت أطماع الإنسان تتسع فكان الإحساس بالملكية وهنا ظهرت القوة التي تحولت إلي وسيلة من الوسائل التي يسعي بها الإنسان لتوفير متطلبات الحياة من الماء والطعام.. فكان الأقوي هو الأقدر علي أن يوفر لنفسه كل الاحتياجات حتي ولو كان علي حساب أطراف أخري أضعف لا تملك الحماية.. ومن خلال منطق القوة في الغابة حيث يأكل الأسد الغنيمة وحوله الضباع تنتظر ما تبقي منها.. كان موقف القوة هو الذي حكم مسيرة الإنسان منذ أن وضع أقدامه علي شاطئ النهر وزرع بعض الأشجار حتي وصل اليوم إلي أعلي درجات التقدم في الصناعة والتجارة والتكنولوجيا والشركات متعددة الجنسيات..إنه الإنسان نفسه في علاقته بالقوة كوسيلة لتحقيق الرخاء وتوفير مطالب الحياة وفرض الإرادة حتي وإن خلع أثواب بدائيته وارتدي الأثواب المزيفة التي يخفي بها سوءاته تحت شعار' الحضارة والمدنية'.
من هنا فإن الانتماء إحساس متحضر جاء في أوقات متأخرة بعد أن شيدت الحضارة منشآتها وتجاوزت منطق القوة إلي منطق الفكر وتحولت من صراع بين وسائل وأشياء إلي صراع بين أفكار وإن كانت هذه الأفكار في حقيقتها تخفي تلك الروح القديمة التي تقوم علي المصالح والقوة والأنانية وحب الملكية..
ومن فترة لأخري كانت تلك الأفكار التي تتخفي في صورة نظريات وبرامج ودعوات للإصلاح تحركها مطامع الإنسان ورغباته وحساباته.. ومع التقدم الفكري والحضاري والاجتماعي والثقافي بدأ الإنسان يهذب روح المطامع فيه ويجيد استخدام القوة خاصة بعد أن أخذت أشكالا أخري تبدأ بالثروات وتنتهي بالتفوق الفكري والعقلي والحضاري..
من هنا فإن الانتماء مصلحة مشتركة بين وطن أحميه.. وحياة يوفرها للمواطنين فيه ومهما اختلفت أفكار علماء الاجتماع والتراث الفكري والحضاري الذي جمعه الإنسان عبر عصور طويلة فإن العلاقة بين الإنسان ووطنه هي هذه المشاركة التي ترسبت مع الزمن والحياة وتحولت إلي شيء أكبر بكثير من مجرد توفير لقمة الخبز..
هناك عصور من التراكم الحضاري التي شكلت مشاعر الانتماء خاصة في دول الحضارات وجعلت منها نسيجا إنسانيا اختلط فيه البشر.. بالأرض.. بالتاريخ.. بالجذور بحيث أصبحت كيانا واحدا نسميه الانتماء.. صحيح أنها بدأت علي شاطئ نهر مجرد نخلة وثمار وقطرات ماء.. لكن هذا كله تحول إلي دماء تتدفق في العروق وفقد كل خواصه الأولي ليصبح شيئا جديدا..
ولهذا فإن الحديث عن الانتماء ينبغي أن يتجاوز حدود المصالح الخاصة والحسابات الشخصية.. وما نأخذ من الوطن وما يعطيه لنا لأن الوطن في حد ذاته لا يمكن أن يبخل علي البعض ويسرف مع البعض الآخر.. لأن هذا ليس منطق الأوطان ولكنه منطق العصابات التي تستبيح حقوق الآخرين تحت شعارات وطنية كاذبة.
ولذلك.. فإن صراع الأفكار هو في حقيقته صراع بين مصالح تهذبت وارتفعت وحاولت أن تتجرد من مخلفات أزمنة التراجع والبدائية لتأخذ صورة أكثر' شياكة' فتصبح فكرا.. وإن أخفت في حقيقتها كل الصفات والسمات القديمة لصراع القوة..
وما يحدث علي الساحة الدولية الآن لا يختلف كثيرا عن صورة الصراعات القديمة قبل بدء الحضارات.. الخلاف الوحيد أن وسائل القتل أصبحت أكثر تقدما وأساليب العلاج أصبحت أكثر إقناعا لأنها تخفي مظاهر القوة خلف ستار زائف يسمي' لغة الفكر'..
وقد اتسعت دائرة الأفكار لتتجاوز حدود الوطن الواحد.. وأصبح الفكر لغة لكل البشر أو بمعني آخر أصبح سلعة عالمية علي الرغم من اختلاف اللغات والألوان والملامح.. لكن أخطر ما في هذه المعادلة أن الفكر في كل الحالات كان يعبر عن قوة خفية عندما قام الفكر الرأسمالي واجتاح العالم تجاريا.. ثم صناعيا.. كان يعبر عن مصالح تسربت في كتابات المفكرين وبرامج المنظرين لتتجاوز حدود الأوطان التي ظهرت فيها.. وإن بقيت هذه الأفكار تحمل كل سمات القوة التي عبرت عنها وهي قوة رأس المال كوسيلة حديثة من وسائل الصراع.. وبعد حروب وتصفيات بين مراكز قوي كثيرة ظهرت الماركسية وكانت فكرا إنسانيا جريئا يعبر أيضا عن صراعات مصالح بين طبقات المجتمع ليس علي مستوي الوطن الواحد فحسب ولكن علي مستوي الإنسانية كلها.. لم تكن الماركسية دعوة مفكر في وطن ظهر فيه لكنها تحولت إلي فكرة إنسانية تحمل كل جوانب الصراع وتجسدها..
والغريب أن كل الأفكار العظيمة في تاريخ البشر لم تتحقق بقوة الفكر وإقناعه لكنها تحققت بالقوة المجردة.. قوة القرار والسلطة.. وقوة السلاح.. وقوة الحروب.. وقوة الثورات.. فلولا قيام الثورة البلشفية في روسيا ما عرفت أفكار ماركس طريقها إلي العالم.. ولولا صعود القوة الرأسمالية الغربية واحتلالها دول العالم ما كانت الرأسمالية الحديثة ممثلة في أكبر رموزها الآن وهي الولايات المتحدة الأمريكية.. ومع اتساع دائرة الفكر الإنساني تخلي الإنسان عن الكثير من خصوصياته وثوابته ووجد مبررا مقنعا لأن يكون الانتماء الإنساني أوسع وأشمل من الانتماء للوطن.. وفي هذه المنطقة بالذات بدأت رحلة التجاوزات وبدأت معها رحلة الشك وعدم اليقين في إحساس قديم يسمي الانتماء.. هنا وجدنا في عصرنا الحديث أن الانتماء للفكرة سبق كل شيء بما في ذلك تلك المصالح التي ترتبط بما يسمي' الوطن'.. وكان من السهل جدا أن يذوب الجزء في الكل بمعني أن يصبح الوطن الصغير صدي للوطن الأكبر.. أو بمعني آخر أن يصير جزءا من فكره بعد أن كان هو في حد ذاته أكبر من كل الأفكار..
و مع ظهور هذه الموجات من تجارة الأفكار الكونية أخذت التيارات الفكرية مواقعها بين شعوب العالم وكان الخطأ الرئيسي أن بعض هذه التيارات وصل إلي درجة من التأثير أصبح فيها الانتماء للفكر أكبر من الانتماء للوطن.. ظهرت أحزاب شيوعية في دول العالم كانت تري أن انتماءها الحقيقي يصب في مبادئ ماركس ولينين علي الرغم من أن الأرض غير الأرض والوطن غير الوطن.. وظهرت أفكار تدين بالرأسمالية رغم الفارق في التجارب والجذور الذي يتجسد في عقود طويلة من الزمن وتجارب تختلف تماما في صورها وأشكالها..
ثم أخيرا.. التطور التكنولوجي الذي اجتاح العالم في السنوات الأخيرة وأخذ معه كل ما تبقي من أفكار العالم القديم ووجدنا أنفسنا أمام واقع جديد هو فكر التكنولوجيا وهو يختلف تماما في أساليبه ومصادره وقدراته عن كل مصادر القوة التقليدية.. وكان الانتماء بمعناه الحقيقي التاريخي والإنساني أول ضحايا الثورات الفكرية التي انتقلت بالإنسان من فكر الرأسمالية.. إلي فكر الشيوعية.. إلي فكر التكنولوجيا.. وبين المراحل الثلاث غابت فكرة الانتماء بمعناه التقليدي كعلاقة بين الإنسان وأرضه وجذوره وتاريخه وثوابته..
وما زال للحديث بقية..