هوامش حرة
قدسية القضايا.. وشرف المواطنة
يكتبها: فـــاروق جـــويـــدة
لا يستطيع أحد أن ينكر أو يتجاهل الواقع الذي يعيشه العالم الآن وهو أن أمريكا هي القوة العظمي الوحيدة علي سطح الكون... وأنها تتحكم في خيوط كثيرة في مجريات الأحداث.. وأنها اقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا تتصدر واجهة الحضارة المعاصرة.. هذه حقائق لا ننكرها.. ولكن ينبغي ألا تصغر الشعوب أمام ذلك حتي تصل الي درجة التلاشي... أو أن تترك مصائرها في مهب الريح وهي لا تعلم الي أي مكان تمضي.. والي أي مستقبل تسير..
ولهذا كان موقف الحكومة المصرية موقفا حكيما عندما رفضت السماح بتمويل الجمعيات الأهلية في مصر من الإدارة الأمريكية مباشرة عن طريق السفارة الأمريكية دون علم الحكومة.. كما رفضت أيضا تحديد موعد أو جدول زمني لخصخصة البنوك المصرية المملوكة للدولة... أو بمعني آخر بيع بنوك القطاع العام..
هذان المطلبان كانا مثار جدل كبير مع الإدارة الأمريكية, خاصة أن هناك ربطا غريبا بين هذه المطالب وغيرها وموقف المعونة الأمريكية لمصر..
وفي البداية, فإن تمويل الأنشطة الأهلية في مصر بعيدا عن رقابة الحكومة المصرية أمر مرفوض تماما, خاصة أن المنطقة كلها, وليست مصر وحدها, تتعرض لعملية اختراق غريبة تستخدم كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة, وتتخفي وراء مسميات كثيرة, منها حقوق الإنسان, والحريات, وحوار الثقافات, والتواصل الفكري, لكن الحقائق تؤكد أن هناك نيات كثيرة غير طيبة.. وأن هناك أيضا وسائل كثيرة غير مشروعة لجمع الأموال..
ومن هنا فإن اعتراض الحكومة المصرية علي المبدأ من أساسه يمثل جانبا ضروريا في حماية الأمن القومي المصري..
إن فتح المجال لعمليات التمويل الأجنبي للأنشطة الأهلية يحمل مخاطر كثيرة علي كل المستويات أمنيا وفكريا وسياسيا.. إذا سمحنا للجمعيات الأهلية بأن تتلقي التمويل المباشر من الدول الأجنبية, فسوف يصل ذلك يوما إلي تشكيل الأحزاب, وإقامة المؤسسات الثقافية والإعلامية, والتدخل السافر في شئون الوطن, وهذه كلها مخاطر يجب أن نكون علي وعي كامل بها..
القضية الثانية التي أثارت خلافا مع أعضاء الغرفة التجارية الأمريكية- كما نشرت الصحف- هي خصخصة بنوك القطاع العام.. وفي تقديري أن مصر لا تحتمل مثل هذا القرار في ظروفها الحالية, وأنها مغامرة غير محسوبة النتائج... فكيف يمكن لنا الآن بيع بنوك القطاع العام, أو عدد منها, في ظل الانخفاض الرهيب في سعر الجنيه المصري.. وكيف يمكن ذلك ونحن لا نستطيع أن نعرف بدقة من الذي يشتري هذه البنوك.. وهل في مصر حاليا رؤوس أموال لدي القطاع الخاص المصري تستطيع أن تدفع بلايين الدولارات لشراء بنك أو بنكين.. وما هو مستقبل ودائع المواطنين أمام مخاطرة غير محسوبة بهذا الحجم؟!
ان مصر ما زالت تدفع ثمن قرار متسرع بتعويم الجنيه المصري, ومهما قيل عن ايجابيات القرار, إلا أن سلبياته كانت أكبر بكثير من كل إيجابياته, والواقع المصري لا يحتمل الآن بيع بنك واحد, فما بالك بخمسة بنوك كبري فيها بلايين الودائع..
ليس المطلوب أن نسعي دائما إلي إرضاء المؤسسات المالية الدولية, وهي عادة تأخذ تعليماتها من الإدارة الأمريكية, خاصة صندوق النقد والبنك الدوليين, لكن المطلوب أن ننظر للظروف والواقع, لأن مصر أدري بظروفها وأحوالها, وأهل مكة أدري بشعابها.. لكن سجل العلاقات المصرية- الأمريكية, في ظل إدارة الرئيس بوش, حمل تناقضات كثيرة... بل أعطي لنفسه حقوقا مرفوضة بالنسبة لنا- شعبا وحكومة- ابتداء باحتلال العراق, وانتهاء بالدعم الكامل للسياسة الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني, والعدوان الدائم علي الإنسان العربي..
ولم يكن الخلاف حول خصخصة البنوك أو تمويل الأنشطة الأهلية إلا صورة من الصور المصغرة جدا لمسيرة من الخلافات في العلاقات بين مصر وأمريكا.. وفيها ظهرت مجموعة من الأخطاء الفادحة في القرار الأمريكي:
* إن الإدارة الأمريكية الحالية, وهي تعيش أيامها الأخيرة في البيت الأبيض, قد تجاوزت كثيرا في التدخل السافر في شئون المنطقة, ولم تفرق بين دول لها حجمها ودورها ومسئوليتها التاريخية, ودول أخري يمكن أن يوجه لها النصح والإرشاد.. إن مصر, بمقاييس التاريخ والدور والمسئولية, دولة رائدة وقائدة في المنطقة, وهذا الدور لم يكن هبة من أحد, ولكنه سلسلة طويلة من التراكمات والمشاركات الحضارية والإنسانية التي شكلت هذا الدور وأعطته الأهمية والمسئولية والمكانة.. ويبدو أن الإدارة الأمريكية الحالية لم تدرك أهمية هذا الدور كما ينبغي, بل انها تجاهلته في معظم الأحيان وسعت إلي تهميشه طوال أربع سنوات كاملة, هي عمرها في البيت الأبيض.
* إن محاولات الضغط بورقة المعونات الاقتصادية, لم تنجح في يوم من الأيام مع القرار المصري, خاصة أن هذه المعونات- من حيث القيمة والأهمية والدور- يمكن تعويضها بسهولة من خلال موارد جديدة, وعدة قرارات حكومية لترشيد الإنفاق, وكان من الخطأ أن يتصور البعض أن هذه المعونات يمكن أن تكون وسيلة ضغط أو مساومة, سواء في مصر أو أمريكا, لأن المعونة الأمريكية كلها لا تغطي بنود الحراسات والاحتفالات والولائم في الجهاز الإداري للدولة.
* عندما بدأت الإدارة الأمريكية مأساتها التاريخية في احتلال العراق, لم تكن تريد العون من أحد.. وكانت تري أنها قادرة علي أن تنهي صفقة الاحتلال وحدها, دون أن يشاركها أحد في الغنيمة.. وعندما غرقت في المستنقع العراقي حاولت توريط أطراف أخري كان من بينها مصر, وكان ذلك يبدو صعبا, بل مستحيلا, وما زالت أمريكا تدفع حتي الآن ثمن حماقتها أمام المقاومة العراقية الشرسة.. ومن التناقضات المخيفة أن يوافق الكونجرس الأمريكي علي تخصيص بلايين الدولارات للحرب في العراق, بينما تقتل الأعاصير الآن آلاف الجوعي في أمريكا.
* عندما طرحت الإدارة الأمريكية قضايا الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي, لم يكن طرحا سياسيا فكريا إنسانيا ينشد الرفاهية لشعوب المنطقة, لكنه كان طرحا استفزازيا يستعرض القوة أكثر مما يحاور العقول.. ويهدف إلي الهيمنة أكثر من السعي إلي التواصل.. بل إن هذا الطرح اتسم بنغمة فيها الكثير من التعالي, صدمت الكثيرين من دعاة الفكر الليبرالي الذين كانت التجربة الأمريكية مثار إعجاب وتقدير لديهم..
لقد اختفي وجه الليبرالية الأمريكية التي قامت علي دعوات المفكرين والكتاب والساسة, ليجد العالم نفسه أمام قوة طاغية تتحدث عن حقوق الإنسان وهي تمارس أسوأ أشكال البطش والإرهاب ضد الشعوب احتلالا وغزوا ودمارا.. كان التناقض شديدا بين دعوات الحرية والديمقراطية للشعوب العربية والدبابات وطائرات الأباتشي تقتل الأطفال في الفلوجة والنجف, وغزة ورام الله والخليل, وتدمر حضارة شعب ومستقبل أمة, ولا شك في أن هذا التناقض ترك آثارا غاية في السوء تجاه السياسة الأمريكية في المنطقة, خاصة مع استمرار مستنقع الدم في العراق وفلسطين.
* إن الإدارة الأمريكية دخلت في مفاهيم وأساليب جديدة في التعامل مع العالم.. لقد أصبحت تمد جسورها من خلال أجهزة المخابرات, وأصبحت المخابرات الأمريكية هي التي تحدد صورة العلاقات الخارجية للقوة العظمي.. وفتحت أمريكا بورصة جديدة لدفع ملايين الدولارات لمن يقتل هذا أو يقبض علي ذاك, وهذا منطق عصابات, وليس أسلوب تعامل دول متحضرة..
لقد وجد العالم نفسه أمام علاقات غريبة تدعو إلي القتل, وتشجع علي التصفيات الجسدية, وتطالب برؤوس البشر.. وكان في ذلك تعارض كامل بين الحديث عن الحريات وحقوق الإنسان, وتشجيع أساليب عصابات القتل والتصفيات الجسدية.. ولعل هذا كان استكمالا لما حدث للآلاف في سجن جوانتانامو, حيث لا قوانين ولا محاكمات ولا ضوابط للاعتداء علي حرمة البشر..
* كان أغرب ما في هذا الشكل الجديد في العلاقات بين أمريكا والعالم الخارجي.. أنها لم تعد تسعي إلي التعامل مع الشعوب, أو حتي الحكومات, لكنها فتحت أبوابا أوسع للعملاء.. وأصبحت الدولة التي قدمت للفكر الإنساني الكثير من الرؤي والأفكار تسعي إلي تجنيد ضعاف النفوس من البشر.. وهذا سقوط إنساني رهيب, قبل أن يكون خطأ سياسيا فادحا.
* إن أمريكا التي قدمت إلي العالم صيغة متحضرة ومتوازنة في الفكر الديني من خلال تعدد الأجناس والألوان واللغات والأصول والعقائد, قد تحولت في سنوات قليلة إلي دولة تعادي الأديان الأخري, وفي مقدمتها الإسلام.. لتتحكم فيها أصولية مدمرة تتنافي مع كل ما جاءت به المسيحية من السماحة واحترام الديانات الأخري.. وسقط النموذج الأمريكي المتوازن الذي صاغته تجربة طويلة في التواصل بين الشعوب أمام رؤي قاصرة وحسابات سياسية خاطئة..
وسط هذه القراءة الأمريكية الخاطئة لكل شيء كان من الصعب جدا أن تأخذ مصر موقعها الحقيقي في فكر وقرارات الإدارة الأمريكية الحالية.. ومن هنا جاءت تجاوزات كثيرة أخذت أشكالا متعددة كان أبسطها إرسال لجان لتقصي الحقائق حول حقوق الأقليات, والعلاقات بين المسلمين والمسيحيين, ومطالبات غريبة بحقوق الشواذ جنسيا.. واقتحاما لا مبرر له لخصوصيات مجتمع يحكمه تاريخ وحضارة وتقاليد, ومحاولة اختراق واضحة لمؤسسات لها دورها ومسئولياتها أو شراء المواقف والأفكار والذمم.. وكان غريبا أن نجد بيننا من يحتمي بالسفير الأمريكي, ومن يطلب الحماية من البيت الأبيض, وأن تتسلل مواكب الحواريين في زحام المصالح والمطامع والأهداف في لقاءات وكتابات مشبوهة لا تتناسب مع قدسية القضايا وشرف المواطنة.
من أجل هذا, رفضنا وما زلنا نرفض الوجه القبيح للسياسة الأمريكية تجاه مصر في عهد الرئيس بوش, الذي يواجه الآن مستقبلا غامضا يجني فيه ثمار أخطاء دفع العالم كله ثمنها دما ودموعا واستقرارا..