هوامش حرة
عجـــــائب العـــرب العشـــــر
يكتبها: فـــاروق جـــويـــدة
عندما كنا صغارا نغرس أحلامنا البريئة علي شواطئ النيل.. كان الكون صورة جميلة تحمل كل ما احتوته قلوبنا من الأمل.. لم تكن أحلامنا مجرد نزعات فردية نرسم فيها مستقبل حياة خاصة أو رحلة نجاح.. كانت احلامنا قد تجاوزت حدود الاشخاص لتصبح شيئا أكبر من سنوات العمر واوسع من اهتمامات الأفراد.. وكانت امامنا آفاق واسعة لأن نحلم. لأن كل شئ حولنا كان يؤكد هذه الاحلام.. ولم نكن نتصور ونحن نغرس هذه الاحلام ان العمر سوف يسرقنا وان الاحلام لم تكن صادقة معنا وان هناك شيئا ما خدعنا.. وعندما اقترب القطار من محطاته الأخيرة كانت صورة المستقبلين تختلف تماما عن صورة المودعين.. ومابين لحظات البداية بكل شموخ الانسان فيها كانت لحظات النهاية بكل احزان الانكسار والسأم والمستقبل الغامض..
من كان يصدق وقوات الاحتلال الأجنبي تغادر مواقعها وتلم اشلاءها من العواصم العربية منذ سنوات بعيدة ومواكب البشر تتدفق في الشوارع تحمل رموزها علي الاعناق.. وتكفن مع بقايا المحتل الغاصب أزمنة الهوان والانكسار والمذلة.. من كان يصدق ان هذه الشوارع نفسها سوف تشهد عودة المحتل وسط مظاهرات شعبية وطابور خامس طويل يستقبله في المطارات ويرفع له الرايات.. ويحمل له التهاني بسلامة العودة من ياتري فينا تغير الاحلام.. ام الزمان.. ام البشر..؟!.
وعندما يراجع الانسان نفسه يكتشف ان هناك مشوارا طويلا من الاكاذيب.. التي اجتاحت شعوب هذه الأمة وتركتها كما نراها الآن:
* عادت القوات الأجنبية والاحتلال العسكري الغاشم يعربد في شعوبنا.. ويسرق مواردنا وينهب خيراتنا..
وعادت الشعوب مرة أخري تحمل السلاح دفاعا عن الأرض والعرض والتاريخ والهوية.. القوات الأجنبية من كل لون مابين امريكي وانجليزي وايطالي تتنطع الآن في بغداد عاصمة الرشيد.. وعاد الشعب العراقي مرة اخري يقاتل من بيت لبيت.. ومن شارع لشارع.. ولم يكن احد يتصور والقوات الانجليزية ترحل عن البلد العريق منذ عشرات السنين انها ستعود مرة اخري بشعارات جديدة.. وافلام مبتكرة واسباب أخري لتنهب خيرات دجلة والفرات.
* من كان يتصور والقوات الأجنبية تفك قواعدها وترساناتها العسكرية في العواصم العربية لتعلن نهاية الاستعمار الغاشم.. ان نجد علي أرضنا الآن قواعد أخري جاءت بإرادتنا.. وسكنت شوارعنا.. ودخلت بيوتنا.. والاغرب من وجود هذه القواعد انها اصبحت وسيلة حماية بين الأخوة والجيران ومن أراد الحماية من أخيه فليذهب الي عدوه.. وانطلقت الصواريخ من هذه القواعد لتهدم وتحطم وتدمر.. وبقدر ما كانت فرحتنا يوما برحيل المحتل.. كان حزن الأرض لعودته غير المباركة.
* من كان يتصور ان البترول نعمة الله علينا.. وهذه الثروة التي نبتت بالخير تحت اقدامنا سوف تضيع بهذه الصورة القاسية.. لا أحد يعلم حجم عائدات البترول في الدول العربية خلال نصف قرن من الزمان ولكن الرقم كبير جدا.. ومخيف جدا.. واذا بحثت أو تساءلت اين ضاعت هذه الثروة فسوف تجد كوارث كثيرة تسللت اليها.. ضاعت في حروب لا جدوي منها.. وضاعت في صفقات لا عائد من ورائها.. وضاعت في النوادي الليلية وبيوت الدعارة واوكار الشمامين والسكاري في عواصم العالم.. وضاعت علي اجهزة القمع واستلاب حريات الشعوب.. وضاعت في البنوك الاجنبية التي تحولت الي خزائن لنهب المال العام.. وتحاول ان تبحث الآن وتتساءل ماذا بقي من اموال النفط.. وتكتشف انه لم يبق شيء غير مجموعة من الطرق.. والمواصلات.. والمدارس التي يتخرج فيها الجهلاء والجامعات التي ترعي الأمية.. وما بين حروب خاسرة.. واجهزة قمع شرسة.. وحسابات سرية ضاعت اكبر فرصة للتحضر والتقدم والنمو البشري في تاريخ الانسان العربي.
* من يصدق انه لا توجد دولة عربية واحدة غير مدينة.. ابتداء من ديون الحكومات العربية التي لا تدفع حصتها لجامعة الدول العربية وانتهاء بديون مستحقة للدول والمؤسسات المالية.. والبنك الدولي وصندق النقد.. كل العرب مدينون.. ومدانون.. ولو انناحسبنا دخل كل مواطن عربي من اموال البترول لكان كافيا لان ينفق عليه مائة عام قادمة.. ولو اننا حسبنا كم من الدين علي كل مواطن عربي الآن لاكتشفنا اننا نحتاج الي مائة عام قادمة لسداد ديون العرب.. وهذا يعني اننا اضعنا مائتي عام من مستقبل هذه الأمة المائة الأولي في ضياع ثروتها.. والمائة الثانية في الاستدانة علي مستقبلها وسداد ديونها.
* من يصدق أن في العالم العربي الآن اكثر من حرب اهلية حتي وان كان بعضها لم يستخدم السلاح بعد.. هناك دول قديمة بدأت رحلتها مع الموت مبكرا مثل الصومال.. وهناك دول التأمت جراحها قليلا مثل لبنان.. وهناك دول مازالت تنزف مثل السودان.. وهناك دول لم تستطع ان توقف نزيفها مثل الجزائر وهناك كارثة اخري حلت بنا أخيرا وهي معارك الفصائل الفلسطينية مع بعضها بعضا.. وفي السعودية مواجهات دامية.. وفي اليمن حرب أهلية.. هذه هي أحوال العالم العربي الآن حيث عادت اشباح الصراعات والخلافات والانقسامات تهدد مستقبل هذه الأمة..
في جنوب السودان لم تهدأ الأحوال الا قليلا حتي اشتعلت مأساة دارفور.. والقوات الأجنبية جاهزة علي الحدود.. وفي المطارات.. ان قوات فرنسا في تشاد.. وانجلترا تستعد للعودة الي منابع النيل وامريكا تريد ان تكون في كل مكان.. وإسرائيل تراقب من بعيد. تساقط الجياد واحدا بعد الآخر.. ويسأل الانسان نفسه وسط هذا الدمار من يعيد لهذه الأمة مصادر قوتها حتي تواجه الطوفان.
* من يصدق برغم كل ما في هذه الأمة من ثروات أنها مازالت حتي الآن تتصدر قوائم الدول الاكثر امية.. والاكثر بطالة.. والاكثر فقرا.. والاكثر تصحرا.. والاقل في مستوي التعليم والقراءة.. وهذه الدول هي اغني دول العالم في الموارد وافقرها في حياة الشعوب.. لم تستطع دولة عربية واحدة ان تواجه مشكلة الامية وتقضي عليها.. ولم تستطع دولة عربية واحدة ان تقول انها انتهت من أزمة البطالة.. أو أوجدت فرص عمل لشبابها الحائر.. قد تختلف النسب بين دولة واخري ولكن الكل شريك في المأساة.
* من يصدق ان في كل العواصم العربية الآن طابورا خامسا يرحب بعودة الاستعمار ويتباكي علي ايامه الخوالي ويفتح له القلوب والبيوت والافئدة.
مئات الاقلام تكتب كل يوم وهي تدافع عن المحتل القادم سواء حمل شعارات العولمة وحقوق الانسان والمرأة المظلومة أو دخل بالدبابات واحتل الأرض واغتصب النساء ونهب الموارد.. من زمان مضي ماتت الشعوب في سبيل استقلال ارادتها وترابها الوطني.. والآن تحتفل الشعوب بعودة جلاديها.. والغريب ان المواطن العربي لا يكتفي بجلاد واحد ولكنه أختار لنفسه جلادا مقيما.. وجلادا محتلا.
* من كان يصدق ان الشعوب العربية التي خرجت للشوارع يوما تحتفل باستقلالها وتحرير أرضها من المستعمر المحتل لا تستطيع الآن ان تخرج في نفس الشوارع لتطالب بحريتها في ان تبدي رأيها أو تعلن رفضها لأي شيء.. منذ اكثر من عام لم تخرج مظاهرة في عاصمة عربية تندد بالاحتلال الامريكي للعراق.. أوبانتهاك حرمة النساء في أبوغريب. أو بإقامة الجدار الفاصل في الأرض الفلسطينية والشعب الفلسطيني الذي يموت علي أرضه كل يوم أمام عدو غاشم واداة قهر ظالمة. وهاهي القوات الأجنبية تتجه الآن الي دارفور في السودان.. والغريب في الأمر ان نتصور ان القوات الاجنبية هي التي تحمي عروشنا.. والدبابات الامريكية هي التي ستعيد حرياتنا.. وهذا كله يؤكد حالة الضياع التي تعيشها شعوب هذه الامة والافكار المشوهة التي تسكن عقولها فأفقدتها البصر والبصيرة.
* ما بين احلامنا التي رسمناها علي ضفاف سنوات العمر.. ومابين الواقع الذي نراه الآن كالاشباح فوق رؤوسنا مرت عشرات الوجوه البعض منها مازال شاخصا امامنا لم يتغير.. والبعض الآخر استنسخته الأقدار فظهر امامنا في صور لا تغيب لحظة عن عيوننا.. ومابين الشخوص والاستنساخ لم نر شيئا جديدا لان الوجوه التي طاردت سنوات عمرنا مازالت تصر علي ان تسرق البقية الباقية فيه.. وليست لنا حيلة.
* اعرف انني كتبت هذا الكلام قبل ذلك في اكثر من صورة.. واعلم ان ما كتبته اليوم لن يغير شيئا.. واعلم ان هذا الحبر الذي ينزف من شرايين العمر لا يعني أحدا.. فلا أحد طلب منا ان نكتب.. ولا أحد أمرنا ان نسكت.. ولكننا للأسف الشديد اكتشفنا بعد ان رحل العمر وتسربت سنواته اننا نحرث في البحر..