هوامش حرة
اللغة العربية.. والأمن القومي العربي
يكتبها: فـــاروق جـــويـــدة
هناك فرق كبير بين دعوات تطالب بتطوير اللغة العربية وتنقيتها من شوائب كثيرة علقت بها.. ودعوات أخري تسعي الي تدميرها.. ومن وقت لآخر يثور جدل وحوار حول موقف اللغة العربية.. هناك من يري انها تخلفت كثيرا عن روح العصر.. وهناك من يري انها في حاجة إلي زلزال كبير يحرك مياهها الراكدة وينطلق بها نحو آفاق من التطور والمعاصرة.. وهذه الدعوات كلها مطلوبة مادامت تسعي الي تأكيد أهمية اللغة العربية ليس علي المستوي الثقافي أو التعليمي.. ولكن علي المستوي السياسي والقومي لهذه الامة, فلا شيء يسبق اللغة العربية في اهميتها ودورها في جمع ما تبقي بيننا من اشلاء تناثرت بين الحروب والاحتلال والضياع السياسي والعجز بكل ألوانه.
ولاشك في أن محنة اللغة العربية قد وصلت إلي أسوأ حالاتها ومن يريد أن يتأكد من ذلك فعليه ان يراجع مستوي تعليمها في المدارس.. ودرجة استخدامها في أجهزة الاعلام والثقافة بل وصل الأمر إلي أن اللغة العربية اصبحت غريبة في بيتها وفي مؤسسة عريقة مثل الازهر الشريف.. كثيرا ما يخطئ المدرسون في تعليم اللغة العربية وكثيرا ما يخطئ العاملون في اجهزة الاعلام والثقافة في ابسط قواعدها.. وكثيرا ما يخطئ الدعاة والائمة علي المنابر وفي ساحات المساجد وهم يتحدثون لغة القرآن.
ومن جانب آخر فان الساحة مليئة بنماذج فجة في الكتابة التي تحمل اسم الإبداع حيث نري الروايات والقصص وهي تجمع كل الوان التفكك والركاكة في الاسلوب والصياغة ومدي الالتزام بأصول اللغة وجمالياتها.
ولا توجد في الكون لغة لقيطة.. ان لكل لغة جذورها ونسبها وأصولها وقواعدها واشكالها الفنية المتعددة الصور والألوان.. ومن الخطأ أن ننظر للغة علي اساس مجموعة من القواعد الشكلية الجامدة.. فإذا كانت هناك قواعد في النطق أو الحركة أو السكون, واذا كانت هناك ضوابط في النحو أو الصرف, فهناك قيم أهم واخطر تتجسد في الجوانب الجمالية للغة من الاسلوب والايقاع والصورة والقدرة علي التعبير.
وللأسف الشديد أن كل من يهاجم اللغة العربية يتوقف عند قواعد النحو والفاعل والمفعول.. وهذه ثوابت لاتوجد في اللغة العربية وحدها ولكن لكل لغات العالم ثوابتها وقواعدها الملزمة.. ولهذا ينبغي أن يكون الهدف هو تطوير اللغة في أساليبها.. وجمالياتها وقدرتها علي مواجهة ظروف ومتغيرات الحياة.. ولن يكون ذلك بالهدم, ولكن ينبغي ان يكون بالبناء.
ولوأننا تتبعنا جذور الأزمةلاكتشفنا ان لها اكثر من جانب.. يجب ان نبحث عن وسائل حديثة لجذب الطلاب إلي لغتهم.. ان هناك فجوة كبيرة بين الطلاب واللغة العربية والسبب في ذلك يرجع الي تلك المناهج المتخلفة التي تفرض عليهم نماذج لغوية لاتتناسب مع روح العصر ومتغيرات الحياة.. مازال الاسلوب التقليدي في تعليم اللغة العربية هو السائد.. وما زالت نماذج الشعر القديم بكلماته المعقدة وصوره البعيدة عن الفهم تقف حائلا بين ابنائنا وعشق لغتهم العربية.. وفي شعرنا القديم نماذج سهلة واساليب مفهومة ولاينبغي ابدا أن يكون الاختيار الخاطئ للنماذج الشعرية والنثرية عقبة امام أبنائنا تجعلهم يهربون من لغتهم.
ولا مانع هنا من استخدام التكنولوجيا الحديثة في الكمبيوتر والانترنت من أجل تشجيع الاجيال الجديدة علي التعامل مع لغتها.
ان نقطة البداية ان يكون هناك مصالحة, بين النص اللغوي.. والعقول الشابة.. ولايعقل ان نطبق في مدارسنا نفس القواعد في تعليم اللغة العربية كما تعلمتها أجيال سبقت من خمسين عاما مضت.. هناك وسائل حديثة في تعليم اللغات يجب أن نطبقها في مدارسنا.
يأتي بعد ذلك دور الاعلام, وليس معني أن يجيد المتحدث اللغة العربية الا يكون بسيطا في اختيار الالفاظ أو متعاليا في طريقة الحوار أو قادما الينا من عصور مضت.. ليس من الصعب ابدا أن تكون هناك لغة بسيطة تحافظ علي ثوابت اللغة العربية ولكنها تحمل في نفس الوقت روح الزمن الذي نعيشه, والعصر الذي لانستطيع الخروج منه.
وهذا ينطبق علي احاديث العلماء ورجال الدين والمفكرين وكبار المثقفين.. يجب أن يكونوا قدوة في البساطة والقدرة علي الاقناع بعيدا عن التقعر واستخدام الكلمات الغريبة.. وفي نفس الوقت يجب أن يكون هناك حرص كامل علي استخدام اللغة الفصحي لأنها النموذج خاصة في البرامج الثقافية والفكرية والحوارات ونشرات الأخبار و الموضوعات التسجيلية لأن ذلك يمثل دروسا في اللغة قبل أن يكون عملا اعلاميا.
ولا أدري ماهو السبيل لتقديم مدرس عصري للغة العربية خاصة ان الثانوية العامة هي التي تدفع بالآلاف من الطلاب الي كليات اللغة العربية والتربية ودار العلوم وللأسف الشديد انهم يدخلون هذه الكليات ليس حبا في لغتهم ولكن امام ضرورات المجموع.. ان هذه الكليات في حاجة الي أجيال جديدة تدرس لغتها من منطلق الحب والاحساس بقيمها, وهذه الأجيال لن تخرج من مدارس مازالت حتي الآن تقدم اللغة العربية في صورة غريبة لاتتناسب مع الزمن.. وماينطبق علي الجامعات والمدارس ينطبق ايضا علي وسائل تدريس اللغة العربية في معاهد الأزهر وجامعته العريقة.
ولاشك في ان اهمال اللغة العربية انعكس بصورة واضحة علي مستوي الابداع في الشعر والقصة والرواية والاغنية.. لقد صارت اللغة الفصحي غريبة في كل هذه المجالات.. ومنذ سنوات مضت كان استخدام بعض الكلمات العامية في قصة أو رواية مثار قلق بين المبدعين الكبار, ولكننا الآن نقرأ روايات كاملة ليست فيها جملة واحدة باللغة العربية الفصحي.. وهذا يحتاج الي مراجعة من كبار مبدعينا ونقادنا, حتي لايأتي يوم لانري فيه عملا ابداعيا باللغة الفصحي.
والغريب في الأمر ان البعض يشن هجوما ضاريا علي اللغة العربية الفصحي وهناك من يطالب بالغاء النحو.. والتوسع في استخدام العامية.. وتخليص اللغة من قواعدها وهذه دعوات تحتاج الي مراجعة حكيمة.. ان الغاء النحو يعني انه لافاعل في اللغة ولا مفعول.. وإلغاء النحو يعني إلغاء حروف التذكير والتأنيث.. وإلغاء النحو يعني أن نجد انفسنا امام هيكل عظمي متآكل للغة عريقة تمتد في أعماق التاريخ ويتحدث بها الآن أكثر من300 مليون انسان.. وهذا ليس من الحكمة في شيء.
ولا استطيع ان أفصل ذلك كله عن البعد السياسي الذي يسعي من خلاله البعض إلي تهميش وتسطيح اللغة العربية الفصحي.. واذا كانت كل دولة عربية تسعي الآن لدور خاص بها.. واذا كان كل شعب يريد ان يعيش لنفسه. واذا كانت العلاقات الثقافية والسياسية بين العرب تشهد أسوأ مراحلها بأن كل بلد عربي يسعي الآن الي تعميق لهجته المحلية.. وهنا انتشر مايسمي بالشعر النبطي في دول الخليج, وانتشرت اللهجات العامية في دول أخري.. وهذا كله يصب في هدف واحد هو تقطيع جسور التواصل بين الشعوب العربية علي المستوي الثقافي, وهو هدف تسعي اليه اطراف كثيرة, ان تهميش دور اللغة العربية الفصحي في حياة الشعوب العربية وبين اجيالها الجديدة سوف يصل بها يوما الي درجة القطيعة الثقافية.. وهنا سيحدث انفصال كامل عن الواقع الذي نعيشه.. والتاريخ الذي ربط بيننا.. والجذور التي امتدت قرونا طويلة في تشكيل الثقافة العربية.. ولهذا فإن الدعوة لتطوير اللغة العربية يجب أن يكون هدفها تأكيد هذه اللغة وليس التشكيك في قدرتها علي الاستمرار.
وبجانب هذا فان اللغة العربية لغة القرآن الكريم, وهذا يعني أن تراجعها, شئنا أم أبينا, سيكون علي حساب عقيدتنا الدينية.. وهناك اطراف دولية كثيرة تحاول النيل من ثقافتنا وديننا ولغتنا تحت دعاوي كاذبة ان هذه الثقافة تصنع الارهاب.
أن اللغة العربية واحدة من أعرق وأجمل وأثري اللغات في العالم وبقدر حرصنا علي تطويرها ومواجهة الظروف الصعبة التي تعاني منها سيكون مستقبلها.. أما اذا اتجه البعض منا الي توجيه السهام اليها فهذا لن يخدم لغتنا ولكنه يخدم اطرافا اخري كلنا نعرفها تسعي الآن الي ضرب جذور هذه الامة.
لقد شهدت السنوات الأخيرة عشرات المؤتمرات التي تطالب بحماية اللغة العربية.. وهنا يجب أن نطالب بالحماية ليس علي المستوي الثقافي فقط ولكن علي المستوي السياسي والقومي.. لأن اللغة العربية في حقيقة الأمر تدخل في اطار قضايا الأمن القومي العربي.. وفي ظل دعوات مشبوهة لشرذمة العالم العربي وتشويه تاريخه.. وضرب ثقافته تقف اللغة العربية في مقدمة هذه الاهداف, فلا أحد يريد الآن للعرب أن يجمعهم تاريخ واحد.. ولغة واحدة وعلي الأجيال الجديدة التي يجري الآن استنساخها ان تتشكل في ظل واقع جديد بلا جذور أو هوية..أو انتماء. وهذه دعوات يجب أن نتصدي لها حتي لايصبح العرب يوما أمة بلا لغة.. ولاتاريخ.
جريدة الأهرام
جريدة الأهرام