هوامش حرة
قيمة عليا..اسمها الوطن
يكتبها: فـــاروق جـــويـــدة
لا شك في أن الأفكار تحركها قوي كبري.. وأن الفكرة مهما كانت عظيمة ستبقي شيئا مجردا محدود الأثر في عقول أصحابها.. ولكنها تتحول إلي شيء آخر إذا وجدت قوة تساندها بل وتفرضها.. إنها في هذه الحالة تتجاوز الحدود والأماكن وتصبح قادرة علي أن تكسب أرضا وبشرا وزمانا وتأثيرا..
لو أن الشيوعية بقيت مجرد فكرة في كتاب رأس المال لماركس ما تركت هذا الأثر الرهيب في عشرات الأجيال التي تأثرت بالنظرية الماركسية.. وعاشتها واقعا وفكرا وخيالا.. ابتداء بالسجون والمعتقلات وانتهاء بالجنة الموعودة التي لم تتحقق..
ولو أن الرأسمالية الغربية بقيت مجموعة أفكار صاغتها عقول جامحة ما تحولت إلي هذا الكيان الرهيب أمام مجموعة من المغامرين الرأسماليين الذين فرضوها بقوة السلاح والهيمنة والاستعمار.. ولهذا بقيت القوة هي الوسيلة الوحيدة القادرة علي فرض الأفكار وتحويلها إلي حقائق..
في عصور الاحتلال لم تكن الأرض والثروات هما الغنيمة الوحيدة التي أكلها الاستعمار.. ولكن كانت عقول الشعوب من أخطر الغنائم التي سطا عليها المستعمر وترك فيها بصماته.. وقد أدي ذلك في أحيان كثيرة إلي انقسامات حادة بين أبناء الشعب الواحد فلم يكن غريبا أن تجد من يساند الاحتلال والاستعمار ويقف معه ويعمل لحسابه دون أن يشعر بأنه يفعل شيئا يتناقض تماما مع إحساس عظيم اسمه' الانتماء' وقيمة عليا اسمها' الوطن'..
وفي كثير من دول العالم وصلت الأحزاب الشيوعية في قمة المد الشيوعي إلي مواجهات مع أبناء الشعب الواحد وكانت هذه الأحزاب تري أن الانتماء للفكر الشيوعي يسبق الانتماء للوطن.. ولا نستطيع أن نتجاهل أثر الاستعمار بما حمله من كل ألوان الهيمنة الفكرية علي اللغة والثقافة والفكر.. وهناك دول نسيت لغتها وما زالت تعاني حتي الآن من ضياع لغتها وفقدان هويتها..
وفي عصرنا الحديث نسمع ونري من يحاول أن يبرر لنا صيغة الانتماء في وجهها التكنولوجي الحديث.. ويقول هؤلاء: إننا لم نعد ننتمي للأوطان ولكننا ننتمي للسماوات المفتوحة التي تقتحم بيوتنا وتتسلل إلي عقولنا وأن المطلوب منا أن نستسلم لهذا الانتماء الجديد القادم لنا من السماء ونترك له كل شيء ليفعل بنا ما يريد..
إن المطلوب منا أن نقدم صيغة جديدة للانتماء لأن حضارة هذا العصر لا تؤمن إلا بمنطق الاستنساخ وإذا لم نكن من هذه الأجيال الجديدة التي يجري استنساخها فسوف نكون خارج العصر والزمان..
والأغرب من ذلك كله أن فتح أبواب السماء بالثقافة المحمولة جوا أعطي للبعض الحق في أن يجري عمليات الاستنساخ الداخلي أيضا.. ومن هنا اختلت كل الموازين القديمة في العلاقة مع الآخرين..
كانت هناك ضوابط والتزامات تفرضها مشاعر الانتماء حول أمن الوطن وأسراره واستقراره وثوابته وقيمه.. ولكن هذه الخصوصية سقطت أمام دعاوي أن كل شيء معروف وأن قوي التكنولوجيا تستطيع أن تصل إلي كل شيء.. فليست هناك أسرار بعد اليوم.. لا أسرار للجيوش.. ولا أسرار للثوابت.. ولا حتي أسرار للبيوت.. ومن هنا حدثت تداخلات شديدة في خصوصيات الشعوب بل حدثت عمليات اقتحام جريئة اجتاحت كل شيء في السلوك والثقافة حتي وصلت إلي ساحات الشذوذ والانحراف باسم الثقافة الكونية التي تطالب شعوب العالم بطريقة واحدة في الفكر والسلوك..
وحملت هذه المحاولات كل الأفكار البراقة عن الحريات وحقوق الإنسان وحرية الفكر والعقيدة.. وكلها أفكار عظيمة في ظاهرها.. ولكننا نسينا أن كل هذه الأفكار تحركها مصالح وأهداف.. وأن هذه المصالح تسعي إلي كسب أرض جديدة وأن هدفها الأول هو عقول الشعوب وأسلوب حياتها.. وكما كان الاستعمار في أزمنة مضت يشتري الأقلام والعقول والأدوار والذمم فإن الأسواق اليوم تجري وراء كل هذه الألوان من البيع والشراء ابتداء بترويج الأفكار وانتهاء بشراء البشر..
وفي هذا المزاد فإن كل شيء قابل للشراء ابتداء برؤوس الشهداء الذين يقتلون من أجل أوطانهم وانتهاء برؤوس عفنة لديها استعداد لأن تمارس كل ألوان الدعارة ابتداء بالفكر وانتهاء بالجسد..
إن الغريب في الأمر أن الصورة واضحة تماما أمام الجميع فالقضية ليست قضية أفكار عظيمة ولكنها قضية قوة غاشمة تستخدم كل الأساليب لتحقيق أهدافها حتي ولو زينتها بشعارات كاذبة..
وإذا كان البعض يحاول تجميل صورة هذه القوة من خلال إطار فكري براق فإن الزيف واضح والمؤامرة مكشوفة.. إن من يدفعون ملايين الدولارات لشراء رؤوس الشهداء يدفعون مثلها لشراء عقول العملاء..
وهنا نعود إلي كلمة غابت عن قاموس أيامنا ألا وهي' الانتماء'.. فلقد جربت شعوب العالم كل أنواع الانتماء الكاذب عندما هرولت وراء أفكار لا تنتمي إلي الأرض ولا إلي التاريخ ولا إلي الثوابت ثم عادت من رحلتها خاسرة.. إن الانتماء الحقيقي أن نحرص علي حماية قدراتنا وليس الاعتماد علي قدرات الآخرين.. وعلينا أن نراجع خريطة ما نراه حولنا حتي نستوعب الشواهد:
إن ما يجري في العراق بين القوات الأمريكية الغازية والشعب العراقي العظيم يعكس معركة حقيقية بين انتماء أصيل لشعب يموت علي أرضه وترابه وبين أكاذيب براقة يروجها البعض تتحدث عن حقوق الإنسان والحريات أمام شعب يموت كل يوم.. كيف يكون الفكر المزيف انتماء حقيقيا.. وكيف يتساوي من يبيعون ويقبضون.. ومن يستشهدون.. علي الرغم من أن الوطن واحد والكل يتغني بالانتماء..
ما يجري في فلسطين المحتلة.. هناك من يتفاوض في الغرف المكيفة ويتحدث عن السلام القادم بينما تتناثر أشلاء الشهداء كل يوم علي أرض فلسطين.. أي الانتماءات هو الحق.. من يدافع عن الوطن أم من يتآمر عليه!..
ما يجري في الساحة العربية من هرولة إلي السفارات والفضائيات والبرامج والإذاعات وأجهزة الإعلام والرحلات المكوكية هنا وهناك.. والكل يتحدث عن الحريات المقبلة ولا يتحدث عن القواعد العسكرية المقامة في معظم العواصم العربية.. وتتناثر الوجوه علي الشاشات مثل الغبار.. وتتكاثر مثل الجراثيم.. كانت الصور في الماضي واضحة أمام الجميع.. وكانت المعارك مكشوفة والخصم أمام العين.. في عصور الاحتلال كانت الشعوب تعرف أبواق المستعمر وأساليب المحتل.. لكن الغريب الآن أن الأبواق تطاردنا من كل مكان وتتسلل وراء أقنعة كاذبة تتاجر باسم الوطن وتتغني باسم المستقبل وتتشدق باسم الحريات..
إن سماوات الفكر المشوش والعري والشذوذ لا يمكن أن تكون طريقا إلي مستقبل شعوب آمنة تسعي إلي حياة كريمة.. وهذه الأفكار الخادعة البراقة التي تتخفي وراء كلمات ضخمة مثل الحرية وحقوق الإنسان ليست أكثر من مؤامرة جديدة لاستعمار جديد واغتصاب مشروع واحتلال تحميه الشعوب العاجزة..
إن الانتماء الحقيقي الذي سالت دماء أجدادنا وآبائنا من أجله دفاعا عن الأرض والقيمة والتاريخ لا مكان له الآن وسط هذا المزاد الذي تباع فيه بالدولارات رؤوس الشهداء وعقول الشباب ومستقبل الأمة..
وفي أسوأ عصور الاحتلال ضراوة لم تكن المواكب تتدفق علي السفارات وتستقبل القادمين وتتلقي المعونات كما يحدث الآن.. وكان هناك حساب عسير لمن يقترب من هذه المناطق الشائكة وكان الحساب من الناس قبل أن يجيء من السلطة وأصحاب القرار.. وكان التعامل مع كل ما هو أجنبي مشبوه محل تساؤل وشك وارتياب لأن أمن الوطن كان يسبق كل شيء.. ولكننا الآن نري أشياء غريبة وصلت إلي درجة' البجاحة' في طلب الحماية والجنسيات المزدوجة والعمل المدني ووسائل تمويله وأنشطة السفارات وحدود مسئولياتها ودورها.. هناك تجاوزات كثيرة وكثيرة جدا في كل هذه الأحوال لا تجد من يضع خطوطا حمراء بين ما هو مباح.. وما هو مستباح..
ولهذا غابت عنا كلمة قديمة اسمها' الانتماء'..
عندما يتصور الإنسان أن هناك وطنا أخر غير وطنه يمكن أن يحميه ويحقق له أحلامه ويعطيه الفرصة.. فهذه ليست إهانة للوطن وحده ولكنها إهانة لكل ما فيه ومن فيه..
عندما تتوافد وفود المهرولين تقدم الخدمات وتبارك الخطايا والأخطاء ولا تفرق بين عدو غاصب.وفكرة عظيمة وتخفي الأكاذيب خلف الشعارات البراقة.. فإن ذلك يتعارض مع أبسط قيم الانتماء الحقيقي..
باختصار شديد.. أردت من ذلك كله أن أنبه إلي أن هناك عمليات اختراق ضارية تجري أمام أعيننا جميعا مواطنين وأصحاب قرار وللأسف الشديد فإنها لا تأتي من السماوات المفتوحة.. ولكنها تأتي من الأوطان الغائبة عن الوعي.. ولنا أن نتصور أجيالا جديدة تري أن جواز السفر الأمريكي هو مصدر الحماية.. وأن كل شيء يمكن أن يباع.. وأن الأكاذيب تغطي كل الحقائق.. وأن الطريق إلي الأحلام يعبر من تل أبيب أو واشنطن.. وبعد ذلك نتحدث عن شيء قديم اسمه' الانتماء'.. وشيء عظيم كان.. اسمه
' الوطن '!!.