هوامش حرة
إبراهيم شكري وثلاثية الأحزان
يكتبها: فاروق جـــويـدة
لم يكن إبراهيم شكري يستحق هذه النهاية الحزينة ليقضي أخريات أيامه بين ثلاثية الأحزان.. المرض والشيخوخة والجحود.. ان الرجل الذي وهب حياته بكل تجرد وسخاء لهذا الوطن كان يستحق نهاية أفضل وتكريما يليق بمشواره العظيم في خدمة مصر.. ولكننا في أحيان كثيرة لا نفرق بين خلافات الرأي والأفكار.. وصراعات الأشخاص والمصالح مماجعلنا لا ندرك قيمة الرموز الحقيقية التي صاغت مواقف ونضال هذا الشعب, وقدمت له أعظم ما فيه..
لم يكن إبراهيم شكري يستحق كل هذا التجاهل الذي استباح أيامه الأخيرة وهو يعيش خريف عمره.. هذا المجاهد العظيم الذي حمل رأسه علي كفه منذ بدأ نضاله السياسي في شبابه ضد الملك سجينـا ومعارضا وصاحب قضية, ثم أكمل مسيرته ليطالب بإعادة توزيع الأراضي ويبدأ بنفسه ويقوم بتنفيذ مشروعه قبل أن يعلن ثوار يوليو قوانين الإصلاح الزراعي بسنوات.. ولم يكن إبراهيم شكري يوزع أرضا حصل عليها بقرار تخصيص من وزير أو مسئول أو آلت إليه من الحراسات والتأميمات مثل الذين ورثوا الثورة والشعب معا ولكنه كان يوزع ميراثه عن أبيه.. ودخل إبراهيم شكري معارك كثيرة وصال وجال في معترك السياسة وزيرا ومحافظـا ورئيس حزب سياسي.. وفي كل هذه المراحل كان الرجل واضحا وصريحا في نشر رسالته نحو العدالة الاجتماعية والحرية السياسية والشفافية في التعامل مع قضايا الوطن..
رحل إبراهيم شكري دون أن يفصح لنا عن أشياء كثيرة حملها قلبه المثقل بسنوات العمر وهو يتساءل عن المصير الذي آلت إليه أحوال مصر السياسية وهو يري حزبه السياسي يدفن أمامه حيا ويري صحيفته تصادر بقرار دون أن يدافع عنها أحد..
كانت نهاية حزب العمل وإغلاق صحيفة الشعب هي آخر مشوار إبراهيم شكري مع العمل السياسي وكانت أكثر الصفحات الدامية في حياة الرجل خاصة بعد عشرات الأحكام القضائية التي أصدرتها المحاكم المصرية بدرجاتها المختلفة بعودة الحزب والجريدة ولكن لا حياة لمن تنادي.. كانت نهاية حزب العمل نهاية حزينة فقد تم اغتياله في ظروف غامضة وفي قصة وملابسات غريبة ومهما كانت تجاوزات الحزب وأخطاء الصحيفة فأنا لا أري مبررا لأن نعالج الأخطاء بأخطاء أكبر..
رواية هزيلة تقتحم الحياة الثقافية في مصر تسمي وليمة لأعشاب البحر.. تثور الدنيا ولا تهدأ يتباكي البعض علي حرية الإبداع ومسئولية الفن والفنان.. ينقسم الشارع المصري بين مؤيد ومعارض.. تتزعم جريدة الشعب حملة ضد الرواية.. تتصاعد الأحداث بسرعة غريبة وتقرر الحكومة في ضربة واحدة وقف إصدار الصحيفة.. وإغلاق أبواب حزب العمل.. كانت سابقة خطيرة في الحياة السياسية المصرية أن يكون الخلاف حول رواية هزيلة القيمة سببا في كل هذا الدمار الذي لحق بالصحيفة والحزب معا..
ولكن خلف هذا الدخان الكثيف وهذه المعارك الدامية كانت هناك حقائق أكبر من وليمة أعشاب البحر الفاسدة وكانت هناك حيتان أكبر تلعب في الساحة وكان هناك مناخ ثقافي متواطيء تكشفت بعد ذلك ملامحه القبيحة..
لم تكن الرواية هي السبب في إغلاق الحزب والجريدة ولكن كانت هناك رؤوس قد أينعت وكان ينبغي قطافها ولكن كانت رأس الحزب والجريدة هي الأقرب من رؤوس أخري كانت هي الأحق والأجدر بهذه النهاية.. وبدا للناس أن الرواية هي السبب رغم أن الحقيقة كانت تؤكد أننا أمام جريمة فساد وليست جريمة لأعشاب البحر..
وبقي هذا السر الغامض الذي أطاح بأحلام إبراهيم شكري في إنشاء حزب صاحب دور ورسالة وصحيفة قادرة علي مواجهة مواكب الفساد..
مع اختفاء الحزب وغياب الصحيفة بدأت رحلة دفاع عن الحق الضائع, وبين سراديب المحاكم والقضايا عاش إبراهيم شكري سنواته الأخيرة يحاول إنقاذ الحزب وعودة الصحيفة ولكن أحكام القضاء لم تنجح في إنقاذ حلمه المهزوم..
والحقيقة أن إبراهيم شكري لم يشعر بالظلم فقط من قرارات جائرة أغلقت صحيفته أو دمرت حزبا سياسيا وليدا ولكن الظلم الأكبر الذي شعر به هو هذا الموقف الغريب من المناخ الثقافي في مصر الذي أدار معركة ضارية دفاعا عن رواية هزيلة استخدمت فيها السلطة كل أجهزتها ولم يحرك ساكنـا أمام إلغاء حزب وإلغاء جريدة.. انتقلت المعركة كلها إلي أرض الرواية وتركت الساحة خالية تماما لتعصف الأحداث والأقلام المتواطئة بالحزب وجريدته.. شعر إبراهيم شكري بظلم فادح لأن الواقع الثقافي المصري الذي يدرك تاريخ الرجل ودوره ومكانته كان ينبغي أن يدافع عن حق الحزب في الوجود وحق الجريدة في الصدور حتي ولو كان الخلاف بينهما ما بين السماء والأرض كان إبراهيم شكري يري أن تاريخه لم يشفع له أمام اتهامات باطلة بأنه عقد صفقة مع الاخوان المسلمين ونسينا في زحمة الاتهامات من هو إبراهيم شكري وما هو تاريخه ومواقفه وفكره..
منذ سنوات قليلة كنت أجلس مع واحد من مثقفينا الكبار في مكتبة الاسكندرية وأمام جمع من المثقفين خاطبني قائلا' لن أنسي لك هجومك الضاري علي رواية وليمة لأعشاب البحر. ان هذا الموقف سيظل محسوبا عليك..' قلت له يا سيدي لم تكن وليمة ولكنها كانت جريمة لقد كتبت ضد هذه الرواية منذ سنوات ولو عاد الزمن بنا للوراء لفعلت ما فعلت دون تردد.. وإذا كنت أنت قد دافعت عن هذه الرواية بكل ما ملكت من النفوذ والأقلام والمنتفعين حولك من كبار المثقفين وصغارهم لماذا لم تدافع عن إبراهيم شكري وحزبه وصحيفته وتاريخه.. من كان الأولي بالدفاع.. حزب سياسي في بداية تجربة سياسية واعدة وصحيفة وزعيم له تاريخ.. أم رواية هزيلة لا تستحق سطرين في مقال..
لقد أخطأ المثقفون المصريون باختلاف انتماءاتهم عندما تركوا إبراهيم شكري يواجه مصيره وحيدا ولكن متي كانت قضايا الفكر والرأي والخلاف هي شاغل المثقفين المصريين وغايتهم..
لاشك أن إبراهيم شكري كان يشعر بالمرارة ليس من موقف الحكومة التي أجهضت تجربته السياسية في الحزب والصحيفة ولكن من هذا التواطؤ الغريب بين قرارات الحكومة وموقف المثقفين في هذه المحنة..
لم تكن المعركة حول رواية هزيلة ولكن المعركة كانت بين جبهة تدافع عن الفساد من المنتفعين وأصحاب المصالح وجبهة أخري تسعي لإقرار حوار حقيقي عن مسئولية الفن والمعني الحقيقي للالتزام..
وكان من الصعب علي رجل مثل إبراهيم شكري أن يترك الساحة رغم سنوات العمر وقسوة المرض ومرارة الجحود.. كنت أتابع أخباره من بعيد فقد التقينا مرات قليلة وكانت له في قلبي مكانة خاصة وكنت أدرك عن يقين أنه من الرموز المضيئة في تاريخ مصر التي ينبغي أن يلتف حولها الشرفاء من كل لون وأنه من الظلم له ولنا أن نحسبه علي أي اتجاه.. غير أنه محب لهذا الوطن.. وانسحب إبراهيم شكري من الحياة تماما وظل طوال السنوات الأخيرة قابعا في بيته لا يشارك في شيء.. وإذا سامحنا إبراهيم شكري وهو الآن في رحاب ربه في كل شيء فهو لن يسامحنا أبدا عندما تركناه وحيدا يحاول إنقاذ حلمه الذي سقط داميا بين إجراءات حكومية ظالمة وواقع ثقافي وسياسي مترهل لم يعد يدرك مسئولية الحفاظ علي رموزه. لقد أخطأت الدولة حينما أجهضت حلم إبراهيم شكري وأخطأ الوسط الثقافي حينما شارك في جريمة إجهاض هذا الحلم صمتـا أو تواطئـا..
وفي الأسبوع الماضي خرجت الجموع وراء إبراهيم شكري تودع رمزا وزمانـا وقيمة.. أما الرمز فهو باق لأن الرموز لا تموت.. وأما الزمن فهيهات أن يعود.. وأما القيمة فهي درس لأجيال ستجيء ربما أدركت أكثر منا معني العطاء والتضحية وأقدار الرجال..
والخلاصة عندي: أن الخلاف بين إبراهيم شكري والحكومة لم يكن يبرر إلغاء حزب وإغلاق صحيفة مهما كانت درجة هذا الخلاف ومهما كانت حدود التجاوز في سياسة الحزب أو لغة الصحيفة كما أن الخلاف بين الحكومة وشكري لم يكن يبرر أبدا هذا الموقف المتناقض لكتيبة المثقفين المدافعين عن الحكومة في أن يدافعوا عن رواية هزيلة.. ويتجاهلوا قضية أكبر هي إغلاق صحيفة واغتيال حزب سياسي.. كل هذه الإجراءات والقرارات كانت تحتاج لقدر أكبر من الحكمة وفهم أوسع لقيمة عظيمة اسمها الحوار..
ليس الهدف من هذا الحديث أن ننكأ جراحا هدأت ولكنني أتمني أن يكون رحيل إبراهيم شكري فرصة لأن نراجع أخطاءنا وأن نحاسب أنفسنا حتي ولو كان ذلك بعد فوات الأوان..
fgoweda@ahram.org.eg
ويبقي الشعر
هذا تراب القدس يحمل أعظمـــــــي
وتـكـفن الجسد النحيل صلاتـــــــي
هذا المدي قبري.. وتلك نهايتــــــــي
فالمجد بيتي.. والعلا شرفاتــــــــي
أنا صيحة الحق الجسور تفجــــــرت
في ظلمة اليأس الطويل العاتـــــــي
أنا صرخة الأمل الوليــد تحجـــــرت
في عين طفل زائغ النظــــــــرات
أنا فرحة بين الصغــــــار وبسمـــــــة
تسري كضوء الصبح في الطرقـات
أنا نظرة القدس الحزينــــة كلمـــــــــا
نزفت علي يدها عيــــــون فتــــــــاة
***
الآن أرقب وجه كــــــــــل صغيـــــــرة
رفعت جبين القدس في الساحــــــــات
وطني الذي يوما جننـت بحبــــــــــــــه
مازال حلمي.. قصــــتي.. مأساتـــــي
قد عشت أحلم أن أموت بأرضــــــــــه
ويكون آخر ما طــــوت صفحـــــاتــي
إني أراه يطـــل مــــن عليـــــــــائـــــــه
مثل الجبال الشــــم في النكـــــبــــــات
فإذا تواري الوجه عودوا واسمعـــــــوا
في كل فاجعة صـــــدي كلمـــــاتــــــي
ولتذكروني كلمــــا لاحـــــــت لكـــــــم
في ظلمة الوطن الحـــزيـــــن حيـاتي
سيطل طفل من رمــــــــاد بيــــوتنــــــا
ويطوف فوق القــــدس بالــــرايـــــات
يا رب فلتقبـــــل شهيــــــدا يرتجــــــي
منك الشهادة عنـــد كل صـــــــــــلاة
اجمع بعين القدس يومـــــا أمـــــتـــــي
وانثــر علي أرض الصمود رفـاتـــي
ولـتـنـثـروا جسدي علي أرض الهـــدي
في القدس.. في سيناء.. في عرفات
صلوا علي الجسد النحيــل وأغلـــقـــــوا
عيني علي الوطــن الحبيب الآتـــــــي
ولتدفنوني يا رفــاقـــــــــــــي واقفـــــــــا
لن ينحني رأسي لقهـــــر طـغــــــــــاة
فأنا الصمود.. أنا الشموخ.. أنا الردي
أنا لن أسلم رايتـــــــي.. لغـــــــــــزاة