مالذي تغير فينا ؟

هوامش حرة

مالذي تغير فينا ؟

يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـدة



كنا في يوم من الأيام نسمع أغنية وطنية فتهتز أعماقنا وتذوب مشاعرنا حبا في مصر ترابا وتاريخا وبشرا‏..‏ وكنا لانري النيل نهرا يمشي علي الأرض بل شريانا يتدفق في قلوبنا‏..‏ وكنا نردد كثيرا كلمات الولاء والانتماء والوطن‏..‏ وكنا نشعر بأن التماثيل والمعابد والآثار ليست تاريخا مضي ولكنها واقعا نحياه‏..‏ وكانت خضرة الأرض علي جانبي النيل لاتحمل فقط ثمار الخير لنا ولكنها تمثل أحلاما بطول هذا النهر العملاق‏..‏ كنا نحزن كثيرا إذا ابتعدنا لحظة عن أرضنا وكنا من الشعوب التي تكره الهجرة ولاتسعي للرحيل‏.‏



كانت هذه هي مشاعرنا كشعب عاشق لوطن جميل‏..‏ مالذي تغير فينا‏..‏ وماذا حدث للأجيال الجديدة‏..‏ كيف اختفت مشاعر الانتماء بهذه الصورة القاسية ألتي أخذت أشكالا في غاية السلبية في سلوكيات شباب صغير واعد تتفتح أمامه أبواب المستقبل‏..‏ هل هي أنانية أجيال اخذت كل شيء وتركت الفتات لأجيال تتصارع أمام احلام متكسرة وآمال مهزومة‏.‏ لابد أن نعترف بأن مشاعر الانتماء لم تعد كما كانت وأن نظرتنا لمعني ألوطن والإنسان لم تعد تلك النظرة القديمة التي نشأت عليها اجيال وأجيال‏..‏



فهل يرجع ذلك إلي ظروف الحياة بصفة عامة التي غيرت الكثير من المفاهيم لكي تغرقنا في مفاهيم أخري عن العولمة والآخر وحوار الحضارات والكون والقرية الصغيرة‏..‏ هل هي التكنولجيا التي ذابت فيها الحدود بين الأوطان والشعوب والبشر‏..‏ هل هي لغة المال التي اخذت في طريقها مجموعة القيم التي تربي الإنسان عليها سنوات طويلة‏..‏ هل هو التفكك الأسري أو التحلل الاجتماعي ألذي افسد العلاقات الإنسانية بين ابناء الوطن الواحد‏..‏ هل هي تكنولوجيا المعلومات التي جعلت الانسان يعيش في أكثر من وطن ويحلم بألف مكان وهو قابع في بيته يشاهد جوانب التقدم والرفاهية في حياة شعوب أخري‏..‏ لاشك أن مشاعر الأنتماء مجموعة من القيم والمشاعر التي يغرسها المجتمع في أعماق أبنائه مثل الاشجار تماما‏..‏ وكلما توليناها بالرعاية والأهتمام إمتدت فروعها وجذورها واعطتنا الثمار‏..‏ ولابد أن نعترف اننا اهملنا هذه الأشجار بل إننا قطعنا جذورها في أحيان كثيرة واستبدلنا أشجارنا العتيقة بحشائش غريبة تسللت الي كل شيء في حياتنا وأصبحت هي القدوة والنموذج والاصل‏.‏


*‏ لقد غاب عن الاسرة الأب الواعي المثقف المستنير وسافر بحثا عن المال للخارج أو سافر لتوفير مصادر الرزق في الداخل ومابين غربة في السفر وغربة في الوطن غابت مشاعر ومسئوليات كثيرة‏..‏ افتقدت الأسرة الأب القدوة الذي كنا نلتف حوله ويحكي لنا حقيقة ام خيالا أمجاد وتاريخ أشخاص رحلوا‏..‏ هذا الأب الواعي الذي يراقب كل شيء ويعلم كل مايدور بين ابنائه وكانت في البيت مكتبة صغيرة واذاعة تشعل وجدانا واساليب بدائية في المعرفة ولكنها كانت مؤثرة للغاية‏..‏ ومنذ اختفي دور الأب اختفت أشياء كثيرة أمام أم مجهدة مابين العمل وطابور الجمعية أو طوابير العيش وسخافات الشارع والمواصلات ورفاق العمل‏..‏ وهنا غاب دور الأسرة وغاب معها جزء عزيز من المشاعر التي كانت تشكل منظومة جميلة اسمها الانتماء للأسرة‏.‏


*‏ غاب عن المدرسة الأستاذ الموجه المثقف القادر علي احتواء تلاميذه بالعلم والأحترام وانتقل من قدسية المعلم الي دور المدرس الخصوصي ومابينهما فقد الكثير من تأثيره ودوره واحترامه وأمام متطلبات الحياة ومرتبات هزيلة جلس المدرس في بيته ينتظر تلاميذه وكل واحد منهم يحمل مظروفا يتسلمه في نهاية الحصة‏..‏ وفقد المدرس أمام هذه التركيبة الكثير من شموخه وجلاله‏..‏ وهوماحدث أيضا في الجامعات أمام تكدس الآلاف من الطلاب في مدرجات صغيرة‏..‏ وأمام المذكرات والمحاضرات السريعة وعمليات التلقين وإلغاء العقل‏..‏ وبعد أن كان المدرس وأستاذ الجامعة من أهم الحلقات التي تتشكل من خلالها نماذج القدوة غاب هذا الدور وفقدنا شيئا عزيزا اسمه الانتماء للعلم والمعرفة‏..‏


*‏ مابين الحرب والسلام والعدو واللا عدو‏..‏ وثقافة الحرب وثقافة السلام وغياب النماذج المؤثرة في حياة الأجيال الجديدة سقطت مفاهيم كثيرة



لقد عاشت أجيال كثيرة تتغني بالأرض والشهداء والدماءوالكرامة‏..‏ ثم طلبنا من نفس الأجيال أن تتغني بالسلام والتطبيع والأخوة وقبول الآخر‏..‏ وبعد أن كان مجرد الحديث مع العدو خيانة عظمي أصبح السفر اليه والاقتراب منه وساما علي صدر الكثيرين‏..‏ لقد تغيرت مناهج التعليم بما يخدم ثقافة السلام وأسقطنا كل الرموز التاريخية التي ضحت في سبيل الوطن‏..‏ ولم تعد التضحية في سبيل الوطن والموت في سبيله وساما‏..‏ بل إن والوسام الحقيقي أن تكون شيئا آخر‏,‏ وتسللت ألي حياتنا سلوكيات غريبه وشاذه وجدت من يروج لها بين الشباب ابتداء بالفنون والآداب وانتهاء بالسلوكيات التي تنشرها الفضائيات وتملأ بهاهوامش حرة عقول أبنائنا‏..‏ ومع غياب الوعي وتسطيح الثقافة وقعت أجيال كثيرة في فخ التقليد الأعمي أمام دعوات غريبة للتطوير والتحديث والمعاصرة وأخذنا من الأخر اسوأ مافيه وتخلينا عن مجموعة من القيم الأساسية في حياتنا سلوكيا وأخلاقيا‏..‏ وكان الانتماء من أهم ضحايا هذا الخلل الرهيب‏.‏



ومع تغير مناهج التعليم تغيرت منظومة التعليم ودخلت بلادنا تركيبة تعليمية غريبة جمعت كل الوان التعليم في العالم مابين مدارس خاصة تنتمي لاكثر من ثقافة‏..‏ وجامعات خاصة تحمل أكثر من وجه‏..‏ فهذه امريكية وهذه روسية وهذه كندية‏..‏ وهذه ألمانية وأخري فرنسية أو ايطالية أو سنغالية‏..‏ وأمام هذه التركيبات الثقافية المتناقضة أحيانا غاب الوجه القديم للثقافة المصرية بكل ملامحها وجذورها ورموزها ووجدت أجيالا مختلطة لاتجيد لغتها ولا تعرف شيئا عن ثقافتها‏..‏ وهنا غاب ايضا شيء اسمه الانتماء‏..‏


*‏ لابد أن نعترف أن هناك جريمة شهدتها مصر في السنوات الأخيرة وهي تشويه صورة هذا البلد العظيم‏..‏ وقد شارك في هذه الجريمة أكثر من طرف رسمي وشعبي وإعلامي‏..‏ كانت هناك حملات مكثفة لتشويه كل رموز مصر في كل المجالات سقطت فيها منظومة القدوة ابتداء بالأب وانتهاء بالأبطال الحقيقيين‏.‏ وظهرت حملات أخري للتشكيك في كل الا نجازات وحملات ثالثة للحديث فقط عن السلبيات ولاشك أن الحكومة شجعت ذلك كله بأخطاء إدارية وسياسية واجتماعية فادحة عندما أجهضت مجموعة من الأساسيات التي يقوم عليها بناء المجتمع فغاب شيء اسمه تكافؤ الفرص‏..‏ وسطت مجموعة من الأشخاص ونهبت موارد الدولة‏..‏ وأحتل جيل واحد مسيرة الحياة لايريد أن يفرط في شيء منها ووقفت بقية ألاجيال في طابور طويل تنتظر أحلاما لاتجيء وطال الأنتظار ولم يبق غير الاحباط والحزن والكأبة‏..‏



لقد حدثت انجازات مادية كثيرة لم تواكبها علي نفس الدرجة متغيرات ايجابية في تشكيل منظومة من القيم بل انها اهدرت منظومة قديمة عشنا عليها زمنا طويلا‏..‏ ومن هنا أصبحت لغة المال هي الأعلي صوتا‏,‏ ولغة المصالح هي الأساس ودخلنا في سراديب طويلة من التقليد الأعمي لكل ماهو غريب علينا سواء كان وافدا من الغرب‏..‏ أو مقتحما من الأشقاء‏..‏ وأمام هذا كله تغير وجه الوطن ولم يعد يحمل نفس الملامح القديمة‏..‏


..‏ ويبقي الشعر



وجه جميل‏..‏

طاف في عيني قليلا‏..‏ واستدار

فأراه كالعشب المسافر

في جبين الأرض يزهو في اخضرار



وتمر أقدام السنين عليه‏..‏ يخبو

ثم يسقط في اصفرار

كم عشت أجري خلفه



رغم العواصف والشواطيء والقفار

هل آن للحلم المسافر أن يكف عن الدوار‏..‏ ؟

ياسندباد العصر‏..‏ ارجع



لم يعد في الحب شيء غيرهذا الانتحار

ارجع‏..‏ فإن الأرض شاخت

والسنين الخضر يأكلها البوار



ارجع‏..‏ فإن شواطيء الأحلام

أضناها صراخ الموج من عفن البحار

هل آن للقلب الذي عشق الرحيل



بأن ينام دقيقة‏..‏ مثل الصغار‏..‏ ؟

هل آن للوجه الذي صلبوه فوق قناعه عمرا

بأن يلقي القناع المستعار ؟





Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads