قضايا آخر الزمان

هوامش حرة

قضايا آخر الزمان

يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـدة



عندما تصغر القضايا‏..‏ يصغر الإنسان‏..‏ ويصغر الوطن‏..‏ وعندما تكبر القضايا يكبر الإنسان‏..‏ ويكبر الوطن‏..‏ وإذا أردت أن تعرف وطنا أو تفهم شعبا أبحث عن أهم قضاياه وأكثر اهتماماته لتدرك الحقيقة‏..‏ حاول أن تقرأ الصحف لتجد بين سطورها هموم الناس‏..‏ وشاهد برامج التليفزيون والفضائيات لتدرك مدي تفاهة الناس ومدي جديتهم‏..‏ فإذا وجدت شعباغارقا في تفاهاته متناسيا قضاياه الحقيقية‏..‏ وإذا وجدت أبواق الفضائيات تصدح بسذاجة وسطحية‏..‏ وإذا وجدت محاولات لتغييب العقول وتشويه الحقائق ونشر الأكاذيب‏..‏ فاعلم أن ذلك يؤكد أن القضايا صغرت‏..‏ وأن القامات تقزمت‏..‏ وأن الوطن لم يعد كما كان‏..‏



حاول أن تفتح صفحات الجرائد القومية والمستقلة‏..‏ وأن تشاهد الشاشات سوف تكتشف أن هذه القائمة التي سأضعها أمامك هي أهم وأخطر قضايا الشعب المصري في الفترة الأخيرة‏..‏ وإليك هذا البيان‏..‏


*‏ لقد تراجعت تماما قضية أبناء الشوارع التي أصابت الناس بحالة من الفزع والخوف أمام أرقام غريبة نسمعها أن في أرض الكنانة ما يقرب من ثلاثة ملايين طفل بلا مأوي يعيشون في الجحور ويسكنون القبور ويموتون تحت عجلات القطارات والكباري رغم أن لدينا عشرات المؤسسات التي ترعي الطفولة‏..‏ هذه القضية الخطيرة اختفت فجأة وبلا مقدمات أمام صبي صغير اطلقوا عليه أسم‏'‏ التوربيني‏'‏ هذا التربيني تحول بين يوم وليلة إلي قاتل للاطفال وانتقلت معه أجهزة الشرطة في أكثر من محافظة تنقل لنا حكايات غريبة عن جرائمه ونزواته وانحرافاته‏..‏



وجلس الشعب المصري بكامل هيئاته يتابع لأسابيع طويلة أسطورة التوربيني الطفل الصغير الذي ضحك علي الجميع وأغتصب وقتل العشرات‏..‏ وفجأة اختفي التوربيني واختفت معه الصفحات والبرامج والحكايات ولا أحد يعرف هل كان ما سمعناه حقيقة أم أنه مجرد قصة ملفقه لإخفاء الحقيقة الأكبر وهي الملايين الضائعين من أطفال الشوارع‏..‏


*‏ أمسكنا جميعا بخناق رئيس الوزراء د‏.‏ أحمد نظيف لأن الرجل قزقز حبة لب في مجلس الشعب‏..‏ وتحولت القصة إلي حكاية ما بين رجال القانون والإعلام وما هو حق المسئول وما هو واجبه‏..‏ ثم وضع د‏.‏ فتحي سرور رئيس مجلس الشعب ضوابط جديدة لتصوير جلسات المجلس ووسط هذه المناقشات غابت القضايا الحقيقية‏..‏ أولي هذه القضايا أن رئيس الحكومة ذهب إلي المجلس ليناقش بيان حكومته وسياسة وزارته‏..‏ ونسي الجميع كل ما جاء في البيان‏..‏ وتجاهل الجميع هموم الناس ومشاكلهم‏..‏ وأمسكوا في اللب والتصوير‏..‏ نسي هؤلاء الأسباب الحقيقية لأضراب العمال في المصانع‏..‏ ولم يوجه سؤال لرئيس الحكومة عن برنامج الخصخصة وأين تذهب هذه الأموال ولم يسأل أحد عن حجم الديون‏..‏ وكيف توحش الإنفاق الحكومي‏..‏ وما هو أخر المطاف في قضايا البطالة وارتفاع الأسعار ومشاكل المواطنين وعشرات القوانين المؤجلة‏..‏ لم يسأل أحد عن ألاف المعتقلين في السجون‏..‏ ومئات الملايين التي أخذها رجال الأعمال وهربوا‏..‏ وما حدث في بورصة الأوراق المالية وأكياس الدم وغرق العبارة‏..‏ نسينا كل هذه القضايا وأمسكنا بخناق رئيس الحكومة لأنه أكل حبة لب في مجلس الشعب‏..‏


*‏ هرول الناس أمام مجرم المعادي الذي خصصت له وزارة الداخلية‏..18‏ من رجال الأمن لمطاردته في الحي العتيق‏..‏ وبدأت القصص والحكايات حول هذا الرجل الخارق الذي يقفز من البيوت ويجري في الشوارع‏..‏ وهي قصص تشبه تماما حكايات التوربيني الطفل المعجزة‏..‏ واحتل مجرم المعادي صدارة الأحداث وتجاهلنا المحاكمات والمصادرات وتوقفنا عند مجرم المعادي رغم أن هناك أثارا بعيدة تتركها عمليات القبض العشوائي والمصادرة بلا أسباب علي الاقتصاد القومي لأن المستثمر لا يفرق بين حزب سياسي معلن وحزب أخر محظور‏..‏ وكانت النتيجة خروج أموال كثيرة جدا خاصة من البورصة في الأسابيع الأخيرة‏..‏ هناك قرارات تبدو سياسية وأمنية‏..‏ ولكنها في حقيقة الأمر سيئة جدا من الناحية الاقتصادية‏..‏


*‏ اشتبكت الصحافة وانقسمت إلي أكثر من فريق لأسباب كثيرة هناك تصفية حسابات بين نكرات‏..‏ وهناك بطولات مزيفة‏..‏ وهناك باحثون عن مصالح في هذا الزحام‏..‏ وهناك مصالح لن يقترب منها أحد‏..‏ وقبل هذا كله هناك شبكات مريبة تخرب في هذا البلد تحت دعاوي كثيرة‏..‏ وأمام التفاهات التي ظهرت علي السطح بقوة وعنف كانت هناك قضايا خطيرة تختفي‏..‏ لا أحد يعرف الآن ما هو مستقبل برنامج مصر النووي وهل يصبح حقيقة أم أنه كان مجرد شعار براق‏..‏ لا أحد يعلم موقف مصر الآن من قضايا إقليمية خطيرة وأين دورها ورسالتها في العراق وما يجري فيه ولبنان وما يواجه من مستقبل غامض‏..‏ ودارفور وتقسيم السودان‏..‏ وما يجري بين حماس وفتح وما هو موقفنا من إيران وماذا حدث في الصومال‏..‏ أن هذه القضايا جميعها تمس أمن مصر القومي ومستقبلها ودورها في العالم‏..‏ ولكن إذا نظرت إلي أعمدة الردح والشتائم وبرامج التسلية والتسطيح في الفضائيات سوف تشعر أننا شعب خرج من الزمن والتاريخ ويعيش في زمان آخر‏..‏ وكان من الطبيعي أن ينسي الناس كل هذه القضايا المهمة أمام برامج تليفزيونية تافهة‏..‏ وقزقزة اللب في مجلس الشعب والتوربيني في محطة مصر ومجرم المعادي وسلعوة الجيزة ألي أخر مسلسل التفاهات في حياتنا اليومية‏..‏


*‏ هناك مسلسل خطير من القضايا الرئيسية التي تراجعت يأتي في مقدمتها التطورات التي حدثت في أنفلونزا الطيور ولا أحد يدري إلي اين يحملنا هذا الوباء الخطير‏..‏ وبعد هذا الوباء جاءت أكياس الدم الفاسدة من مجلس الشعب‏..‏ ثم أنفجارت أنابيب البوتاجاز المتكررة‏..‏ وكان من التعارض الشديد أن تطغي علي اهتمامات الشارع المصري قضايا كثيرة تافهة لا تستحق التوقف عندها ونجد قضايا رئيسية تمس حياة مصر وصحة شعبنا ومستقبلنا ولا تأخذ حقها من الدراسة والاهتمام‏..‏



والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا تسطحت قضايانا بهذه الصورة المخيفة ولماذا تصدرت التفاهات اهتمامات حياتنا وأصبحنا نلهث وراء خبر ساذج أو حكاية غريبة أو خرافة من الخرافات أو برنامج رخيص‏..‏ لماذا نحاسب مسئولا علي كلمة قالها ولا نسأله عن مؤسسة أفسدها وأموال أضاعها وثروات بددها‏..‏



لماذا نتوقف كثيرا أمام مشاهد وأحداث لا ينبغي الوقوف أمامها ونترك أحداثا تهدد أمننا وسلامتنا واستقرار حياتنا‏..‏ ومن هو المسئول عن ذلك كله هل هي محاولات لتوجيه اهتمامات الناس إلي قضايا تافهة حتي لا يفيقوا من نومهم العميق‏..‏ أم هي تأكيد لهذا الكم من السطحية واللامبالاة الذي استنزف أعمارنا أم هي محاولة لإلهاء الناس عن قضاياهم ومعاناتهم الحقيقية‏..‏ أم أنها ليست هذا ولا ذاك ولكنها سمات عصر نعيشه الآن حيث صغرت القضايا وصغر معها الناس وصغرت الأوطان وهذه كلها سمات الزمان حين يصغر فيه كل شيء‏..‏


..‏ ويبقي الشعر



انطق كي أنطق

أصحيح أنك في يوم طفت الآفاق

وأخذت تدور علي الدنيا



وأخذت تغوص مع الأعماق

تبحث عن سر الأرض‏..‏

وسر الخلق‏..‏ وسر الحب



وسر الدمعة والأشواق

وعرفت السر ولم تنطق‏..‏

ماذا في قلبك خبرني‏..‏ ماذا أخفيت ؟



هل كنت مليكآ وطغيت‏..‏

هل كنت تقيآ وعصيت

رجموك جهارآ



صلبوك لتبقي تذكارأ

قل لي من أنت‏..‏ ؟

دعني كي أدخل في رأسك



ويلي من صمتي‏..‏ من صمتك

سأحطم رأسك كي تنطق‏..‏

سأهشم صمتك كي أنطق



أحجارك صوت يتواري

يتساقط مني في الأعماق

والدمعة في قلبي نار‏..‏



تشتعل حريقآ في الأحداق

رجل البوليس يقيدني‏..‏ والناس تصيح‏:‏

هذا المجنون‏..‏



حطم تمثال أبي الهول

لم أنطق شيئآ بالمرة

ماذا‏..‏ سأقول‏..‏




 
Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads