وعاد الوجه القبيح

هوامش حرة

وعاد الوجه القبيح

يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـدة



رغم كل عمليات التجميل التي شهدتها العلاقات بين مصر وإسرائيل طوال السنوات الماضية ومنذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد إلا أن الوجه الإسرائيلي القبيح عاد يطل مرة أخري في ذاكرة المصريين‏..‏ عادت ذكريات القتل والموت والدمار ودماء الشهداء علي أرض سيناء تدق صمت أيامنا المترهلة وتهز كل شيء سكن فينا واستكان‏..‏



والمعروف عنا أننا شعب كثير النسيان وفي السنوات الأخيرة أصبحنا ننسي أشياء لا ينبغي نسيانها ونطوي صفحات في حياتنا كانت مضيئة زاخرة ونستبدل وجوها بوجوه‏..‏ ونسقط الرموز ونرفع الأكاذيب وفي زحمة هذا كله أطل علينا فيلم وثائقي إسرائيلي يحكي عن مجزرة قديمة جديدة قامت بها القوات الإسرائيلية في سيناء عقب انسحاب القوات المصرية في حرب‏67..‏ وثارت الدنيا في مصر وكأننا نعرف ذلك لأول مرة‏..‏ رغم أن لدينا الكثير والكثير جدا من الذكريات السوداء مع الكيان الصهيوني منذ غرسه الاستعمار في قلب هذه الامة‏..‏ ورغم أننا مازلنا نشاهد كل يوم مجزرة جديدة تقوم بها القوات الإسرائيلية في القري والمدن الفلسطينية أن إرهاب الدولة العبرية لم يصل لنهايته بعد‏..‏



لا أعتقد أن هناك إنسانا عاقلا يرفض مبدأ السلام أو يكون داعية حرب ودمار ولكن السلام علاقة تحتاج إلي إيمان حقيقي من كل أطرافه ورغبة صادقة في تحقيقه‏..‏ وقد تحدث الجميع كثيرا عن السلام في المنطقة وبقي السلام حلما بعيد المنال‏..‏



ولو أننا استعرضنا معا قصة السلام بعد حرب أكتوبر فسوف نكتشف أن معظم المأسي والنكبات التي حدثت في المنطقة كانت من توابع هذه القصة‏..‏ لقد اجتاحت القوات الإسرائيلية لبنان واحتلت أراضيه في الثمانينات في ظل أحاديث السلام‏..‏ وضربت الطائرات الإسرائيلية المفاعل النووي العراقي في ظل السلام‏..‏ واقتحمت القوات الإسرائيلية الأراضي الفلسطينية عشرات المرات في ظل السلام‏..‏ بل إن إسرائيل وقعت عشرات الاتفاقيات مع القيادات الفلسطينية في أوسلو ومدريد وشرم الشيخ تحت إشراف أمريكي وسحبت ذلك كله حين أرادت‏..‏



وهذا كله يعني أن إسرائيل الدولة والفكر والتكوين كيان أقيم خارج منظومة السلام‏..‏ والشيء المؤكد أن إسرائيل هي الطرف الأساسي الذي استفاد من عملية السلام صحيح أن صوت الرصاص قد هدأ ولكن إسرائيل لم تدخر لحظة في محاولاتها لأختراق مصر المجتمع والوطن والإنسان‏..‏ والغريب أننا بكل مؤسساتنا البحثية والمعلوماتية بقينا بعيدا عن معرفة أي شيء عن إسرائيل بل أننا لم نهتم أو نحاول أن نعرف وكانت كل النتائج تقريبا في غير صالحنا وكانت هناك شواهد كثيرة تؤكد ذلك‏:‏



أن درجة اختراق إسرائيل بكل مؤسساتها للمجتمع المصري كانت أعمق بكثير من كل ما وصلت إليه المؤسسات المصرية في هذا المجال‏..‏ لقد حدثت عمليات تداخل شديد في الأنشطة الاقتصادية علي الأراضي المصرية في مشروعات مشتركة وصناعات جديدة وعمليات بيع للإسرائيليين لم نعرف مداها حتي الآن‏..‏



وفي قطاعات مثل السياحة وصناعات مثل الأسمنت والحديد والأسمدة والبترول والغاز وصلت رؤوس أموال إسرائيلية اخترقت مواقع خطيرة في القطاع الخاص المصري‏..‏ والغريب أن ذلك لم ينعكس علي الإنسان المصري العادي وكان مجرد غنائم لمجموعة أفراد استفادوا من ذلك كله‏..‏


‏استطاعت إسرائيل أن تقيم في مصر طابورا طويلا من المستفيدين وحملة المباخر تحت شعار السلام الذين يدافعون بكل البجاحة عن هذا الكيان الغريب‏..‏ ووجدنا وفودا تسافر وأقلاما تبرر وأبواقـا تصدح وأموالا تتدفق‏..‏ وكان من نتيجة ذلك أننا فتحنا أبوابا كثيرة شهدت عمليات اختراق حادة لكل شيء في حياتنا ابتداء بالمخدرات التي تأتي من إسرائيل وانتهاء بالكثير من الأفكار الشاذة التي حاول البعض نشرها في عقولنا شبابنا‏..‏



أن موجات الإسفاف والهبوط والشذوذ التي ظهرت في حياتنا في صورة سلوكيات أو كتابات أو أفلام أو مهرجانات‏..‏ كل هذا كان بضاعة مستوردة معروفة الإنتاج والمصدر والغاية‏..‏ ولم يكن غريبا أن يتستر أصحاب هذه المصالح خلف أحاديث عن السلام والأمن والرخاء وقبول الآخر وهي شعارات براقة تخفي مطامع وأهواء ومصالح ولكننا للأسف الشديد أوهمنا أنفسنا بهذا كله وابتلعنا الطعم بسذاجة ودفعنا ثمن ذلك كله‏..‏


‏ لا يمض وقت طويل إلا وتشهد مصر عملية اختراق مسمومة في قضية تجسس أو اعتداء سافر‏..‏ حدث هذا لبعض جنودنا علي الحدود وحدث هذا في قضايا تجسس عزام وعشرات غيره‏..‏ وإذا كانت هناك قضايا تجسس خضعت للمحاكمات والقوانين والعقوبات فإن هناك أدوارا أخري يقوم بها البعض تحت ستار التطبيع‏..‏ والتعاون والعلاقات الرسمية‏..‏ وهذا كله يؤكد أن نوايا إسرائيل لم تتغير ولكن أساليبها هي التي تغيرت أنها تريد مصر بلا دور ولا ريادة ولا عمقها التاريخي والإنساني في محيطها العربي‏..‏


في الوقت الذي غيرنا فيه مناهج التعليم تحت دعاوي السلام وحذفنا الكثير من الأحداث التاريخية واسقطنا الكثير من الشخصيات المهمة‏,‏ بقيت إسرائيل تحتفظ بكل شيء تاريخا وواقعا‏..‏ لقد بقيت كل القيادات التي شاركت في حروب ضدنا تحتل أهم وأخطر المواقع في إسرائيل ابتداء بشارون وديان وبيجين ورابين وبيريز وموفاز وباراك‏,‏ لقد بقي صقور إسرائيل دائما في مقدمة الصفوف بينما لاقت الصقور عندنا كل التهميش والجحود‏.‏ واختفي من الساحة معظم من حملوا يوما سلاحا ضد إسرائيل



وللأسف الشديد أننا غيرنا في كتب التاريخ الكثير من القصص والبطولات ولم نعد نسمع شيئـا عن شهدائنا الذين ضحوا بحياتهم في سبيل هذا الوطن‏..‏ وظهرت في مصر أجيال عمرها الآن يقترب من الثلاثين عاما وربما أكثر لا تعرف شيئا عن عبد المنعم رياض والجمسي وأحمد إسماعيل وصادق وجواد حسني وجول جمال وسيد طه وأحمد عبدالعزيز والشاذلي وفوزي وبدوي وأبو غزالة وأبوالعز وأبو طالب وحمدي وغالي وواصل ومأمون وشاش وهؤلاء الرجال الذين صنعوا معجزة النصر والإرادة لقد وضعنا في الصدارة مجموعة من التجار والسماسرة فرضوا وجودهم في كل شيء وعلي كل شيء‏..‏



لقد كان شيئـا غريبـا أن يطلب منا أن نغير أحداث تاريخنا بينما هناك كيان شاذ وغريب يحاول أن يستمد كل مقومات وجوده علي تاريخ كاذب‏..‏ في الوقت الذي سقطت فيه رموزنا في وجدان شبابنا وجدنا محاولات مستميتة لتشويه التاريخ تحت دعاوي وأكاذيب أن اليهود هم بناة الأهرامات وأن تاريخ مصر القديم أحداث مشتركة بين مصر وإسرائيل وكل هذا التضليل‏..‏ وللأسف وجدت إسرائيل بيننا من يروج هذه الأكاذيب ويدعو لها تحت شعار ثقافة السلام في مناهج التعليم والصحافة والإعلام‏,‏ وقد كان شيئـا عجيبا أن تقوم دولة علي مجموعة من الأكاذيب التاريخية وتحاول تشويه تاريخ الأخرين وهو حقائق ثابتة‏..‏


وعندما ثارت القضية الأخيرة في الفيلم الإسرائيلي عن قتل‏250‏ جنديا مصريا في سيناء بعد انتهاء المعارك كان الحديث عن القانون الدولي وجرائم الحرب والتعويضات وسقوط الجرائم بالتقادم وكأننا نعرف ذلك لأول مرة بل أننا نجد من يحاول تبرئة إسرائيل أو التلويح بخطر ذلك علي اتفاقية السلام وكأن هذا الاتفاق أصبح قيدا علينا في كل شيء‏..‏ في أراضينا ومناهج تعليمنا وطرق تفكيرنا رغم أنهم لا يفعلون ما نفعل سواء في التعليم أو الثقافة أو السلوك‏..‏



إن الهدف الآن لا ينبغي أن يكون حصولا علي تعويضات أو أدانة دولية لإسرائيل فلا التعويضات ستعيد أرواح الشهداء ولا الإدانة الدولية تهم إسرائيل من قريب أو بعيد ولكن المهم الآن أن نراجع أنفسنا ونعيد حساباتنا وننظر لهذا المجتمع الذي اخترقته إسرائيل حتي النخاع‏..‏ يجب أن نراجع أنشطة الكثير من المؤسسات التي تسللت إليها إسرائيل وأن ننظر إلي الكثير من الأنشطة الرسمية والمدنية التي تعمل مع مؤسسات إسرائيلية مشبوهة‏..‏ يجب أن نراجع ملفات الآلاف من أبنائنا الذين سافروا إلي إسرائيل وتزوجوا من بناتها‏..‏



يجب أن نعيد رموزنا التاريخية إلي مواقعهم في ذاكرة هذا الشعب تقديرا لدورهم ومكانتهم‏..‏ يجب أن نتابع بدقة ما يجري في بلادنا من مشروعات اقتصادية سواء كانت إنتاجا أو بيعا أو شراء بحيث نضمن ألا نجد أنفسنا يوما وقد سقطنا كمجتمع ودولة وشعب في يد عصابة سرقت وطنـا واستباحت شعبا‏..‏ يجب أن نفحص من يشتري مصانعنا ومن يستحوذ علي أراضينا ومن يسعي إلي امتلاك كل شيء عندنا‏..‏ يجب أن نراجع الكتابات المسمومة والأقلام المأجورة والشعارات المباعة‏,‏ وهذا الطابور الطويل من المستفيدين والتجار بقضية السلام‏,‏ يجب أن نراقب بحسم ما يدخل أراضينا من النفايات النووية والأطعمة المسمومة والمخدرات بكل أنواعها‏..‏ إذا كانت الوثائق الإسرائيلية التي قدمها الفيلم التسجيلي قد أعادت لنا ذكريات ماض مؤلم فيجب أن نراجع حاضرنا فربما اكتشفنا أنه أكثر إيلاما‏..‏



لقد أبقت إسرائيل علي كل صقورها في مقدمة الصفوف بينما أسقطنا نحن الصقور وابقينا الحمائم رغم أننا ندرك من كل دروس التاريخ والحياة أنه لا يوجد في تاريخ البشر سلام أزلي أو عداء دائم هناك وجوه كثيرة عزيزة غابت عن ذاكرة هذا الشعب كان ينبغي أن تعيش ووجوه أخري تتاجر الآن بهذا الشعب وكان ينبغي أن ترحل وشتان بين من ضحوا بحياتهم في سبيل مصر ومن تاجروا بالسلام ابتداء بعبارات السلام وانتهاء بباعة الأكاذيب الأوهام‏..‏



قبيح وجهك المرسوم من أشلاء قتلانا

جبان سيفـك المسموم في أحشاء موتانا

وضيع صوتـك المرصود في أنات أسرانا

قبيح أنت يا ملعون عند الله‏..‏ في الأديان

إنجيلا‏..‏ وقرآنا

قبيح أنت يا خنزير كيف غدوت إنسانا

قبيح وجهك الملعون



مهان يا زمان العار أوسمة وتيجانا

ذليل يا زمان العجز كهانا وأوطانا

جبان يا زمان القهر من قد باع أو خان

خيول أسلمت لليأس رايتها

فصار الجبن نيشانا



خيول باعها الكهان أمجادا وتاريخا وفرسانا

فصارت ساحة الفرسان يا للعار غلمانا‏!‏

كسيح يا زمان العجز

حين ينام سيف الحق بين يديك خزيانا

قبيح يا زمان اليأس

حين يصير وجه القدس في عينيك أحزانا





Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads