مؤسسة هيكل بين السياسة والصحافة

هوامش حرة

مؤسسة هيكل بين السياسة والصحافة

يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـدة



استطاع كاتبنا الكبير محمد حسنين هيكل أن يقيم عرسا صحفيا جميلا راقيا في بلاط صاحبة الجلالة‏..‏ كان العرس يليق بأصحاب الكلمة الجادة والأفكار المستنيرة وكان الحفل وقورا دافئا بهذا الكم الكبير من المشاعر النبيلة بين أبناء النخبة التي تهشمت وتوارت بين الصخب والسطحية والهموم‏..‏ وأعاد لنا الأستاذ هيكل عبق زمان جميل مضي مازلنا نفتقده في شفافية المواقف وصدق النوايا وأمانة الكلمة‏..‏



كانت المناسبة هي بدء نشاط مؤسسة هيكل للصحافة العربية هذا المشروع الذي أنشأه هيكل من أجل رعاية شباب الصحافة المصرية والعربية مهنيا وفكريا وثقافيا وخصص له خمسة ملايين دولار أي ما يقرب من ثلاثين مليون جنيه من ماله الخاص ووضع برنامجا شاملا من أجل رعاية شباب الصحافة‏..‏ وقد أكد كاتبنا الكبير من البداية أن المؤسسة ليس لها أي أغراض أو أنشطة سياسية وإنها مؤسسة مهنية من أجل خدمة الصحافة والصحفيين‏..‏



بدأت احتفالية مؤسسة هيكل بمحاضرة للكاتب الأمريكي الأشهر سيمور هيرش والتي أدان فيها مواقف الإدارة الأمريكية وسياستها المتخبطة في الشرق الأوسط وفي العالم كله‏..‏ وقد فجر هيرش في محاضرته أكثر من مفاجأة حول تورط أمريكا في إشعال الفتنة بين السنة والشيعة وكارثة العراق واحتمالات توجيه ضربة عسكرية إلي إيران وما يحدث في لبنان وتحدث الصحفي الكبير عن مأساة أبو غريب وكارثة العراق وانهيار دولة أمام خطايا الرئيس بوش‏..‏ وبعد أن انتهت المحاضرة كان هناك لقاء آخر جمع رموز الثقافة والصحافة علي حفل عشاء وشهد حفل العشاء مناظرات سريعة ومناقشات حول ما يجري فينا وما يجري حولنا من أحداث وأزمات ومشاكل‏..‏



ولاشك أن هذا المشروع الجديد الذي أقامه الأستاذ هيكل يضيف حلقة جديدة إلي تاريخ الرجل في بلاط صاحبة الجلالة كاتبا ومسئولا وصاحب موقف‏..‏ أختار هيكل لمؤسسته أن يكون هدفها الأول هو رعاية شباب الصحفيين لأنه يدرك عن وعي ما وصلت إليه أحوال الصحافة المصرية في السنوات الأخيرة مهنيا وأخلاقيا وماليا‏..‏ وهو بحكم تجاربه السابقة يعلم كل الأمراض التي أصابت الأجيال الجديدة وأفسدت تكوينها الفكري والمهني والثقافي‏..‏



إن هيكل الكاتب يعلم حقيقة ما وصل إليه مستوي الكتابة والأسلوب والقدرة علي متابعة العصر وما يجري حولنا‏..‏ وهيكل المسئول يدرك أحوال مؤسساتنا الصحفية التي تهاوت ما بين الديون والإفلاس‏,‏ وسوء الإدارة واستباحة المال العام‏..‏ وهيكل الموقف يعلم ما وصلت إليه أحوال المهنة من انهيارات في الأخلاق والسلوك والضمائر‏..‏ ولهذا جاءت هذه المؤسسة لتسعي إلي وضع قيم جديدة للعمل الصحفي كتابة والتزاما وقدرة علي استيعاب روح العصر وتطوراته‏..‏ وبجانب هذا فهي تسعي إلي المحافظة علي ما بقي لنا من قيم أخلاقية في السلوك‏..‏ والمواقف‏..‏ لقد حاول هيكل من خلال هذه المؤسسة أن يكمل مشواره في بلاط صاحبة الجلالة بهذه العلامة المميزة في تاريخ الصحافة المصرية والعربية‏..‏



أن تاريخ هيكل الصحفي أسلوبا وكتابة ورصيدا أكبر من أي إشادة‏..‏ وإذا كان البعض يري أن هيكل السياسي كان شريكا في أحداث كبري إلا أن رصيده الصحفي ككاتب ومسئول هو أكثر صفحات حياته تأثيرا‏..‏ ولاشك أن تجربة هيكل في الأهرام العريق واحدة من أكثر التجارب الصحفية نجاحا في تاريخ الصحافة العربية بل والعالمية‏..‏ كان فيها رصيده الشخصي ككاتب متفرد في أسلوبه وجملته الصحفية وتحليلاته العميقة ورؤاه المستقبلية وكانت ثقافة هيكل ومتابعاته الدائمة وشغفه باستكشاف كل جديد هو سر نجاحه ككاتب كبير‏..‏



واستطاع هيكل في مشواره أن يقدم تجربة فريدة في الإدارة الصحفية عندما نقل الأهرام المؤسسة والإدراة والبناء والبشر إلي زمن جديد وصحافة معاصرة‏..‏ ومن أكثر الصفحات المضيئة في تاريخ هيكل الصحفي هذه النخبة من كبار كتابنا ومفكرينا الذين فتح لهم صفحات الأهرام في العصر الذهبي للثقافة المصرية‏..‏ لقد استطاع هيكل أن يجعل من الأهرام ومن نفوذه السياسي معا حصنا آمنا لهذه الأقلام بحيث عبرت عن كل ما بداخلها في الفكر والفن والإبداع بعيدا عن هيمنة الدولة وأجهزتها السياسية والأمنية وهذا لم يتوافر في مؤسسة صحفية أخري بعد ذلك‏..



ولقد حافظ هيكل علي ثوابت مواقفه وفكره فلم يتغير حسب اتجاهات الريح ولم يتلون مع كل عصر جديد وقد دفع ثمن ذلك عندما خرج من الأهرام قبل أن يكمل الخمسين عاما من عمره وعندما وجد نفسه خلف قضبان السجن دون أن يرتكب أثما أو جريمة‏..‏



ووقف هيكل أمام تيارات عاتية وتحولات ضخمة في السياسة والصحافة ولكنه صمد أمام كل هذا مؤمنا بدور مصر الريادة وداعيا إلي الحفاظ علي هويتها وعروبتها وإسلامها‏,‏ رافضا كل محاولات التشوية والتسطيح والتهميش التي تسعي إلي كسر الدور المصري حضاريا وثقافيا وسياسيا‏..‏



والآن جاء لنا هيكل بمشروعه الجديد وبدلا من أن نفتح للرجل الأبواب ونبارك جهده ودوره لاحت في الأفق حساسيات كثيرة والمشروع يبدأ خطواته الأولي‏..‏ كان البحث عن مقر للمؤسسة الجديدة هو أول اختبارات صدق النوايا‏..‏ ثم كان البحث عن مكان تمارس فيه نشاطها تأكيدا لسوء هذه النوايا‏..‏ كان من المفروض أن تقام الندوات الأولي في مقر مكتبة القاهرة بالزمالك ولكن لأسباب غير مفهومة تتعلق بالأمن وجنسية الكاتب الأمريكي‏'‏ المعارض‏'‏ سيمور هيرش لم تستجب مكتبة القاهرة لطلب المؤسسة الوليدة‏..‏



ولم يجد الأستاذ هيكل أمامه غير قاعة أيوارت بالجامعة الأمريكية لكي تبدأ منها مؤسسته أول أنشطتها‏..‏ ولم أجد مبررا علي الإطلاق أمام مؤسسات الدولة حتي لا تتعاطف أو تساند مؤسسة هيكل الجديدة وأن توفر لها الأماكن التي تقيم فيها ندواتها خاصة أنها تدفع النفقات كاملة‏..‏ إن الدولة تقوم بتأجير القصور التاريخية لتقام فيها الأفراح والليالي الملاح والمهرجانات الصاخبة‏..‏ لقد أقامت أفراحا في قصر محمد علي بشبرا بعد افتتاحه بشهرين ومازالت الأفراح تقام في القاعة الذهبية في قصر محمد علي بالمنيل‏..‏



فهل إذا جاءت مؤسسة هيكل وقررت أن تقيم ندوة لكاتب عالمي أوحلقة لتدريب الصحفيين لا تجد أمامها غير مبني الجامعة الأمريكية بالقاهرة‏..‏ إننا نتحدث دائما عن غياب الثقافة الجادة وحيرة شباب الصحفيين بين الفضائيات المتخلفة وصحافة الإثارة أو الطبل والزمر‏,‏ وعندما يقرر أحد كتابنا الكبار أن يساعد بخبرته وتاريخه وماله هؤلاء الشباب لا يجد تشجيعا بل يجد تجاهلا لا مبرر له من أجهزة الدولة‏..‏ إننا دائما نتحدث عن دور المجتمع المدني وكيف يشارك في التنمية الثقافية والحضارية‏..‏ ونتحدث عن هروب رجال الأعمال من مسئولياتهم الاجتماعية‏..‏



كما أننا ندرك الأعباء الضخمة التي تقع علي عاتق النقابات المهنية لرعاية اعضاءها فلماذا لا نشجع الأستاذ هيكل في مشروعه بحيث تتبناه أجهزة الدولة وتوفر له كل إمكانيات النجاح‏..‏ أن هيكل لا يسعي لبريق أو نفوذ أو سلطان فقد عاش ذلك كله طولا وعرضا‏,‏ وكل ما يريده الرجل من مؤسسته الوليدة أن تشارك في صنع أجيال صحفية جديدة لم تجد من يرشدها أو يعلمها ويأخذ بأيديها‏..‏ إنها أجيال حائرة بين أحزاب بلا جمهور وأقلام بلا ضمائر‏..‏ وثقافة بلا عمق‏..‏ ومهنة بلا قدوة‏..‏ ومجتمع فقد الكثير من مقوماته الأخلاقية والسلوكية



فهل إذا جاء رائد من رواد الصحافة الجادة في الكلمة والموقف ليمد يديه إلي هذه الأجيال نتجاهل مشروعه ونضع أمامه العقبات والعراقيل‏..‏ قد تكون هناك خلافات بيننا في المواقف والآراء ولكن لا ينبغي أبدا أن نختلف علي مؤسسة تسعي إلي تقديم فرصة تاريخية للصحافة المصرية حتي تخرج من سردابها المظلم الطويل‏..‏ والأمر الغريب أن تهاجم بعض الأقلام الصغيرة مشروع هيكل بسخف وجهل واستخفاف رغم أن الرجل قالها بوضوح إن مؤسسته مؤسسة مهنية‏..‏ ولا علاقة لها بالسياسة من قريب أو بعيد‏..‏ إن الصحافة المصرية في حاجة إلي هذه الوقفة النبيلة من أحد رموزها الكبار حتي تكمل مسيرتها وترعي شبابها علي أسس من العلم‏..‏ والوعي‏..‏ والضمير‏..‏ وعلي الدولة بكل أجهزتها أن تساند هذه المبادرة الصادقة من كاتب كبير وتقدم لها كل الدعم والمساندة حتي تنجح في أداء دورها من أجل صحافة أفضل‏..‏



‏..‏ ويبقي الشعر

وطن بلون الصبح كان

في أي عين

سوف أحمي وجه ابـني

بعدما صـلـبوا صلاح الدين

يا وطني علي الجدران

في أي صدر

سوف يسكن قلب ابني

بعدما عزلـوا صلاح الدين

من عين الصغار‏..‏ وتوجوا ديـان



يا للمهانـة عندما تغدو سيوف المجد

أو سمة بلا فـرسان

يا للمهانة عندما يغدو صلاح الدين

خلف القـدس مطرودا

بلا أهل‏..‏ بلا سكن‏..‏

بلا وطن‏..‏ بـلا سـلطان

في كل شيء أنت يا وطني مهان



من علـم الأسد الأبي

بأن ينكـس رأسه ويهادن الجرذان

من علـم الفـرس المكابر

أن يهرول ساجدا

في موكـب الحملان

من علـم القلب التقي

بأن يبيع صلاته ويعود للأوثان

من علـم الوطن العريق بأن يبيع جنوده‏..‏

ويقايض الفرسان‏..‏ بالغلـمان



من علم الوطن العزيز بأن يبيع تـرابه

للراغبين بأبخس الأثمان

من علـم السيف الجسور بأن يعانق خصمه

ويعلق الشـهداء في الميدان

يا أيـها الوطن المهان

إني برئ منك‏..‏

يا أيها الزمن الجبان

إني برئ منك‏..‏









Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads