مصر التي نحبها

هوامش حرة

مصر التي نحبها

يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـدة




التاريخ شواهد ورموز‏..‏ هناك صفحات تبهرنا ونتوقف عندها وصفحات أخري قليلا ما نذكرها ولهذا من الصعب جدا أن نتفق حول أحداث التاريخ وأشخاصه‏,‏ ومن هنا يختلف الناس في قراءتهم له‏..‏



وإذا كان المؤرخ يسعي للبحث عن الحقيقة وهو يكتب صفحات التاريخ‏,‏ فإن قارئ التاريخ يختار منها ما يناسب فكره وثقافته وتكوينه‏,‏ قد ينفعل مع هذا ويرفض ذاك‏..‏ وهنا لابد أن أعترف من البداية بأن في أعماقي شيئـا ينتسب إلي التاريخ العربي أكثر من حنيني إلي تلك الجذور الفرعونية التي يتحدث عنها البعض كثيرا‏..‏ مازلت رغم سنوات الشحوب والخريف في حياة هذه الأمة أقف مبهورا أمام الكثير من صفحاتها البيضاء ونماذجها الإنسانية الرفيعة‏..‏ هناك صفحات كثيرة تستحق البكاء ولكن ما أكثر الصفحات المضيئة التي ينبغي أن نذكرها ونستعيدها‏..‏



وإذا جلس الإنسان يراجع صفحات التاريخ المصري فسوف يجد زخما شديدا في الأحداث والشخصيات والمواقف‏..‏ ولكن إذا حان وقت التفضيل ومن يسبق من تأثيرا وأثرا‏..‏ ومن الأحق بأن يحتل مكانة أوسع في وجدان الإنسان وعقله فإن المواقف تختلف‏..‏



لو سألني سائل أي صفحات تاريخنا أكثر تأثيرا لقلت بلا تردد إنه تاريخ العرب والمسلمين‏,‏ والشواهد عندي كثيرة‏..‏



إنني أشعر بالزهو وأنا أقف أمام قبر خوفو الفرعون القابع في الهرم الاكبر‏,‏ ولكنني أشعر بالحب والحنين وأنا أصلي أمام قبر الحسين رضي الله عنه‏..‏ أمام خوفو قد يبهرني قبر السلطان الحاكم في صورة فرعون‏,‏ ولكن أمام قبر الحسين يغمرني الإيمان وحجم التضحية‏..‏



لا أخفي أعجابي الشديد بتاريخ حكم رمسيس الثاني وما حققه من إنجازات علي أرض مصر ولكن يشدني أكثر عدل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏..‏ هذا حاكم تحدث العالم عن سطوته‏..‏ وهذا حاكم تحدث العالم عن عدالته‏..‏ حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر‏..‏ هذا فرعون تسلط وهذا نموذج للقدوة في أرفع درجاتها‏..‏



لا أنكر تقديري العميق لأحمس ومينا موحد القطرين ومؤسس الدولة المصرية الحديثة ولكن حبي أعمق لصلاح الدين الأيوبي الذي ظل ستة أعوام كاملة بين جنوده في الخيام لم يدخل قصرا وعندما مات وجدوا في خزينته دينارا واحدا وبعض الدراهم ولفافة فيها بعض التراب وعليها ورقة صغيرة كتب فيها وصيته‏'‏ ما دخلت معركة في سبيل الله إلا وأخذت من أرضها بعض التراب فانثروه علي قبري عسي الله أن يغفر لي‏'..‏



لا أخفي إعجابي الشديد بمعابد الكرنك وأبو سنبل ولكن إعجابي الأشد بمسجد عمرو بن العاص والكنيسة المعلقة ورحلة السيدة العذراء عليها السلام علي ضفاف النيل الخالد ووجود آل بيت رسول الله عليه الصلاة والسلام في ربوع القاهرة‏..‏ أنني مبهور بشخصية كليوبترا وسحر نفرتيتي ولكنني أقف صامتـا أمام ضريح السيدة نفيسة‏..‏ وذكري السيدة زينب وهذا الضوء الرباني الذي أحاط بهما‏..‏



أحمل حنينـا دائما لتاريخ حكماء الفراعنه الذي أبهر العالم ولكن يشدني حنين أكبر وأعمق إلي كتابات حكيم عظيم أسمه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في كتاب بليغ أسمه نهج البلاغة وهذا الانبهار ليس لأنني مسلم فقط ولكن لأنني أمام مفكر وإنسان عظيم‏..‏



كان أكتشاف الفراعنة لعلوم التحنيط والألوان والرسم والمعابد شيئا رائعا ولكن أبن حيان وأبن سينا وأبن الهيثم والخوارزمي كانوا أكثر إبهارا وروعه‏..‏



مازلنا نقرأ حتي الآن شكاوي الفلاح الفصيح لفرعون مصر ونشاهد علي جدران المعابد ألوانـا ناطقه حية من الحكم والمواعظ ولكنني عاشق لشعر المتنبي رغم حبه للسلاطين‏..‏ ومبهور بحكمة أبي العلاء رغم أنه فاقد البصر وليس البصيرة‏..‏ وأحب كثيرا مجنون ليلي وكثير عزة وحكايات ألف ليلة وليلة وقصور العباسيين وترجماتهم في عصر المأمون‏..‏



كانت فتوحات قدماء المصريين شيئـا مذهلا في مشارق الأرض ومغاربها ولكنني أعتز كثيرا بتاريخ حضاري رائع علي ربوع الأندلس صاغه طارق بن زياد وتناقلته الأجيال ما يقرب من ألف عام من الزمان في بقعة كانت تسبح في ظلام الغرب وخرجت منه بشيء رائع أسمه الحضارة الأندلسية‏..‏



في العالم أثار كثيرة تحكي أمجاد الفراعنة الذين نعتز بأننا أبناؤهم ولكن هناك أيضا مدنا عريقة مازالت صامدة أمام متغيرات الزمن والحياة مازالت القاهرة مدينة الألف مئذنة درة جوهر الصقلي‏..‏ ومازالت دمشق وفيها قبر صلاح الدين‏..‏ وأبن عربي‏..‏ ومازالت بغداد عاصمة الرشيد بشعبها العظيم تقاوم الطاغوت الأمريكي المتوحش في زمن العولمة ومازالت الكوفه وكربلاء ودموع آل البيت‏..‏ ومازالت مكة أطهر بقاع الدنيا‏..‏ ومازال قبر المصطفي عليه الصلاة والسلام يضي ربوع المدينة المنورة ويضئ قلوب مليار ونصف مليار مسلم في كل بقاع الدنيا بالحب والتسامح والإيمان‏..‏ ومازالت القدس مدينة الصلاة وأولي القبلتين ومهد عيسي عليه السلام تقاوم المستعمر الغاشم‏..‏



هذه قناعات عندي قد يرفضها البعض ويختلف معها البعض الآخر ولكنني أقول ما استراح إليه ضميري‏..‏



إذا كانت سحابات الدخان قد ملأت سماء أيامنا واستبحنا بقسوة هذا العصر المتوحش واتهمنا دينـا وبشرا وأوطانا بالتخلف والإرهاب والبطش والاستبداد فإن في تاريخنا العربي صفحات يجب أن نقرأها اليوم فلم يكن التاريخ العربي كله استبدادا أو قهرا أو ظلما واعتداء علي حقوق البشر‏..‏ كان تاريخا مليئـا بالأحداث والأشخاص والرموز‏..‏ إذا فتحنا صفحة العلم طالعتنا مئات الأسماء ابتداء بإبن خلدون وأبن سينا وابن الهيثم وانتهاء بعشرات العلماء الأفذاذ في عصرنا الحديث‏..‏ وإذا اقتربنا من الفنون والعمارة ففي العالم شواهد تؤكد أن هذه الحضارة كانت مصدرا للفن الجميل ومن يشاهد ألاف المساجد وألاف الكنائس في العالم العربي سوف يتأكد أننا أمة تقدس الجمال‏..‏ وإذا زرنا حدائق الأدب والشعر فلدينا منها مساحات لا حدود لها‏..‏ وفي تاريخنا دروس كثيرة عن الحريات والقوانين‏..‏ واحترام حقوق الناس‏..‏ وتقدير المرأة‏..‏ واحترام وبناء الأسرة‏..‏ وحق الجار والأهل والوطن‏..‏ والشوري والمساواة والعدل والسلم لمن جنح له والحرب لمن أرادها‏..‏



لم أندم يوما لأنني عربي‏..‏ ولن أندم أبدا لأنني اخترت هذه الرموز وسكنت كل لحظة من عمري فإذا كنت فرعوني الدماء‏..‏ فأنا عربي الأنتماء مسلم العقيدة مصري الوطن‏..‏ وهل هناك أجمل وأعظم من وطن يجمع رحابة التاريخ‏..‏ وأصالة الجذور‏..‏ وصفاء العقيدة‏..‏



هذه هي مصر التي نحبها ونريدها دائما فرعونية عربية إسلامية قبطية لأنها أول من علم الناس الحرف‏..‏ وأول من علم البشر التوحيد وأول دروس الفن والجمال والعمارة‏..‏ ويجب أن تبقي دائما دروسا في التاريخ وحصنا للعروبة‏..‏ والبيت الآمن لكل صاحب فكر أو عقيدة فهل من العدل أن نقف أمام إنسان مليء بالحياة ونحاول أن نفصل رأسه وننزع قلبه ونقطع أقدامه وبعد ذلك نتساءل‏..‏ كيف مات‏..‏ هذه هي مصر إذا تجزأت ماتت‏..‏ هي النوبة وسيناء والدلتا والصعيد والواحات‏..‏ هي القبائل والعائلات والافندية هي الريف والحضر‏..‏ هي الثراء الفاحش والفقر المتوحش‏..‏ هي كل هذه الجذور التي امتدت علي ضفاف نيلنا الخالد هي مصر العربية المسلمة‏..‏ ومصر الفرعونية المسيحية هي مصر السيدة العذراء وآل البيت والرهبان وأولياء الله الصالحين هي المساجد والكنائس والأديان لله والأوطان للبشر هذا هو السر في عبقرية هذا الوطن‏..‏ في ثراء تاريخه وأماكنه ورموزه



وهذه هي مصر التي نعرفها ونحبها في كل الظروف والأحوال‏..‏













ويبقي الشعر





لا شيء يبدو الآن بين ربوعنـا

غير الشــتات‏..‏ وفرقـة الأبناء

والدهر يرسم



صورة العجز المهين لأمة

خرجت من التاريخ

واندفعت تهرول كالقطيع إلي حمي الأعداء‏..‏



في عينها اختلطت

دماء النـاس والأيـام والأشـياء

سكنت كهوف الضعف



واسترخت علي الأوهام

ما عادت تري الموتي من الأحياء

كـهانـها يترنـحون علي دروب العجز



ينتفضون بين اليأس والإعيـاء

ماذا تبقـي من بلاد الأنبياء ؟

من أي تاريخ سنبدأ



بعد أن ضاقـت بنا الأيـام

وانـطفأ الرجاء

‏'‏من قصيدة ماذا تبقي من بلاد الأنبياء سنة‏2000'‏


Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads