هوامش حرة
وماذا عن مكاتب الوزراء.. ؟
يكتبها: فاروق جـــويـدة
أتعجب كثيرا من بعض الزملاء الذين يدافعون بسذاجة عن قضايا الفساد في مكاتب بعض السادة الوزراء ويقولون.. وما هي مسئولية الوزير إذا كان مستشاروه أو مساعدوه أو معاونوه مدايون في قضايا فساد وما هي علاقة الوزير بذلك كله وهل المطلوب منه أن يراقب كل صغيرة و كبيرة في وزارته..
وأنا أقول: إذا كان الوزير غير مسئول عما يدور في مكتبه من أشخاص وثق فيهم وأختارهم فكيف نحاسبه علي كوارث أخري بينه وبينها آلاف الأميال.. كيف لا نتحدث عن حريق تحت أقدام المسئول الكبير وفي ثيابه ونعطي أنفسنا الحق في أن نحاسبه علي جرائم لا يراها أو أخطاء لا يسمع عنها ؟!.. من الخطأ الجسيم أن يدافع البعض عن سوء اختيارات المسئولين الكبار لمعاونيهم خاصة إذا كانت اختيارات يشوبها الانحياز وغياب الموضوعية وعدم الأمانة والثقة المطلقة..
لا يمكن لنا من حيث المبدأ أن نفصل بين المسئول الكبير وبين الأشخاص الذين اعتمد عليهم ومنحهم ثقته لتنفيذ قراراته.. وفي السنوات الأخيرة ظهرت فضائح كثيرة في مكاتب عدد من الوزراء.. كان من بين هذه الفضائح جرائم رشوة واعتداء علي المال العام واختلاسات وتكوين ثروات ضخمة مشبوهة من مال الشعب فكيف يمكن السكوت علي ذلك كله ؟..
وإذا كان الفساد ظاهرة اجتماعية لا عمر لها ولا تاريخ فإن تكرار هذه الجرائم في مكاتب عدد كبير من الوزراء علي فترات متقاربة وصل بنا إلي ما يشبه الظاهرة.. في سنوات قليلة سقط عدد كبير من الأشخاص المقربين جدا للسادة الوزراء, وقد أدين عدد كبير منهم ودخلوا السجون ويقضون الآن عقوبته بينما هرب البعض الآخر حاملا الأموال التي نهبها ليعيش في الخارج دون أن يتبعه أحد..
ولابد لنا أن نقرر من البداية أن كل وزير مسئول مسئولية أخلاقية وإدارية وسياسية عن اختياراته خاصة إذا كانت هذه الاختيارات قد خلقت مراكز قوي حول الوزير تتحكم في كل شيء في وزارته بل أنها في أحيان كثيرة تمثل وجها من وجوه السلطة الغاشمة ضد كل من يعارض الوزير أو يشكك فيمن حوله..
الجانب الثاني أن محاكمة هؤلاء المحيطين بالوزراء في قضايا جنائية انتهت بأحكام قاطعة وإدانات واضحة لم تشمل السادة الوزراء من قريب أو بعيد لأسباب كثيرة أهمها أن هناك قوانين تمنع محاكمة الوزراء وهم في السلطة إلا بشروط مستحيلة.. وبجانب هذا فإن الوزراء عندنا لا يتغيرون فكيف يحاكمون وما بين جرائم واضحة وصريحة في مكاتب الوزراء واستحالة سؤالهم أمام جهات التحقيق وبقاء الوزير في منصبه رغم أنف القوانين أمام هذا كله.. يمكن أن تتكرر الجرائم من حين إلي حين وبدلا من أن يحيط الفساد بوزارة واحدة.. تنتقل العدوي كالوباء ونجد كل يوم كارثة جديدة في مكتب وزير من الوزراء..
في فترات زمنية قصيرة طفحت علي السطح مجموعة كبيرة من الجرائم في مكاتب الوزراء كان الأكثر خطرا في هذه الجرائم ثلاث وزارات واضحة وصريحة تكررت فيها الكوارث..
* كان أول هذه الوزارات هي وزارة الزراعة.. في مشهد تاريخي كان ثلاثة من كبار المسئولين في الوزارة يحاكمون في جرائم رشوة واعتداء علي المال العام وتكوين ثروات واستيراد مبيدات مسرطنة.. وأمام القضاء كانت الأحكام رادعة.. ومابين مدير مكتب وزير سابق ومستشاره القانوني دارت المحاكمات ودخلت فيها عناصر نسائية كشفت الوجه القبيح للفساد حين يخرج من مكاتب السلطة ومراكز القوي وأحضان الوزراء..
في قضايا وزارة الزراعة كانت صفقات الأراضي التي تم توزيعها بلا ضوابط وكانت هذه الصفقات هي المصدر الرئيسي لتكوين ثروات الفساد في مصر في السنوات الأخيرة.. تأشيرات بسيطة عليها توقيع الوزير بآلاف الأفدنة في كل المناطق وبأسعار زهيدة للغاية ومن هذه الأراضي التي وزعتها وزارة الزراعة تكونت الثروات الخبيثة التي نهبت ثروة مصر العقارية فتحولت إلي منتجعات وأراضي بناء, وكانت سببا في كوارث كثيرة ابتداء بما حدث في البنوك وانتهاء بعشوائيات البناء..
في الوقت الذي دخل فيه البعض السجون بسبب هذه القضايا هرب البعض الآخر, ولم يستطع أحد أن يسأل الوزير المسئول عن كل هذه الفضائح سواء وهو في منصبه أو بعد أن ترك المنصب..
* في موقع آخر من مواقع الفساد كانت وزارة الإسكان حيث شهدت أكثر من جريمة وقع فيها مسئولون كبار بينهم مسئول في مدينة6 أكتوبر مع إحدي المذيعات, وفي هذه القضية كانت الأراضي هي أيضا سبب المأساة.. حيث تتركز مافيا تسقيع الأراضي ما بين الرشاوي والتخصيص وملايين الجنيهات الضائعة, بينما يجلس شاب غلبان يريد شقة مساحتها63 مترا ولا يحصل عليها.. وفي الأيام الأخيرة اقتحمت الرقابة الإدارية وزارة الإسكان لتضع يدها علي جريمة رشوة كبيرة وقع فيها مسئول كبير مازال يواجه مصيره أمام القضاء.. في مأساة مدينة6 أكتوبر كانت هناك إدانات وأحكام وجرائم..
وفي قضية الرشوة الأخيرة سوف ننتظر كلمة القضاء.. ولكن المهم في كل هذه القضايا أنها تتعلق بالأراضي سواء كانت أراضي بناء أو أرضا زراعية.. وهنا يتضح لنا حجم الدمار والفساد في وزارتين تتحكمان في سلطة قرار توزيع الأراضي في الدولة المصرية, ولعل ما حدث في مسلسل الأراضي ابتداء بالتخصيص وانتهاء بالتسقيع وجمع الثروات يؤكد دور بعض العاملين في مكاتب الوزراء في هذه الجريمة..
* إذا انتقلنا إلي وزارة العقول والفكر والفنون الرفيعة وهي وزارة الثقافة فسوف نكتشف أن جرائم الفساد فيها كانت تمثل تاريخا ممتدا لسنوات طويلة ما بين مستشار صحفي ومدير مكتب أدينا أمام القضاء ودخلا السجن واختيارات أخري كثيرة كانت مجالا للقيل والقال.. والغريب في جرائم وزارة الثقافة أنها كانت اختيارات غريبة من المسئولين بين شاب يحمل مؤهلا متوسطـا يصبح مستشارا صحفيا لوزارة العقول والإبداع, أو شاب آخر بلا خبرة يتحكم في مصير وزارة كاملة ماليا وإداريا وفكريا.. وفي ظل هذه التركيبة من الاختيارات الفاسدة والغريبة كان حريق مسرح بني سويف ونهب الآثار وسرقة اللوحات من الأوبرا إلي قصر محمد علي واحتراق المسرح القومي والمسافر خانه.. وملايين الجنيهات التي ضاعت في منشآت من الكتل الخرسانية التي لا يعرف أحد ماذا جري فيها وأين الأموال التي أنفقتها الدولة في كل هذه المنشآت..
هذه بعض الحوادث والقضايا التي شهدتها مكاتب عدد من الوزراء وهي ظاهرة تقوم علي اختيارات خاطئة وتكوين مراكز قوي داخل الوزارات وأمام الثقة الزائدة والاختصاصات التي لا حدود لها في كل شيء كانت الأخطاء والتجاوزات والخطايا وكان المال العام هو الضحية في كل هذه الجرائم من شباب بلا تجربة ذاق حلاوة السلطة والمال الحرام وأحلام لا حدود لها في ثراء غير مشروع..
إن الملاحظ في هذه القضايا أنها قامت علي محورين رئيسيين.. أولهما أنها تجاوزات تجسدت في الاعتداء علي المال العام بصورة وحشية تجاوزت كل الحدود أنها عبارة عن صفقات بملايين الجنيهات تكونت منها ثروات ضخمة تجاوزت كل الحسابات..
الملاحظة الثانية أننا أمام شباب وجد نفسه يحمل كل هذه السلطات في مكاتب الوزراء دون خبرات أو أخلاقيات أو رقابة فكانت عمليات النهب التي تعرض لها المال العام في جرائم ليست فقط مخلة بالشرف ولكنها تدخل في نطاق تدمير ثروات الوطن.. والغريب في الأمر كله أن هذه الجرائم وهذه المحاكمات وهذه السجون كانت بعيدة تماما عن السادة الوزراء برغم أنهم كانوا وراء قرار الاختيار وقرار الاختصاص وأنهم أصحاب الكلمة الأولي والأخيرة في تحمل المسئولية ؟
وأمام غياب المساءلة والحساب فإن هذه البؤر السرطانية تنتشر في أماكن ومواقع كثيرة داخل مكاتب الوزراء حيث تجد مع كل وزير هذا الطفل المعجزة, وإذا كانت أجهزة الرقابة قد وصلت إلي بعض هؤلاء فإن هناك البعض الآخر مازال بعيدا عن المساءلة والحساب..
في الأعوام الأخيرة أنحصر النشاط الاقتصادي في مصر بين السلطة ورجال الأعمال في مجالين رئيسيين: هما تجارة الأراضي وإقامة المنشآت الحكومية.. وفي تجارة الأراضي حدثت تجاوزات كثيرة في توزيعها وتسقيعها ووسائل الحصول عليها والتلاعب بأسعارها, وقد لعبت مكاتب الوزراء بمن فيهم الوزراء أنفسهم دورا خطيرا في توزيع هذه الثروات..
وفي المنشآت الحكومية كانت هناك أيضا عمليات تلاعب وتحايل ونهب لأننا أمام كتل خرسانية سواء كانت تحت الأرض أو فوق الأرض وما أكثر البلايين التي ضاعت هنا وهناك خاصة في ترسية المناقصات وعمليات البناء والترميم والمباني الجديدة, ومازالت مكاتب الوزراء تحمل لنا كل يوم مفاجأة جديدة في الرشوة أو نهب المال العام أو تبديد ثروة الشعب, وفي كل يوم يخرج لنا طفل معجزة من مكاتب أحد وزرائنا وهو يحمل كارثة جديدة.. ورغم الأحكام والإدانات.. والسجون والمحاكمات فلم يستيقظ أحد.. والسبب في ذلك كله أن الفساد مثل كل الأوبئة يتسلل من مكان إلي مكان ومن مسئول إلي مسئول والسبب أننا لا نواجه الرؤوس ولا نحاسب الكبار برغم أن لدينا قانونا يسمي من أين لك هذا وهو قانون معطل منذ سنوات بعيدة.
إن كل وزير يتحمل خطايا اختياراته خاصة أن بعض المسئولين في مكاتب الوزراء يتجاوز في اختصاصاته حدود الوزير نفسه.. ولهذا ينبغي أن يتابع الوزير كل ما يجري في مكتبه من مساعديه ومستشاريه.. حتي لا نجد أنفسنا كل يوم أمام طفل معجزة داخل السجون أو ينتظر دوره أمام القضاء..
.. ويبقي الشعر
يا أيها النـهر الجـليل
أنا من بلاطك مستقيل..
أنا لن أغنـي في سجون القـهر
واللـيل الطويل
أنا لن أكون البلبل المسجون
في قـفص ذليل
أنا لن أكون الفارس المهزوم
يجري خلف حـلم مستحيل..
ما زال دمع النيل في عيني
دماء لا تجف.. ولا تسيل
الآن أعلن.. أن أزمنة التنطـع
أخرست صوتي
وأن الخيل ماتت
عندما اخـتنق الصهيل
يا أيها النهر الجـليل
إن جئت يوما شامخا..
ستـعود في عيني.. نيل..