هوامش حرة : المصــريون‏..‏ وغيــاب الهـــوية

هوامش حرة



المصــريون‏..‏ وغيــاب الهـــوية



يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـدة ‏‏







إذا لم تكن مصر أجمل بلاد الدنيا فقد كانت وستبقي في عيون المصريين هي الأجمل‏..‏ وإذا لم يكن الشعب المصري أفضل شعوب الدنيا إلا أنه كان يري نفسه دائما أنه الأفضل‏..‏ ولم تكن علاقة المصريين بوطنهم علاقة عادية تشبه كل العلاقات بين البشر والأوطان‏,‏ وربما كان السبب في ذلك أن مصر وطن قديم أمتد عبر التاريخ الطويل للإنسانية‏,‏ وعرف قيمة الاستقرار‏..‏ وأن هذا الامتداد قام علي مجموعة عناصر لم تتغير منها النيل والرقعة الخضراء الصغيرة الممتدة علي ضفافه‏..‏ ومنها الحضارة التي تركت شواهدها في وقت تلاشت فيه حضارات كثيرة مع متغيرات الزمن والجغرافيا والمناخ والتربة‏..‏ ومن هذه العوامل أيضا الأرض التي تمثل أهم عناصر الكفاية والثراء والحماية في التاريخ المصري‏..‏ وقبل هذا كله فقد ثبت علميا أن الحضارة جينات تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل‏..‏ وبرغم تعدد الغزوات علي الأرض المصرية إلا أنها حافظت علي خصائصها التاريخية والإنسانية في هذا البعد التراثي العريق الذي اتسمت به الشخصية المصرية‏..‏



وبرغم أن الثبات كان من الظواهر الواضحة في التاريخ المصري بكل ما يحمله ذلك من السلبيات والايجابيات إلا أن المصريين استطاعوا أن يحافظوا علي مجموعة من العلاقات منحتهم قدرا من الصلابة في مواجهة متغيرات الزمن والحياة ابتداء بالطبيعة وانتهاء بالحروب‏..‏ ساعد علي رسوخ هذه الثوابت بعض المقدسات التي حكمت سلوك المصريين وتجسدت في نظريات التوحيد قبل ظهور الأديان ثم تأكدت بعد ذلك في احتضان مصر للديانات السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام‏..‏ ولم تكن العقائد وحدها هي مقدسات المصريين‏..‏ كان النيل شيئـا مقدسا في حياتهم‏..‏ ابتداء بإحتفالات الوفاء حين يفيض وانتهاء بالعرائس التي كان المصريون يقدمونها للنيل قربانا وعرفانا وبقيت العلاقة بالأرض والزرع والحصاد من مقدسات المصريين حتي وأن حملت بعض الجوانب السلبية منها التواكل وانتظار ما يجيء وما لا يجيء‏..‏ من هنا كانت الهوية واضحة تماما في تاريخ المصريين وتجسدت في منظومة ثلاثية هي الله في الأديان‏..‏ والأرض في البشر‏..‏ والنيل في العطاء‏..‏



إن الأديان عند المصريين عبر تاريخهم لا تحتاج إلي مقدمات طويلة لأن المصري متدين بالفطرة من عهد اخناتون وحتي موالد آل البيت رضوان الله عليهم في الأضرحة والمساجد وحتي ترانيم الصلاة في ذكري السيدة العذراء عليها السلام في الكنائس‏..‏ وعلي جانب آخر فإن الارتباط الشديد بالأرض يجعل الإنسان المصري أقرب للسكون والسكينة ولا يحب روح المغامرة والسفر والرحيل‏..‏ وهنا كان عشق المصريين للأرض التراب‏..‏ والخير‏..‏ والتاريخ وبمعني آخر البيت والقبر‏..‏ إن من أغلي الأشياء لدي الإنسان المصري قطعة أرض يعيش عليها حيا‏..‏ وتحتويه قبرا‏..‏ ويرثها الأبناء والأحفاد بعده‏..‏ كان من الممكن في ظل هذه التراكيب الإنسانية أن نحدد هوية المصريين لأن كل شيء بعد ذلك دار في فلك هذه الثلاثية‏,‏ متنقلا بين الأديان دون النظر إلي دين واحد ولهذا عاشت في مصر كل الأديان واتسمت جميعها بالسماحة والوسطية‏..‏ في حين‏..‏ بقي النيل أهم عناصر الحياة‏..‏ وبقيت الأرض سر الوجود‏..‏ وسر هذا الشعب مهما اختلفت الأحداث وتغيرت الظروف والأحوال‏..‏



هذه مقدمة طالت ولكنها ضرورية قبل أن أطرح هذا السؤال ماذا جري للهوية المصرية‏..‏ هل فقدت مقوماتها‏..‏ هل ذابت أمام متغيرات شديدة الضراوة والقسوة أم أنها فقط تعاني ظروفـا صعبة في زمن تلاشت فيه ثوابت كثيرة‏..‏ هناك شواهد كثيرة تقول إن المصريين الآن تغيرت فيهم وبهم أشياء كثيرة جدا‏..‏ وأن ما كان يسمي الهوية المصرية أصبح تاريخا قديما يمكن أن يتوقف عنده الدارسون والباحثون‏..‏ لم تعد الأرض هي مصدر الولاء والانتماء لهذا الوطن كما كانت‏..‏ ولم يعد للنيل ذلك الوهج القديم الذي كان يهز القلوب ويشعل المشاعر حتي في ثورة فيضانه‏..‏ وحتي الأديان أكبر مقدسات المصريين وأقدمها تحولت إلي سلعة يتاجر فيها البعض‏..‏ ويرفضها البعض الآخر والدليل هذا الهجوم الضاري من بعض الفئات علي الأديان إسلاما ومسيحية يصل بنا إلي حد اتهام الدين بأنه أخطر أسباب التخلف‏..‏ صارت مصر شيعا وأحزابا هناك من يتجني علي الأديان بغير حق‏,‏ وهناك من يدافع عنها بلا هوادة‏..‏ وتراجعت ثلاثية الهوية المصرية وتجسد ذلك في هذه الانقسامات الحادة والعميقة في الشخصية المصرية وحمل ذلك شواهد كثيرة‏..‏


*‏ لم تكن الهجرة عادة مصرية راسخة في التاريخ المصري‏..‏ لم يكن المصريون يحبون الرحيل خارج وطنهم‏..‏ وكان الارتباط بالأرض سمة مصرية تجذرت عبر تاريخ طويل‏..‏ وفي الأعوام الأخيرة اتسعت دائرة الهروب وليس الهجرة إلي خارج مصر‏..‏ تحولت الأرض المصرية إلي وطن طارد لأبنائه ابتداء بالالاف الذين غرقوا علي شواطيء البحار هروبا من مصر وبحثــا عن وطن آخر‏..‏


*‏ لم يعد جواز السفر المصري البسيط الأخضر يغري الصغار أو الكبار‏,‏ فالأطفال الصغار يخرجون من بطون أمهاتهم في المستشفيات الأجنبية في دول العالم المختلفة ومعهم جواز سفر أجنبي يعتقدون أن فيه المستقبل الأفضل والحياة الأجمل بعيدا عن هموم مصر وأحزانها‏..‏



في موكب آخر غير مواكب المواليد ألاف الأشخاص ما بين وزراء ومسئولين كبار ورجال أعمال يحملون جنسيات أخري‏,‏ يتصورون أنها توفر لهم حماية أكثر‏,‏ خاصة إذا تعارضت مصالحهم مع مصالح وطنهم‏,‏ يبدو أمامهم وطن آخر يلجأون إليه‏..‏ كثير من السادة الوزراء ومن رجال الأعمال المقيمين يفضلون الحصول علي جنسية أخري وكثير من رجال الأعمال الذين هربوا بأموال البنوك المصرية يحملون جنسيات أجنبية‏..‏ وإذا سألت هؤلاء جميعا ما الذي جعلهم يلجأون لذلك قالوا‏..‏ إنها مصالحنا تسبق كل شيء بما في ذلك وطن كان عزيزا نسمية مصر‏..‏


*‏ تغيرت تماما أساليب التعامل بين المواطن المصري ووطنه‏..‏ أصبح الآن أكثر أنانية من أجل تأمين مصالحه‏..‏ لم يعد يهتم بشيء يسمي أمن الوطن وسلامته‏..‏ إن كل إنسان يريد أن يحصل علي شيء من الغنيمة لا يهم بعد ذلك هل حصل عليها بالحق أم بالباطل أصبح هدف الإنسان المصري وأقصي غاياته أن يؤمن مستقبله ومستقبل أبنائه وبعد ذلك فليأت الطوفان‏..‏



هذه الأنانية في التعامل مع ثروات مصر أدت إلي انقسام المجتمع المصري إلي طبقتين لا ثالث بينهما‏,‏ طبقة ملكت كل شيء‏..‏ وطبقة أخري لم تأخذ من الغنيمة أي شيء وكانت النتيجة هذا التفاوت الرهيب في توزيع الثروة وحصول أعداد كبيرة من البشر علي ثروات لا يستحقونها جاءت بلا جهد أو عمل او كفاح‏..‏ بينما بقي الملايين في القاع يلتقطون ما يسقط عليهم أحيانـا من مخلفات الأثرياء‏,‏ وهنا أيضا غابت الهوية‏..‏ لأن من ملكوا كل شيء جعلوا الوطن مجرد فندق يقضون فيه بعض الوقت‏..‏ ومن لم يملكوا شيئـا سألوا أنفسهم ماذا بقي لنا في هذا الوطن لكي نبقي فيه وكان التفكير في الرحيل‏..‏ أو الهروب أو التمرد‏..‏


*‏ وصلت مصر في يوم من الأيام إلي نقطة من نقاط التميز الشديد في العلاقات بين مواطنيها كان الحوار وسيلة الخلاف في الرأي وكان العدل ميزان الصراع علي المصالح‏..‏ ولم تكن الحياة بكل هذه القسوة في التعامل بين المصريين‏..‏ من يتابع صفحات الحوادث وصور القتل الجماعي ونهب ثروة الشعب‏..‏ والاعتداء علي كرامة المواطنين واستباحة كل المقدسات يشعر أنه في وطن غير مصر التي عرفها وأحبها وافتداها بكل غال ورخيص‏..‏ لقد تشوهت العلاقات بين الناس فغابت لغة الحوار وتحول أصحاب الفكر إلي معارك وصراعات وصلت إلي أقصي درجات العنف الجسدي والمعنوي وهنا كان التطرف في كل شيء‏..‏ تطرف في العداء للأديان‏..‏ وتطرف في الاعتداء علي حرية الآخرين مهما تكن توجهاتهم‏..‏ وتطرف في المظاهر ابتداء بالملابس والأزياء وانتهاء بالتحلل والعري‏..‏ وتطرف في مظاهر التدين وصلت به وبنا إلي الإرهاب باسم الدين لم يعد للوسطية القديمة مكانـا بين المصريين في عباداتهم وملابسهم وسلوكياتهم‏..‏ نحن أمام مجتمع فقد كل عناصر التوازن والسلام الاجتماعي‏..‏ نحن أمام أشخاص شديدي الثراء وأشخاص شديدي الفقر وما بين مرتفعات القطامية وضحايا الدويقة وما بين الجامعات الأجنبية‏,‏ ومدارس ا

لصعيد التي لا توجد فيها دورات مياه‏..‏ هذا التفاوت الرهيب أسقط منظومة اجتماعية كاملة في الحوار والاختلاف والفكر والثروة حتي وصل إلي دنيا الجريمة بكل ما حملت لنا من مظاهر العنف والقتل والدماء‏..‏


*‏ أمام غياب الهوية المصرية وتراجع مقوماتها وثوابتها ظهرت صيحات كثيرة وموضات وسلوكيات غريبة علي المصريين وقد شجع علي ذلك ما حدث لمنظومة التعليم التي فسدت تماما أمام غياب الرؤي وحقول التجارب‏..‏ وفسدت منظومة الثقافة أمام مظاهر التطوير الصوري والشكلي وانهيار الجوهر والمضمون‏..‏ وشجع علي ذلك أيضا ما حدث في سماوات الكون من غزو إعلامي وثقافي وفني رهيب غير ملامح الشخصية المصرية وترك لنا أجيالا جديدة ضائعة بين ثقافة التفاهة‏..‏ والمخدرات وبرامج تعليم مشوهة ومدسوسة‏..‏ وهنا بدأ الحديث عن الهوية المصرية التي كانت يوما تتسلح بالدين إسلاما ومسيحية‏..‏ وتنتمي للأرض عطاء وخيرا ووجودا‏..‏ وللنيل استقرارا وحياة‏..‏ سقطت منظومة الأديان حين حمل البعض السيوف والبنادق وسقطت منظومة الارض حين أصبح الهروب حلما والرحيل ضرورة‏..‏ ولم يعد النيل يغري شاربيه بأنهم سيعودون يوما عملا بالمقولة القديمة‏..‏ إن من شرب ماء النيل لابد أن يعود له يوما‏..‏ ويبدو ان المقولة لم تعد تغري أحدا في هذا الزمان‏..‏ فقد هرب الأبناء تاركين النهر المقدس باحثين عن حلم في بلاد الله‏..‏


*‏ وإذا أردت أن تبحث عن الهوية المصرية التي ضاعت‏..‏ اذهب إلي علاقة المصريين بالأديان‏,‏ وما كانت عليه وما صارت إليه الآن وابحث عن الأرض مهد الخير والنماء وفتش عن أسرارها‏,‏ وما حدث فيها ما بين البيع والتدمير والإهمال‏..‏ واسأل عن النيل هذا العملاق الذي ينتظره مصير مجهول‏..‏




..‏ ويبقي الشعر



قـد كـان وجهك دائمــــا مرآتـــــي

في الفـرح في غـضبـي وفـي ثــوراتي

والآن ألـمح فيك شيــئـا غـامضـــا



وكــــــأنــنــــا شــبـح مـــــن الأمـــــوات

نـبض ضعيف‏..‏ لهفـة مغــــلـوبة

وأنـــامل سكـــــــــــنـت بلا نـــغـــمــات



وعيـونـك السوداء ظل راحــــــــل

وفـراشة سقـطــت علي الشرفـــــــــات

شيء تـغير في الـعيون وليــتـنـي



يوما أعــود لكـــــــي أري مـــــرآتــــي

صارت شـظايا كالرماد تـنـاثـرت

وعلي بقاياها بـــــــدت مأســــــاتـــــــي



كانـت نهايتـنـا جراحا أثـقلــــــــت

قـلـبـي وأدمت بالظــنـون حيـــــاتــــــي



قصيدة ظنون سنة‏2003‏

Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads