هوامش حرة : بيت للشعر‏..‏ في القاهرة

هوامش حرة



بيت للشعر‏..‏ في القاهرة



يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـدة




حملتني الطائرة من مطار شارل ديجول في باريس إلي مطار مدينة شانون في أيرلندا‏..‏ وتحمل المدينة أسم أكبر أنهار ايرلندا حيث يمتد نهر شانون لمسافة تزيد علي‏400‏ كيلو متر ولكن الذي رسخ في ذاكرتي دائما أن ايرلندا هي الوطن الذي أنجب برناردشو واوسكار وايلد‏..‏ وهم يقولون إن شكسبير واحد من أبناء وطنهم‏..‏



نصف ساعة من الزمان في السيارة هي المسافة بين المدينتين شانون وليمريك‏..‏ أن ليمريك واحدة من أقدم المدن في ايرلندا بل إنها تدخل في نطاق المدن القديمة والعريقة في تاريخ أوروبا‏..‏ هذه المدينة تقيم منذ سنوات مهرجانـا سنويا للشعر يحمل اسمها تدعو إليه نخبة من شعراء العالم باختلاف لغاتهم‏..‏ والغريب أن مهرجان ليمريك العالمي لا تقيمه الدولة ولكن مجلس الفنون في المدينة هو الذي يشرف عليه‏..‏



لم أشاهد علي امتداد البصر ناطحة سحاب فمازالت الفيلات الصغيرة القديمة والحديثة تتناثر وسط مساحات كبيرة من الأراضي الخضراء تتسللها بحيرات هنا وهناك‏..‏



شارك في المهرجان أكثر من‏20‏ شاعرا جاءوا من دول مختلفة منهم الأوروبي والأمريكي والهندي‏,‏ وعلي امتداد ثلاث ليال شدا الشعراء بقصائدهم‏..‏ كان مخصصا لي أن أشارك في أمسيتين ترافقني ترجمة باللغة الانجليزية لقصائدي التي ترجمها الصديق د‏.‏محمد عناني أستاذ الأدب الانجليزي‏,‏ وصدرت في أكثر من كتاب باللغة الانجليزية وقرأتها د‏.‏مايسة عبد العال أستاذة الأدب الانجليزي بجامعة الإسكندرية‏..‏



كانت الأمسيات تقام في أحد المسارح العتيقة في مدينة ليمريك‏..‏ كان الجمهور كبيرا فقد أحضرت إدارة المهرجان المئات من طلية الجامعات ليتابعوا القراءات الشعرية سواء كانت بلغتها الأصلية أو مترجمة إلي الإنجليزية‏..‏



في الأمسية الأولي كان يجلس أمامي في الصف الأول د‏.‏ديزموند اوجريدي وهو شاعر ايرلندي شهير في السبعينيات من عمره وقد ترجم المعلقات السبع في الشعر الجاهلي كما قدم في دراسات متعددة نخبة من الشعراء العرب‏..‏ وقد أعد كتابا موسوعيا عن مدينة الاسكندرية حيث عاش فيها فترة من حياته كما عمل أستاذا في الجامعة الأمريكية بالقاهرة‏..‏ في مقدمه المشرفين علي المهرجان بارني شيهن‏..‏ ورغم أنه يقوم بتربية الخيول إلا أنه عاشق للشعر والشعراء ويعرف الكثير عن مصر تاريخـا وشعبا‏..‏



من أكثر الأشياء التي شدت انتباهي الاهتمام الكبير من المواطنين بالمهرجان‏,‏ وأن ملصقاته في كل مكان بما في ذلك برامج الأمسيات وأسماء وصور الشعراء المشاركين‏..‏ وكانت الأمسيات تمتد حتي تقترب من منتصف الليل والجماهير تتوافد من مختلف الأعمار‏..‏ والظاهرة الغريبة التي شاهدتها في معظم الدول الأوروبية هي‏'‏ بيوت الشعر‏'‏ حيث تقام في المواقع الأثرية ويرتادها الشعراء من كل مكان‏,‏ وتقام فيها اللقاءات والأمسيات بصفة منتظمة وهي تجمع كل أجيال الشعر‏..‏



إن عدد سكان ايرلندا لا يتجاوز أربعة ملايين نسمة ويبلغ متوسط دخل الفرد‏40‏ ألف دولار سنويا‏,‏ وتجمع ايرلندا متناقضات كثيرة فهي دولة منتجة للقمح وفي نفس الوقت مصدرة للبرمجيات وتعتمد كثيرا علي إنتاجها الزراعي والحيواني‏..‏ وإن كان تاريخها الثقافي هو أهم منجزاتها‏..‏



وفي جامعة ليمريك التقيت بعدد من الأساتذة المتخصصين في الأدب العربي وهم يعرفون الكثير عن الثقافة العربية ويحفظون أسماء عدد من شعراء مصر الكبار أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وصلاح عبد الصبور‏..‏ وفي الجامعة عدد من الرسائل الجامعية التي تناولت الشعر العربي من العصر الجاهلي وحتي شعراء المقاومة الفلسطينية‏..‏



في الليلة الأخيرة من المهرجان وجدت نفسي اجلس في دائرة مستديرة ومعي عدد من الشعراء لنناقش معا قضية ترجمة الشعر‏..‏ كان علي المائدة س‏.‏ك وليمز وهو شاعر أمريكي كبير حاصل علي جائزة البوليتزر وايزتوك اوسجنيك وهو شاعر من سلوفينيا وترجمت أشعاره لأكثر من‏20‏ لغة واناجيلزكا وهي من سلوفينيا وتعيش في لندن وهي من مؤسسي ورشة ترجمة الشعر الدولية وفيونا سامبسون وتنشر مساهماتها الأدبية في الجارديان والتايمز الإنجليزيتين‏..‏



ودار حوار طويل حول القضية وأنقسم الرأي بين مؤيد ومعارض‏,‏ وكان رأيي أن ترجمة الشعر من أصعب وأدق مجالات الترجمة الأدبية لأن الترجمة أمر عادي في الرواية حيث لغة السرد والوقائع ولكن ترجمة الشعر إحساس ومناخ وخلفيات ثقافية وإنسانية ولغوية‏..‏ وقلت أن هناك حالات فريدة قام بها شعراء كبار لترجمة أعمالهم مثل طاغور وجبران‏..‏ واشتعلت الندوة في نهايتها عندما اقتربنا من السياسة وعلاقتها بالترجمة‏..‏ وكانت وجهة نظري أن السياسة تلعب دورا كبيرا في اختيار الاعمال المترجمة وأنها لا تخضع فقط للمقاييس الأدبية وقيمة العمل والدليل أعمال كثيرة ترجمتها المؤسسات الغربية ولاقت رواجا كبيرا لأسباب غير أدبية ومنها موقف الغرب من سلمان رشدي وآياته الشيطانية وهجومه علي الإسلام‏..‏ وقلت إن الغرب يترجم الآن أي كتاب يسيء للإسلام وعقب الشاعر الأمريكي ك‏.‏وليمز قائلا إن الثقافة تسبق السياسة عندنا ونحن نهتم بالإبداع الأدبي وليس لأسباب سياسية‏.‏ قلت السياسة عندكم تسبق كل شيء لأن تاريخ أمريكا مع الثقافة ضئيل جدا ولا يقارن بالثقافات الكبري في العالم‏..‏ أنتم تهتمون الآن بالأدب الصيني بل بالأدب الفارسي لأسباب سياسية أمام صعود الصين والصراع مع إيران‏..‏ واتسعت دائرة الخلاف ولم نتفق علي شيء وكان من الضروري أن تنتهي الندوة بلا اتفاق سواء في الأدب أو السياسة‏..‏



لقد توقفت عند أشياء كثيرة في هذه الرحلة القصيرة إلي ايرلندا إن الدول الصناعية رغم كل مظاهر التقدم المادي مازالت تهتم بالشعر فتقيم بيوتـا للندوات والأمسيات وتجمع طلبة الجامعات بل إنهم يقومون بتدريس قصائد الشعراء المشاركين في مدارسهم وكل هذه الأنشطة يقوم بها أثرياء المدينة ولا تتحمل الدولة أي نفقات فيها‏..‏



ولعل هذا يجعلني أتقدم إلي الصديق د‏.‏عبد العظيم وزير محافظ القاهرة بأن يقيم‏'‏ بيت القاهرة للشعر‏'‏ في أحد المباني العتيقة في أحد الأحياء التاريخية‏,‏ بحيث تقام فيه الأمسيات الشعرية‏,‏ ويلتقي فيه شعراء الأقاليم مع شعراء القاهرة ويكون مزارا لعشاق هذا الفن الجميل‏..‏


..‏ ويبقي الشعر

ما زال يركض بين أعماقي جواد جامح‏..‏

سجنـوه يوما في دروب المستـحيل

ما بين أحلام الليالي‏..‏

كان يجري كل يوم ألف ميل



وتكسرت أقدامه الخضراء

وانشطرت خـيوط الصبح في عينيه

واختنق الصهيل

من يومها‏..‏



وقوافل الأحزان ترتع في ربوعي

والدماء الخضر في صمت تسيل

من يومها‏..‏



والضوء يرحل عن عيوني

والنـخيل الشامخ المقـهور

في فـزع بئن‏..‏ ولا يميل



ما زالت الأشباح تسكر من دماء النـيل

فلـتخبريني‏..‏ كيف يأتي الصبح

والزمن الجميل ؟

‏(‏ من قصيدة جاء السحاب‏..‏ بلا مطر سنه‏1997)‏

Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads