هوامش حرة : الحكومة بين المساكن‏..‏ والمدافن

هوامش حرة



الحكومة بين المساكن‏..‏ والمدافن



يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـدة ‏‏



بعد أن وزعت الحكومات الرشيدة السابقة والحالية مساحات كبيرة من الأراضي علي المحظوظين ورجال الأعمال علي امتداد الطريق الصحراوي القاهرة الاسكندرية أو الإسماعيلية بورسعيد أعادت طرح فكرة قديمة لتحويل مقابر القاهرة الكبري إلي مساكن ومشروعات عقارية‏,‏ وأعلنت وزارة الإسكان عن مشروع كبير لنقل المدافن إلي محافظتي حلوان و‏6‏ أكتوبر وخصصت لها مساحات تبلغ‏71‏ مليون متر سيقام عليها أكثر من مليون مقبرة‏,‏ وسوف ينتهي وضع الرسومات النهائية للمشروع خلال الأسابيع القادمة بحيث يتم التنفيذ علي أربع مراحل بالتوازي‏..‏ ولا أدري ما هي حكاية الحكومات المصرية مع موضوع الأراضي‏..‏ دول العالم المختلفة تبحث عن إنشاء مصانع‏..‏ أو زيادة إنتاج واستصلاح مزارع وتأهيل مواطنيها لحرف جديدة أو أعمال جديدة وسلع جديدة وموارد جديدة ولكن فكر الحكومات في مصر كان دائما يبحث في شقين‏..‏ ضرائب علي المواطنين أو بيع الأراضي أو بمعني آخر استثمار وتسقيع الأراضي‏..‏



حدث ذلك عندما خسرت المساحة الزراعية في مصر أكثر من‏2‏ مليون فدان تحولت إلي مبان‏..‏ والغريب أنه لا توجد جهة في مصر الآن لديها الرقم الحقيقي لمساحة الأراضي المزروعة عندنا‏,‏ أو تلك التي تم استصلاحها وأضيفت للرقعة الزراعية‏..‏



وربما كان آخر رقم درسناه في التاريخ أن الخديوي إسماعيل استصلح‏2‏ مليون فدان في عشر سنوات من حكمه‏..‏ وبعد ذلك بدأت رحلة الهبوط واستنزاف الأراضي الزراعية في مصر‏..‏ وكانت آخر الأفكار أن تنقل الحكومة مدافن القاهرة الكبري‏,‏ وذلك لإعادة تخطيطها ضمن مشروع القاهرة‏2050‏ الذي تناقشه الحكومة الآن‏..‏



لقد سمعنا عن هذه الفكرة منذ سنوات بعيدة‏,‏ وكانت عليها مجموعة كبيرة من التحفظات خاصة إذا كان الهدف هو الاستيلاء علي كل هذه المساحات من المدافن التي تحيط بالقاهرة‏,‏ خاصة القاهرة القديمة وهي تمتد علي مساحات ضخمة في عمق الأحياء الشعبية‏..‏ وإذا أردنا رصد هذه المساحات فهي تمتد من مجري العيون بطول طريق صلاح سالم حتي العباسية‏,‏ وتدخل في مساحات من العمق تصل إلي المعادي والمقطم والبساتين‏..‏ ولا أدري علي أي أساس سيتم استثمار هذه المساحات من المدافن‏,‏ خاصة أن هناك بعض الجوانب التي ينبغي أن نتوقف عندها‏:‏



أولا‏:‏ لا أحد يعرف حجم المواطنين الذين يسكنون هذه المدافن وهم بالملايين‏..‏ وإذا كانت الحكومة قادرة علي توفير مدافن بديلة للموتي فأين ستجد مساكن للأحياء الذين سيتم طردهم من هذه المدافن أن هناك عائلات كاملة تسكن في مدفن صغير‏..‏ والأزمة هنا لن تكون فقط أزمة الأموات الذين سيتم ترحيلهم إلي حلوان و‏6‏ أكتوبر‏,‏ ولكنها أزمة المواطنين الأحياء الذين سيصبحون بلا مأوي‏..‏



ثانيا‏:‏ لا ينبغي أن تضع الحكومة خطة لنقل المدافن دون أن تناقش ذلك مع أصحاب الشأن‏,‏ وهم أصحاب هذه المدافن وهل يقبلون الفكرة من أساسها أم يرفضونها‏,‏ خاصة أن هناك مدافن ضخمة من حيث المساحة‏..‏ وهناك أيضا حساسيات شديدة في نقل رفات الموتي‏..‏ وقبل هذا كله فإن القضية يمكن أن تدخل في تعويضات كبيرة لا تستطيع الحكومة تحملها في مثل هذه الظروف إلا إذا كانت الحكومة ستنزع ملكية هذه الأرضي بلا مقابل‏,‏ وتدخل في دوامة من التقاضي مع المواطنين‏..‏



ثالثـا‏:‏ لسنا الدولة الوحيدة التي توجد مدافنها وسط المدن أو حولها أن مقبرة العظماء في باريس تقع علي أجمل ربوة في منطقة مونمارتر في قلب العاصمة الفرنسية‏..‏ وفي قلب مدينة لندن توجد عشرات المدافن‏..‏ وحول مدينة روما حدائق رائعة الجمال هي في حقيقتها مدافن تاريخية‏..‏ والفرق بين المدافن عندنا والمدافن في أوروبا أن الدول الأجنبية تحترم الموتي كما تحترم الأحياء وأننا في مصر لا نحترم الأحياء ولا الموتي‏..‏



رابعا‏:‏ منذ سنوات وعندما كانت الحكومة تقيم المحاور التي تدور حول القاهرة اخترق طريق المحور مجموعة من المدافن التاريخية تسمي مقابر الصوفية كانت أضرحة لعدد من الرموز الإسلامية والفكرية من أهل التصوف وأولياء الله الصالحين كان من بينها مقبرة ابن خلدون وعدد كبير من رموز مصر ومضي طريق المحور‏,‏ وتم هدم الأضرحة ولم يسمع أحد كلامي‏..‏



ولا أدري هل تعلم وزارة الإسكان وهيئة التنمية العمرانية أن في هذه المناطق تاريخ مدينة القاهرة بكل رموزها في ألف عام‏..‏ في هذه المدافن مئات العلماء ورجال الدين والصوفية والسياسيين وعدد كبير من نجوم الفن‏..‏ إن المشروع الذي أعدته وزارة الإسكان يؤكد الإبقاء علي هذه الرموز وهنا يجب أن تتشكل لجان لدراسة هذه المواقع‏,‏ خاصة أن بعض هذه المدافن له أهمية خاصة جدا وقيمة تاريخية لا يختلف عليها أحد‏..‏ في مقابر القلعة فوجئت يوما وأنا أشارك في جنازة أحد الأصدقاء‏,‏ أن هناك مقبرة لأبناء سيدنا علي كرم الله وجهه‏..‏ وهنا بدأت أسأل لأننا لا نعرف من أبناء سيدنا علي غير الحسن والحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة أبناء السيدة فاطمة رضوان الله عليهم جميعا وهم أحفاد رسول الله عليه الصلاة والسلام‏..‏ وعرفت أن سيدنا علي كرم الله وجهه تزوج بعد السيدة فاطمة رضي الله عنها وأنجب عدة أبناء عاشوا ودفنوا في مصر‏,‏ ومازالت أضرحتهم حتي الآن في مدافن القلعة‏..‏



خامسا‏:‏ ماذا ستفعل وزارة الإسكان في مئات المساجد والمدافن الأثرية‏,‏ وهي تمثل تاريخـا حضاريا وجماليا للعمارة الإسلامية الرفيعة التي أقيمت في عصور مختلفة‏,‏ سواء كانت فاطمية أو مملوكية أو عثمانية‏..‏ أن مثل هذا الأمر يحتاج إلي دراسة أثرية حتي لا نجد بندوزرات وزارة الإسكان وهي تهدم جزءا من تاريخ هذا البلد‏,‏ خاصة أنها مدافن لا تخص المسلمين وحدهم‏,‏ ولكن هناك مناطق كثيرة لمدافن الإخوة الأقباط‏..‏



سادسا‏:‏ أن تحويل هذه المساحات الهائلة من المدافن إلي مساكن ومشروعات استثمارية سوف يؤدي إلي زيادة سكان القاهرة بأكثر من مليوني نسمة‏,‏ ولا أتصور أن القاهرة بمرافقها وشوارعها وزحامها يمكن أن تتحمل مثل هذا العدد من السكان‏..‏ وإذا أضفنا لذلك أن هذه المساكن في قلب العاصمة لأنها توجد في المناطق الشعبية علي امتداد طريق صلاح سالم أو البساتين والسيدة عائشة والسيدة نفيسة ومنطقة مجري العيون ومصر القديمة‏,‏ وهذه المناطق تعاني من زيادة سكانية رهيبة‏,‏ فهل يمكن أن نقيم مساكن جديدة في هذا الزحام ؟‏!..‏



سابعا‏:‏ يجب أن نسأل وزارة الإسكان علي الجهات التي ستحصل علي هذه الاراضي بعد تجريدها من المدافن‏,‏ وتحويلها إلي عقارات‏,‏ هل ستقيم الحكومة عليها مساكن للمواطنين العاديين‏..‏ أم ستتحول إلي منتجعات للصفوة‏,‏ خاصة أنها تقع علي امتداد طريق صلاح سالم وقريبة من القطامية‏,‏ وتطل عليها مشروعات المقطم الاستثمارية‏..‏ أم أنها ستتحول إلي حدائق عامة‏..‏ أم ستباع في مزادات لرجال الأعمال كما حدث عشرات المرات من قبل في القاهرة الجديدة‏,‏ أم ستلحق بأراضي مطار إمبابة وما يجري فيه الآن‏..‏



ثامنـا‏:‏ حول القاهرة مساحات كبيرة من الأراضي الخالية وفي كل دول العالم يحترم الأحياء مدافن الموتي حتي ولو كانت وسط الميادين والشوارع فهم لا يقتربون منها احتراما وتقديسا‏..‏ وإذا كانت وزارة الإسكان قد قررت تنفيذ هذا المشروع خلال عامين كما أكد المسئولون فيها فينبغي أن تراعي الآثار السلبية التي ستترتب علي هذا المشروع‏..‏ أن نقل رفات الموتي قضية حساسة للغاية‏..‏ ونقل ملايين الأحياء الذين يعيشون في هذه المدافن مشكلة صعبة‏..‏ وهدم مدافن تاريخية وأثرية عمرها آلاف السنين قضية خطيرة‏..‏ والأهم من ذلك كله هو لمن ستذهب هذه المساحات من الأراضي بعد إخلائها من المدافن وتحويلها إلي حدائق او منتجعات من الجولف علي أشلاء موتانا‏..‏



وإذا كان الأمر يتعلق بالمدافن لماذا لم تفكر وزارة الإسكان ضمن مشروعاتها إخلاء منطقة الأهرامات وهدم أهرامات الجيزة والمقابر الفرعونية القديمة إذا كانت خطتها الاستيلاء علي المدافن‏,‏ وتحويلها إلي مساحات من الجولف الخضراء والمنتجعات والفيلات‏..‏ وألف رحمة علي التاريخ والحضارة‏..‏ مثل هذا المشروع يحتاج إلي مناقشة تشارك فيها أطراف كثيرة من علماء الدين والآثار والعمارة والمجتمع المدني‏,‏ فلا فرق بين حرمة الأحياء وقدسية الموتي لأن التفكير المالي والاستثماري للحكومة لا يبرر أبدا تجاهل الحساسية التي تترتب علي مثل هذه القرارات‏..‏ وأرجو أن ننسي موضوع الأراضي قليلا ونفكر في مجتمع يعرف شيئـا اسمه الإنتاج‏..‏ نحتاج إلي فكر وقرارات أكثر إنسانية‏..‏





‏..‏ ويبقي الشعر



تزيد المسافات بيني وبينـك‏..‏

أسكن عيـنـيـك‏..‏

أبني جدارا من الحلم حولك

أحميك من يأس حلـمي



وأبني قصورا علي شاطئيك

لأنـا نعيش زمانـا كئيبا

لأنـا سقطـنا علـي الدرب خوفـا

وبعثـرنـا العمر خلـف الفضاء



فـصرنـا رياحا‏..‏ وظلا‏..‏ وعطـرا

وصرنـا سحابا‏..‏ يطوف السماء

وصرنا دموعا علي كل عين

وفي كل جرح غدونا دماء



فكنـا الخطـيئة‏..‏ كنـا الهداية

كـنـا مع اليأس‏..‏ بعض الرجاء

وتبقـي المسافات بيني وبينك سدا يبعثر أحلامنـا

لأنـا نسير علـي غير درب



ونمشي وندرك أن الخطـي‏..‏

قد تهاوت

وأن الطـريق يجافي القدم

فما عاد في الدرب غير الألم



فهل من زمان‏..‏ يعيد الطـريق لأقدامنا؟

وهل من زمان يلملم بالصبح أشلاءنا ؟

تعـبنـا من العدو خلـف السراب‏..‏



وضقـنا زمانـا بأحزاننـا

ونمضي مع الحلـم عمرا طـويلا

وتغـدو المسافات هما ثقيلا

ومازلت أمضي‏..‏ وأمضي إلـيك

وإن كـان عمري يبدو قليلا


'‏ من قصيدة العدو خلف السراب سنة‏1985'‏

Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads