هوامش حرة
انفلات الشارع.. مسئولية من ؟
يكتبها: فاروق جـــويـدة
في الشارع المصري الآن ظواهر غريبة تعكس حالة من حالات الارتباك تظهر واضحة في أداء بعض أجهزة الدولة وسلوك المواطنين, وهذه الظواهر جاءت تعبيرا عن ردود أفعال غاضبة أمام قرارات متسرعة أو مواقف غير مسئولة.. البعض يري أن السبب في ذلك هو مساحة الحريات المتاحة تعبيرا أو رفضا أمام فئات الشعب المختلفة.. بينما يري البعض الآخر أن ردود الأفعال قد وصلت إلي حالة من الانفلات التي تتعارض تماما مع الحريات المسئولة.. بينما هناك فريق ثالث يري أن ما يحدث الآن يعكس كما رهيبا من التجاوزات والأخطاء التي عاني منها المواطن المصري من الأجهزة المسئولة وأنها تعبير عن حالة ضيق واختناق وصلت إلي أبعد مدي أمام ضغوط شديدة يعاني منها المصريون في ظل مؤسسات تفتقد المعايير السليمة في التعامل مع هموم المجتمع وقضاياه..
نحن أمام حالة من حالات الرفض الداخلي التي تحولت إلي مظاهرات في الشوارع واحتجاجات في أماكن العمل وامتناع عن أداء المسئولية.. وهذه الظواهر تحتاج إلي جهد كبير في رصد أسبابها حتي ندرك إلي أي مدي يمكن أن نواجهها بالحكمة والتعقل وليس بالصخب والضجيج..
لا أحد يعرف تماما عدد المظاهرات التي انطلقت في شوارع المدن والقري المصرية في الفترة الأخيرة.. ولكن المؤكد أن العدد كبير جدا.. وأن هذا العدد قد تفاوت ما بين مدينة ضخمة مثل القاهرة ومدن أخري أصغر وحتي القري التي اجتاحتها المظاهرات أمام أسباب معيشية مثل نقص المياه أو بحثــا عن رغيف الخبز أو اعتداء مدرس علي أحد تلاميذه..
هناك مظاهرات واحتجاجات كانت واضحة في رسالتها ومضمونها ومن بينها احتجاجات رجال القضاء طوال عام كامل تجسد في هذا الانقسام بين أجهزة العدالة.. كانت الدولة ممثلة في بعض الأجهزة المسئولة تعكس فكرا وموقفـا يختلف تماما عن فكر وموقف نادي القضاة.. واتسعت دائرة الخلاف بين تيارات متباينة ولكنها كانت تؤكد وجود حالة من الرفض الشديد لسياسات حكومية وصلت بالقضاة إلي هذه الدرجة من التذمر والاحتقان الشديد.. وكما هي العادة لم تسترح الدولة إلا بعد أن دخلت خيولها نادي القضاة وأسكتت الأصوات المعارضة.. وما حدث في نادي القضاة يؤكد أن الدولة مازالت تتعامل مع قضايا الفكر واختلاف المواقف بطريقة واحدة.. الحلول الأمنية.. تتبعها عملية احتواء تستخدم فيها كل الأساليب حتي تصل إلي حالة إجهاض كامل لكل ظاهرة تتعارض مع فكر الدولة ومؤسساتها..
وإذا كانت الدولة قد لجأت إلي أسلوب الاحتواء مع القضاة فقد اتبعت أسلوبا أكثر ردعا مع المهندسين حينما فرضت الحراسة علي نقابتهم أكثر من عشر سنوات.. وفرضت قدرا من الوصاية علي الأطباء والمحامين..
علي جانب آخر من الصورة فإن ما حدث في مظاهرات مصانع المحلة احتاج إلي معالجة أمنية اتسمت بالشدة والصرامة ولهذا كانت الخسائر أكبر من كل ما توقعت جميع الأطراف.. وفي نفس السياق كانت مظاهرات كفر الدوار والاسكندرية بين عمال المصانع في أكثر من منطقة صناعية..
وفي نموذج آخر مختلف كانت مظاهرات الضرائب العقارية التي اعتصم العاملون فيها بمجلس الوزراء ولم يتركوا مواقعهم حتي استجابت الدولة لمطالبهم.. وفي نفس السياق كانت اضرابات الصيادلة التي أغلقت جميع الصيدليات في الدولة المصرية.. وقبل هذا انتقلت الاحتجاجات إلي أساتذة الجامعات.. وكانت لهم وقفات صارخة أمام الدولة وفي آخر الصورة جاءت اعتصامات ومظاهرات الإعلاميين والصحفيين وأصحاب الرأي ولاشك أن هذه تمثل نقلة نوعية مختلفة تماما في ردود الأفعال في الشارع المصري..
ورغم الاختلاف الشديد في دوافع هذه التظاهرات والاحتجاجات بين مظاهرات يقودها فكر ورأي ومظاهرات أخري دفاعـا عن مصالح فإن التنوع الشديد كان أهم سمات هذه الظواهر.. ما بين القضاة والاعلاميين وأساتذة الجامعات والصحفيين سواء حركتهم أفكار أم دفعتهم مصالح, فإن المظاهرات في المحلة وكفر الدوار وكفر الشيخ كانت تعبيرا عن ظروف اقتصادية قبل أن تكون تعبيرا عن رأي أو قضية.. ولكن الجديد في الأمر الآن أن المصالح اختلطت بالأفكار ودفعت بنوعيات جديدة إلي الساحة.. لقد خرج الإعلاميون والصحفيون يطالبون بحقوق مالية واقتصادية وهم أصحاب الفكر والمواقف وهذا يضع أمامنا مجموعة مؤشرات ينبغي أن نتوقف عندها:
* مهما ارتفع المستوي الفكري والثقافي فلن يكون حائلا دون أن يطالب الإنسان بحقه في حياة كريمة وأن يبحث عن حقه وسط غابة من الكيانات الهولامية من المنتفعين والمصالح التي لا حدود لها.. إن الصحفيين أصحاب الفكر والمواقف هم في النهاية بشر لهم مطالبهم الحياتية المشروعة ولديهم أبناء ومدارس وجامعات وكذلك الإعلاميون وأساتذة الجامعات والأطباء والصيادلة والمحامون رغم أنهم أصحاب رسالة فإن هذا لا يتعارض مع ظروف حياتهم التي تتطلب شيئـا من العدالة.. وهنا يمكن أن نقول إن غياب العدالة وتكافؤ الفرص يمكن أن يحمل الإنسان قهرا من خنادق الفكر والدور والرسالة إلي خندق عام يضم الملايين غيره من المهمشين والباحثين عن فرصة دفاعـا عن حقهم في الحياة.. وهذا يعني أننا وصلنا إلي نقطة خطيرة, حيث تحول الفكر إلي وسيلة لإنقاذ الذات من الفقر والحاجة.. وحين نصل إلي هذه المناطق تغيب سماحة الفكر وتطفو علي السطح ضرورات الحاجة..
* إن ما حدث الآن يمثل ردود فعل واضحة وصريحة.. نحن أمام أخطاء في تحمل المسئولية ترتبت عليها مواقف رفض واستنكار, وهذا يعني أن المسئولية تقع في هذه الحالة علي قرارات خاطئة وليست ردود أفعال غير محسوبة.. وإذا كان من الضروري تحديد المسئوليات فإن السبب يسبق النتيجة.. وعلي هذا الأساس فإن قرارا خاطئا لمسئول كبير يمكن أن تترتب عليه نتائج تتجاوز كل الحسابات.. ما حدث من ردود أفعال من موظفي الضرائب العقارية.. والصيادلة.. والإعلاميين.. والصحفيين وعمال المحلة كان نتيجة قرارات خاطئة.. وهنا ينبغي أن تدرس القرارات بصورة أعمق من حيث الآثار قبل أن يجد المسئول نفسه مطالبا بإلغائها أمام ضغوط كان في غني عنها.. إن دراسة القرار قبل صدوره أفضل كثيرا من التراجع فيه.. لأن خسائر التراجع أكبر كثيرا من صورة مسئول مقصر في أداء مسئولياته لأنها تتعلق بهيبة الدولة..
* بجانب القرارات الخاطئة وما يترتب عليها من ردود أفعال تأخذ شكل الاحتجاجات أو المظاهرات فإن تجاهل القانون من جهة السلطة خطيئة لا يمكن ابدا التساهل معها.. إن الدول هي صاحبة القوانين وهي التي تصدرها وتشرعها حماية للمجتمع وحين تشرع الدولة قانونـا ولا تحترمه أمام مواطنيها فهي ترتكب أكثر من خطأ.. إنها تطالب المواطن بالالتزام بالقوانين وهي أول من يخرج عليها.. وهي تطالب المواطن بأن يؤدي واجباته تجاهها وهي أول من يضرب عرض الحائط بهذه الواجبات.. وفي ظل عدم احترام القانون يحصل الإنسان علي حقه بيده.. وهنا تكون الكارثة..
أن الكثير من حالات الانفلات التي نراها في الشارع المصري كانت نتيجة طبيعية لغياب القانون لأن الدولة لا تعمل بهذه القوانين وتطالب الناس بالعمل بها وهي معادلة مستحيلة, هناك أحكام أصدرها القضاء بإختلاف درجاته ترتب حقوقـا لآلاف المواطنين ورفضت أجهزة الدولة تنفيذها ابتداء بالإفراج عن المساجين وانتهاء بتعويضات للمظلومين وإلغاء انتخابات دوائر كثيرة في مجلس الشعب..
* في ظل عدم تكافؤ الفرص والعدالة في توزيع الأدوار وفي ظل امتهان القدرات وإهدار قيمة التميز تختل موازين الأشياء كل الأشياء.. يتسلل البعض ويقتنص شيئـا ليس من حقه.. ويوضع الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب.. وتفتح الأبواب للمنافقين والدجالين وكذابي الزفه.. ويغلق كل مسئول أبوابه فلا يسمع صراخ الضحايا حوله.. وتصاب الكراسي بأمراض التصلب في الشرايين ويلتحم المسئول مع كرسيه فلا تعرف أحدهما من الآخر.. وهنا يصبح الصراخ ضرورة.. ويصبح الاستنكار حلا.. ويصبح الصخب وسيلة وحيدة للرفض والاعتراض..
* في ظل مجتمع يتحدث كثيرا عن الإصلاح ولا يفعل شيئـا من أجل ذلك تفقد الشعارات تأثيرها وتتكشف الحقائق.. حين يتحدث البعض عن الإصلاح السياسي ولا يتجاوز ذلك صرخة في صحيفة أو عنوانـا علي الشاشات.. وحين يتحدث البعض عن الإصلاح الاقتصادي بينما نسب الفقر ترتفع كل يوم.. وحين يقال للناس إن الرخاء قادم وينتظرون شيئـا لا يجيء.. وحين تغيب العدالة في توزيع خيرات الوطن ولا يكون من حق البعض إلا الانتظار بينما قلة قليلة تنعم وحدها بخيرات هذا الوطن دون وجه حق.. وحين يكتشف الإنسان أن عمره تسرب من بين يديه أمام وعود كاذبة.. وأماني خائبة.. أمام هذا كله يتسلل الإحباط إلي عقل الإنسان وفكره ولا يملك شيئـا غير أن يصرخ.. وليت القضية تتوقف عند حدود الصراخ..
ما يحدث في الشارع المصري الآن يمثل ظواهر جديدة نخطيء إذا تصورنا أنها من قاموس الحريات.. أو من شعارات الرفض.. أو من ضرورات السياسة إن ما نراه الآن صرخة احتجاج عنيفة ضد مجتمع فشل في توفير الاحتياجات الضرورية لمواطنيه في العمل والسكن والمرض والتعليم وأبسط متطلبات والحياة..
ما يحدث في مصر الآن من مظاهرات واحتجاجات وصخب مجنون محصلة طبيعية في دولة تصدر القوانين ولا تنفذها.. وتطلق شعارات العدالة ولا تلتزم بها وتتحدث كثيرا عن الإصلاح بكل جوانبه وهي لا تفعل شيئـا.. حين تحترم الدولة قوانينها ستجد الشعب كله جندا لها.. وحين يستعيد المجتمع مقوماته في الأخلاق والسلوك والقيم وتحقيق أبسط قواعد العدالة سوف تعود مصر كما كانت بسماحة شعبها.. وأمان مواطنيها.. وقدرتها دائما علي تجاوز المحن والأزمات.. وعلينا أن نسأل أنفسنا قبل فوات الأوان: ماذا بعد التظاهر والصراخ في الشارع المصري.
.. ويبقي الشعر
ماذا يتبقي من قلبي
لو وزع يوما.. في جسدين
ماذا يتبقي من وجه
ينشطـر أمامي.. في وجهين
نتوحد شوقـا في قلـب
يشطـرنا البعد.. إلي قـلـبين
نتجمع زمنـا في حلم..
والدهر يصر علـي حـلمين
نتلاقـي كالصبح ضياء
يشطـرنا اللـيل إلي نصفـين
كل الأشياء تفرقـنـا في زمن الخوف
نهرب أحيانـا في دمنا
نهرب في حزن يهزمنـا
مازلت أقول
إن الأشجار.. وإن ذبلت
في زمن الخوف
سيعود ربيع يوقظـها بين الأطلال
إن الأنهار وإن جبنـت في زمن الزيف
سيجـيء زمان يحييها رغم الأغلال
مازلت أقول
لو ماتت كل الأشياء
سيجيء زمان يشعرنا.. أنـا أحياء
'من قصيدة سيجيء زمان الأحياء سنة1986'