شيء من الحكمة

هوامش حرة

شيء من الحكمة

يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـدة



يبدو أن حكومتنا الرشيدة قد تأخرت كثيرا في الإحساس بالأزمة الحقيقية التي يعيشها عمال مصر ولهذا تركت كل شيء دون بحث أو دراسة ثم تجاهلت الأسباب ولم تحاول في أي فترة من الفترات أن تضع يدها علي الالام الدامية لهذه الفئة من المواطنين‏..‏ لقد تصورت الحكومة أن مصر ليست أكثر من مجموعة أفراد تجمعهم دهاليز السلطة أو أروقة الحزب الوطني أو منتديات القاهرة ولياليها وأن هذه المجموعة من المستفيدين سواء في السلطة أو في مجلسي الشعب والشوري أو في مؤسسات الدولة أوبلاط صاحبة الجلالة‏..‏ هم وحدهم حراس مصر وفرسانها‏..‏



وكانت المظاهرات التي تخرج أحيانا في قلب القاهرة ديكورا جميلا لحركات سياسية لا أثر لها ولا خوف منها‏.‏ أنهم مجموعة من الأشخاص الذين يحاولون التعبير عن وجهات نظرهم في قضايا الرأي والحرية والحوار‏..‏ وهي قضايا تراجعت أهميتها بدرجة كبيرة أمام طوائف أخري من الشعب تبحث عن رغيف الخبز ودواء لمريض وعمل لأبناء أدمنوا الحياة في الشوارع‏.‏



لقد نسيت الحكومة أن هناك ملايين من البشر يعملون في المصانع ويموتون تحت الأنقاض ويحترقون بلهيب النيران‏..‏ ويصرخون من الغلاء والأسعار والحياة الصعبة المستحيلة‏..‏ كانت القاهرة تتصور أنها الكنانة وأن مجموعة المستفدين بكل شيء فيها هم الحصن الحصين أمنا واستقرارا واستسلاما وصمتا‏..‏ في هذا الجو القاهري المرمري المهرجاني الحزبي الصاخب تمت أشياء كثيرة ابتداء ببيع الأصول في نطاق برنامج الخصخصة بما في ذلك العمال وانتهاء بصفقات الأراضي وتوزيع الثروات وتمويل الحزب الوطني‏..‏



وكان من السهل جدا في ظل هذا المناخ القاهري أن تختفي أشياء وتظهر أشياء وتباع أشياء وتشتري أشياء‏..‏ كان من السهل أن يصرخ قضاة مصر عاما كاملا دون أن يسمعهم أحد‏..‏ وكان من السهل أن ترفض الدولة بحكم قضائي قيام‏12‏ حزبا مرة واحدة‏..‏ وكان من السهل أن يتم زواج سري باطل بين السلطة ورأس المال وان تظهر قضايا فساد في الحكومة ومجلسي الشعب والشوري وبقية المؤسسات في الدولة ولا يردعها أحد‏..‏ ولم يكن غريبا أن يموت‏1400‏ شخص في العبارة‏98‏ وأن تظهر كارثة الدم في سراديب مجلس الشعب ووزارة الصحة‏..‏ وأن تباع مشروعات الخصخصة دون أن يعلن عنها أو يراجعها أحد وأن ترتفع أسعار كل شيء إلا الإنسان المصري‏..‏ وأن ترفض الحكومة شراء القطن من الفلاحين الذين رفضوا تأييد الحزب الوطني في الانتخابات هناك عشرات القضايا والأزمات التي وضعتها الحكومة في ثلاجه الإهمال والسلبية دون أن تواجه منها أزمة واحدة بحسم وردع وقناعة‏..‏



وكان من نتيجة ذلك كله أن غابت الأحزاب كل الأحزاب عن الساحة واكتفت بمنشورات صحفية ولقاءات عابره وتصفيات هنا أو هناك‏..‏ نسيت الحكومة وطبقة المستفدين أن في مصر مجتمعا أخر يعاني ظروفا صعبة‏..‏



ولهذا لم يكن غريبا أن تشهد مصانع المحلة الكبري منذ أسابيع اضرابا كبيرا شارك فيه ألاف العمال ولم تدرك الحكومة الرسالة‏..‏ والمحلة الكبري لمن‏-‏ لا يعرف‏-‏ تاريخ عزيز في هذا البلد فهي واحده من قلاع الصناعة التي نقلت الريف المصري في يوم من الأيام إلي مستوي حضاري متطور دون أن يفقد تواصله وجذوره‏..‏ كان الفلاح المصري ينتج الذهب الأبيض لكي ينتقل في نفس اللحظة إلي عمال ومصانع الغزل والنسيج بالمحلة ليأخذ طريقه أثوابا من كل لون إلي أسواق مصر والأسواق الخارجية‏..‏



كانت سمعة النسيج والغزل المصري في أسواق أوربا تضارع أرقي المنسوجات العالمية جودة وتميزا‏..‏ وانتقلت تجربة المحلة الكبري إلي مناطق أخري شبيهة سارت علي نفس التركيبة ما بين الريف والحضر وما بين الصناعة والزراعة‏..‏ حدث هذا في مصانع شبين الكوم‏..‏ ثم كفر الدوار‏..‏ وكانت التجربة واحدة في كل هذه المناطق‏..‏ والغريب أن الدولة كانت في يوم من الأيام تحقق دخلا كبيرا من هذه المصانع وكان هناك نوع من التكامل بين الإنتاج والتصنيع والتصدير‏..‏ ولكن لأسباب كثيرة توقفت التجربة ولم تكمل مسيرتها‏..‏



لا أحد ينكر أن الصناعة في العالم تقدمت وأن أساليب الإنتاج تطورت وأننا وقفنا جامدون أمام هذا كله ولكن الغريب أن تبقي هذه المصانع بلا دعم أو تطوير أو محاولات إنقاذ أكثر من عشرين عاما‏..‏



والآن جاءت الدولة بعد خراب مالطة تبيعها بأرخص الأسعار‏..‏ ووجد العمال أنفسهم أمام حاضر ينكرهم ومستقبل لا مكان لهم فيه وماضي لا يذكر لهم شيئا‏..‏ أن الأساليب التي اتبعتها الحكومة في إنهاء خدمة العمال في المصانع والمشروعات التي تم بيعها كانت درسا قاسيا للجميع‏..‏ كانت التعويضات هزيلة وكان طابور البطالة في كل بيت يجمع الأبناء ثم يضم في النهاية كبير الأسرة‏..‏ وكانت تصفية المشروعات وبيعها أرضا للبناء سابقة خطيرة في تاريخ الخصخصة‏..‏ ولهذا ارتفعت أصوات العمال في المحلة الكبري‏..‏ ثم كفر الدوار‏..‏ ثم شبين الكوم والمنصورة‏..‏ وكان الجميع يتساءلون‏..‏ وماذا بعد‏..‏ وما هو مصيرنا بعد تسليم هذه المشروعات‏..‏



أن الخلاف بين الحكومة وعمال شبين الكوم علي سبيل المثال أن الحكومة تهرول لتسليم المصانع للمشتري الهندي بينما يطالب العمال بتسوية مستحقاتهم قبل التسليم وفي تقديري أن العمال علي حق وعلي الحكومة أن تضمن حقوق أبنائها قبل أن تخضع لمطالب المستثمر الهندي‏..‏ وهذه بديهيات كان ينبغي تداركها‏..‏ أن هذه المصانع ليست ملكا للحكومة ولكنها حق للشعب وهذه الكتائب البشرية من العمال الذين قدموا عمرهم بكل السخاء لابد وأن تتوفر لها الحماية وهذه مسئولية الحكومة‏..‏ ولكن ماذا تفعل مع أشخاص يهرولون في البيع ويسرعون في التسليم ولا يريدون حماية أصحاب الحقوق‏..‏



أن أخطر ما في موقف العمال في المصانع الآن أنهم يختلفون تماما عن مواكب الرفض والغضب في القاهرة أو مواكب التأييد في مجلس الشعب‏..‏ هناك فرق كبير بين أصحاب الندوات والشعارات والصفقات وبيانات الشجب والتأييد وبين مواطنين يريدون رغيف خبز نظيف ودواء غير مغشوش وكيس دم لم يلوثه زواج باطل مشبوه‏..‏ أن قضية عمال مصر تحتاج لمسئولين يدركون طبيعة حياة هؤلاء المواطنين والظروف الصعبة التي يعانون منها‏..‏



ولم يكن غريبا أن يؤكد الرئيس مبارك في اجتماعه الأخير مع الحكومة علي مراعاة معايير الشفافية الكاملة في برنامج الخصخصة وأن احتكار القطاع الخاص لا ينبغي أن يحل محل احتكار الدولة وأن يكون هناك صمام أمان لحماية المواطنين‏..‏



ليس المهم الآن كما يتصور جهابذة الخصخصة أن نبيع المشروعات ونقبض ثمنها دون أن ننظر إلي تفاعلات خطيرة لا يعرف أحد مداها ولن تجدي معها حلول أمنية أو قمعية كما تتصور جماعة المستفدين‏..‏



أنا لا أتصور أن يغيب عمال مصر تماما عن فكر الحكومة وهي تبيع مصانعهم ومصادر أرزاقهم وإذا كانت تريد تسليم مصنع لمستثمر هندي فيجب أن توفق أوضاع العمال المصريين وتلبي كل مطالبهم فلا أحد يعرف ماذا سيفعل صاحب المصنع الجديد بأرضه وعماله وسكانه وكل شيء فيه‏..‏



لقد بدأ برنامج الخصخصة يدخل في مناطق صعبة وشائكة للغاية تتعلق بأمن واستقرار مصر وتمس قطاعا عريضا من أبنائها وهم عمالها وهم ثروة صنعتها مصر علي عينها في يوم من الأيام وللأسف الشديد أنهم يجدون الآن من يساومهم علي أعمارهم وتاريخهم ومستقبلهم الغامض الكئيب لأن الخصخصة بلا إنتاج أو عماله أو مشروعات جديدة وهم كاذب وسراب خادع ومن الخطأ أن نسدد بها ديونا أو نقيم بها مهرجانات أو تسقط منا في بلاعة الإنفاق الحكومي‏..‏



ما يحدث في المحلة الكبري وكفر الدوار وشبين الكوم تجربة صعبة تحتاج إلي قدر كبير من الصبر‏..‏ والإنسانية والحكمة‏..‏ وينبغي أن نفرق بين برنامج للخصخصة يسعي للبناء وآخر قد يهدم كل شيء ولا أدري أين دور الأجهزة الشعبية والمحلية والحزبية والنقابات في كل هذه القضايا الشائكة‏..‏ أن أمن واستقرار مصر أهم كثيرا من ملايين تاجر هندي يبحث عن صفقة في أرض الكنانة‏..‏ وإذا كان البعض يفكر بلغة المال‏..‏ فينبغي أن يفكر البعض الآخر بقدر من الحكمة حتي لا يفلت الزمام‏..‏



‏..‏ ويبقي الشعر

كـانـت لـنـا يوما‏..‏ هنـا أوطان

وطن بلون الصبح كـان‏..‏

وطن بلون الفرح

حين يجيء منتصرا علـي الأحزان

وطن أضاء الكون عمرا

بالسماحة‏..‏ والهداية‏..‏ والأمان



وطن علـي أرجائه الخضراء هل الوحي

في التوراة‏..‏ والإنجيل‏..‏ والقرآن

في كل شبر من ثراه

تـمهل التاريـخ‏..‏ وانتفض الزمان

وطن بلـون الصبح كان

يمتد من صوت المؤذن

من ربوع الشام‏..‏ للسودان



ينساب فوق ضفـاف دجلة ينتـشي فيها

ويرقص في ربا لبنان

ويطل فوق خمائل الزيتون

في بغـداد‏..‏ في حلب‏..‏ وفي عمان

عيناه دجـلة والفرات



جناحه يمتد في اليمن السعيد

إلي ضفاف المغرب العربي

من أقصي الخليج‏..‏ إلي ذرا أسوان

في مصر تاج العرش بين ربوعها

ولد الزمان‏..‏ وكبـر الهرمان



القلـب في سيناء ينبض

يحمل النيل المتوج بالجلال فستجد الشطآن

وطن تـطوف عليه مكة كعبة الدنيا

وبيت الحق‏..‏ والإيمان

وطن عنيد أيقظ الدنيا

وعلـمها طريق المجد

علمها فـنون الحرب علمها البيان‏...‏




Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads