هوامش حرة
أقدام.. وأجسام.. وأقلام
يكتبها: فاروق جـــويـدة
كان من الممكن أن يموت د.عبد الوهاب المسيري في صحراء مدينة نصر عندما القوة في غياهب الجب ووجد نفسه وقد حاصرته الرمال الصفراء في ليلة حزينة موحشة.. ولكن القدر أجل رحيله أياما حتي لا يبقي في ضمير المصريين ذنبا لا ينسي وخطيئة لا تـغتفر..
مات الدكتور عبد الوهاب المسيري وهو لا يجد ثمن العلاج من مرض السرطان اللعين.. رغم كل ما قدم من إنجازات فكرية وأدبية في مشوار غاية في التفرد ولكن ذلك لم يشفع له..
في نفس اليوم الذي رحل فيه المسيري كان الأهلي والزمالك يتصارعان علي شراء لاعب كرة ووصلت المضاربات بينهما إلي أكثر من8 ملايين جنيه.. وعلي جبهة أخري كانت تدور مفاوضات بين أحد كبار رجال الأعمال المصريين ومطربة استعراضية لبنانية تغني بجسدها لإنتاج فيلم تقاضت فيه المطربة مليون دولار, علي جانب ثالث أو رابع أو عاشر تحاصرنا كل يوم إعلانات القصور والفيلات التي تنتشر في كل ربوع المحروسة وأصبح رقم المليون جنيه لا يشتري شيئـا وصارت أرقام الخمسة وعشرة ملايين جنيه تمثل رقما عاديا لشراء فيلا في القطامية أو التجمع الخامس أو الرحاب.. في آخر الصورة شاب مصري هرب مهاجرا إلي إيطاليا وعندما أعادته السلطات الإيطالية إلي مصر دخل دورة المياه وقطع شريانه منتحرا لأنه عاد إلي صدر الوطن الذي أنكر نسبه..
وبعد ذلك كله تتحدث الحكومة عن سبعين جنيها ضريبة عقارية علي شقة لا يملك الإنسان شيئـا غيرها وكان حظه التعيس أنه اشتراها منذ سنوات بمائه ألف جنيه جمعها من غربته الطويلة في دول الخليج ومع مضاربات أسعار الأراضي وارتفاع أسعار الحديد والاسمنت أصبح سعرها500 ألف جنيه لتقرر الحكومة فرض ضريبة عليها..
في تقديري أن هناك خللا ما في إدارة شئون مصر وهذا الخلل لا يقتصر علي وزارة بعينها ولا يتحمله مسئول واحد ولكنها' لخبطة' أصابت أحوال البلد كلها ابتداء بالمرور وانتهاء بالعشوائيات في كل شيء..
إن الإعلانات في الصحف لمن يقرأها ويتابعها تعكس حالة ثراء فاحش في تجارة العقارات.. ان آلاف الماكيتات التي تنشرها الصحف للقصور والفيلات تقول أننا نعيش في مجتمع تجاوز الرخاء فيه حدود السفه.. مئات الآلاف من الفيلات التي تتناثر علي أرجاء مصر المحروسة.. والمؤكد أن هناك عمليات شراء وهناك أموال تتدفق وتحاول أن تبحث عن مصادر هذه الأموال وتتعجب من عشرات الالاف الذين اشتروا هذه الفيلات أو قاموا بحجزها..
ومع مضاربات الاراضي والعقارات تبدو مضاربات كرة القدم بين النوادي حتي وصلت إلي أرقام خيالية.. وفي جانب أخر تشاهد مضاربات الفضائيات وتتعجب بين فضائيات عارية في الفكر والفن والسلوك وبين فضائيات محجبة ومتزمتة وما بينهما ملايين من الجنيهات وملايين من البشر تروح وتجيء..
ان هذه المضاربات في العقارات والرياضة والفضائيات الدينية والدنيوية تؤكد أن المال أصبح سلطانـا علي الجميع وأن مجموعة القيم التي سادت زمانـا طويلا في السلوك والأخلاق والمعاملات قد انتهي زمانها.. وأننا باسم المال نفعل الآن كل شيء.. وأن من ملك المال أصبح مالكـا للعالم كله.. الأرض.. والفكر والدين.. والفن والسلوك..
لقد اختلت تماما ثلاث منظومات رئيسية في حياتنا.. الأولي هي منظومة العمل كانت هذه المنظومة تقوم علي أساس ان الجهد هو طريقنا للنجاح وأن التميز طريقنا للنبوغ وأن الكفاءة هي مقياس كل شيء.. ولكننا الآن لا نجد أبوابا مفتوحة أمام ذلك كله فما أكثر المجتهدين الذين لم يجدوا الفرصة وما أكثر الأكفاء الذين خاصمتهم أبواب النجاح.. ان منظومة العمل الآن هي البحث عن فرصة أو واسطة أو وسيلة سريعة للثراء.. أما الفرصة فهي في يد مسئول أو صاحب قرار وأما الواسطة فما أكثر الوسائل إليها أما الوسيلة السريعة للثراء فهي تبدأ بعشرات الوسائل غير المشروعة.. وفي ظل اختلال منظومة العمل بكل قيمها ظهرت أساليب أخري للوصول والتفوق وتحقيق الأحلام..
كان من نتائج ذلك اختلال منظومة القيم التي تستند إليها حياة المجتمع فلم يعد الحديث عن الشرف يغري أحدا ولم تعد موازين العدل والعدالة كما كانت.. وأصبح الأعلي صوتـا هو صاحب الحق.. ولم تعد هناك قواعد تحكم تصرفات الناس أمام انتهاك القوانين وغياب أبسط حقوق المواطنة..
وأمام اختلال منظومة العمل ومنظومة القيم تراجعت قيمة الأشياء والبشر.. في زمان مضي كانت قيمة الأشياء تحكمها مجموعة من الضوابط والتقديرات السليمة.. ابتداء بالمبني التاريخي الذي نحافظ عليه تراثـا وانتهاء بالأشجار التي لا يمكن أن تمتد إليها يد الدمار.. وكانت قيمة البشر يحددها مستوي الفكر والثقافة والقدرة علي التعامل مع ظروف الحياة ودرجة الرقي والتذوق والإحساس بالجمال.. وكنا ندرك أقدار الناس وما قدموه.. ولكننا نعيش الآن في عصر اختلطت فيه الأشياء ولم نعد نفرق بين عالم كبير ودجال صغير أو بين عقل أنار الدنيا وعقل آخر أفسد أجيالا بالدجل والشعوذة باسم الدين أوالسياسة..
أن اختلال منظومة العمل والقيم والقيمة هو أخطر الظواهر السلبية التي تسربت إلي حياتنا وأفسدت أشياء كثيرة.. اننا لا ننكر أهمية المال ودوره في حياة المجتمعات ولكن من الخطأ أن نتصور أنه قادر علي أن يصل بنا إلي كل شيء.. أن الرياضة قيمة عظيمة في حياة الأفراد ولكن من الخطأ الشديد أن نكرم الأقدام ونهين الأقلام أو نرفع لاعبا علي الرؤوس ونلقي عالما ومفكرا مثل المسيري في صحراء مدينة نصر.. قد تتسرب إلي حياتنا قيم جديدة تفرضها ظروف العصر وحساباته ولكن لا ينبغي أن نفرط في قيم شاركت في بناء هذا الوطن زمنـا طويلا.. حين يصبح المال صاحب القرار والسلطان ويختفي العدل ونعطي القانون اجازة.. هنا لابد أن نتنبه إلي خطورة ما نحن فيه..
وحين تصبح الفرصة بديلا للكفاءة ومقياسا للتميز.. لابد أن نراجع أنفسنا.. وحين يفقد المجتمع يوما بعد يوم مجموعة القيم التي تحكم سلوكيات الناس وتحد من مطامعهم وشطط أحلامهم ونوازعهم يجب أن نضيء الضوء الأحمر.. كان الصخب طوال الأسابيع الماضية حول انتقال لاعبي كرة القدم والصراع الدائر حولهم والملايين التي تتساقط تحت أقدامهم مؤشرا خطيرا عن مجتمع أصبح عاجزا عن تحقيق قدر من التوازن في أقدار وأدوار أبنائه..
وكان رحيل المسيري بلا صخب بكائية حزينة في أرجاء المحروسة بينما كانت ملايين كرة القدم تتناثر علي أقدام اللاعبين..
وبين مجتمع لم يعد يميز بين عقله وأقدامه تبقي معادلة صعبة كيف نعيد العقل إلي مكانه ومكانته بعد أن أصبحت الأقدام فوق رؤوس الجميع..
ويبقي الشعر
قـولـوا لهم
إن الحجارة أعلنـت عصيانـها
والصامت المهموم
في القيد الثـقيل تمردا
سأعود فوق مياه هذا النـهر طيرا منشدا
سأعود يوما حين يغـتـسل الصباح
البكر في عين النـدي..
قـولوا لـهم
بين الحجارة عاشق
عرف اليقين علي ضفـاف النـيل
يوما فاهتـدي..
وأحبه حتـي تلاشي فيـه
لم يعرف لهذا الحب عمرا أو مدي
فأحبه في كـل شيء
في ليالي الفـرح في طـعم الردي..
من كان مثلي لا يموت وإن تغير حاله..
وبدا عليه.. ما بدا
بعض الحجارة كالشموس
يغيب حينـا ضوؤها
حتـي إذا سقطت قلاع اللـيل
وانكـسر الدجي
جاء الضياء مغردا
سيظل شيء في ضميـر الكـون يشعرني
بأن الصبح آت إن موعده غدا
ليعود فجر النـيـل من حيث ابتدا..