الجرائم لا تموت

هوامش حرة

الجرائم لا تموت

يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـدة



اتصل بي الدكتور فاروق العقدة محافظ البنك المركزي معاتبـا علي ما كتبت في الأسبوع الماضي في قضية المتعثرين من رجال الأعمال ثم دعاني إلي فنجان من القهوة في مكتبه في المبني العريق بشارع قصر النيل وعلي امتداد أكثر من ساعتين وضع الرجل أمامي الحقائق كاملة‏..‏ كيف بدأت أزمة البنوك وكيف تطورت وما وصلت إليه الأحوال الآن‏..‏ كنت أعرف الكثير من تفاصيل الكارثة‏..‏ وكنت أري أنه من الخطأ أن نضع جميع الأطراف في سلة واحدة فلا ينبغي أن تكون الإدانة للجميع لأن هناك من رجال الأعمال من عمل بصدق وأمانه وأقام مشروعات وفتح بيوتـا‏..‏ وهناك من المسئولين في البنوك من أخطأ بدون قصد‏..‏ ولكن كانت هناك أيضا تجاوزات تصل إلي حد الجرائم في تعليمات شفوية ومكتوبة لصرف مئات الملايين من أموال البنوك في صفقات مشبوهة وزواج باطل بين السلطة ورأس المال‏..‏



كنت أعرف الكثير عن مأساة القروض التي أوشكت أن تنتهي بكارثة وإن حاولت الدولة أن تعالج الأمور بقدر من السرية حتي لا تتكشف كل جوانب الجريمة‏..‏ كل ما كنت أسعي إليه أن أعرف الحقيقة وما وصلت إليه الأحوال الآن ولم يحاول فاروق العقدة إخفاء شيء‏,‏ فقد تحدث بصدق وصراحة حول هذه القضية وترك لي مسئولية ما ينشر وما لا ينشر‏..‏ وإن بقيت قضية البنوك واحدة من أخطر ظواهر الاعتداء علي المال العام‏..‏ كان انطباعي الأول عن شخصية الرجل بعد حديث طويل أنه يدرك بعمق أصول العمل البنكي الحديث واستطاع بالفعل أن يواجه الازمة وقد كان من سوء حظه أن يعود إلي مصر في فترة غاية في القسوة أمام عاصفة عنيفة أوشكت أن تقتلع جذور هذا الجهاز المصري العريق‏..‏ كانت الدولة قد فتحت كل خزائن البنوك لمجموعة قليلة جدا من رجال الأعمال لا يتجاوز عددهم مائتي شخص وربما أقل حصلوا علي قروض لا يمكن تخيلها ومبالغ مخيفة لا يمكن تصديقها‏..‏ ولكنها حدثت‏..‏



كان من السهل أن يدخل أي واحد من هؤلاء إلي رئيس البنك ومعه تأشيرة أو يسبقه تليفون أو يبرم صفقة ويحصل علي ما يريد دون أن يقدم ضمانات عينية أو إقرارات أو أصول لما يملك‏..‏ كانت سياسة السداح مداح قد فتحت كل الأبواب أمام هذه الطبقة الجديدة في صفقة زواج باطل بين المال والسلطة‏..‏ قال لي فاروق العقدة‏:‏ كان أمامي طريقان لابد أن أسلك أحدهما‏..‏ أما أن أقدم هؤلاء الناس للمحاكمة ويدخلون السجون وتضيع أموال الشعب وودائع المواطنين‏..‏ أو أحاول تسوية هذه القروض‏..‏ ورأيت أن المحاكم والسجون لن تحل الأزمة لأن ذلك يعني ضياع هذه الأموال علي البنوك ولهذا سلكت الطريق الثاني وأنا أعلم أنه الطريق الصعب‏,‏ خاصة أن معظم هؤلاء كانت لهم حسابات ومصالح ونفوذ‏..‏ وبدأنا في عمليات التسوية والجدولة وإنقاذ المتعثرين الجادين‏..‏ كان جحم المديونيات مخيفـا للغاية وفي يد مجموعة قليلة جدا من الأشخاص وقد أنقسم هؤلاء إلي ثلاث فئات‏:‏


*‏ الفئة الأولي‏:‏ وهم مجموعة من كبار رجال الأعمال من أصحاب الأسماء الرنانة دخلت في تسويات جادة مع البنوك ووضعنا لهم شروطـا واضحة والتزامات مالية قاطعة لا مجال فيها للمساومة بجانب إشراف كامل من البنوك علي الإدارة ابتداء بالبيع والتحصيل وانتهاء بصرف الرواتب للعاملين وقد نجحت هذه الخطة واستطعنا بالفعل حل مشكلات‏65%‏ من حالات التعثر الكبري وعاد هؤلاء خلال سنوات قليلة إلي نشاطهم الاقتصادي وتجاوزوا الأزمة‏..‏ واستعادت البنوك المصرية جزء كبيرا من أموالها‏:‏


*‏ أما الفئة الثانية‏:‏ فهم مجموعة الاشخاص الذين هربوا للخارج وعليهم مبالغ كبيرة وهؤلاء مازال يجري التفاوض معهم حتي الآن لتسوية القروض والوصول إلي حل ولن نتنازل عن حقوق البنوك مهما تكن الظروف لأنها أموال الشعب‏..‏


*‏ بقيت بعد ذلك أمامنا الفئة الثالثة‏:‏ وهم أصحاب القروض التي لا تزيد علي مليون جنيه وعددهم‏13‏ ألف مقترض من بينهم عشرة آلاف أمام المحاكم وهناك عدد كبير منهم صدرت عليهم أحكام بالسجن‏..‏ وهذه الفئة الأخيرة هي التي حاولنا في الأسابيع الأخيرة مواجهة مشكلاتها بوضع برنامج للسداد الفوري بنسب تراوحت بين‏30‏ و‏25‏ و‏60%‏ من قيمة القرض‏..‏ فإذا كان الدين أقل من‏500‏ ألف جنيه أسقطنا‏70%‏ مقابل سداد‏30%‏ فورا‏..‏ وإذا كان الدين أكثر من‏500‏ ألف جنيه إلي مليون جنيه أسقطنا‏75%‏ مقابل سداد‏25%‏ وكان هناك شرط جزائي في هذا القرار ألا يتم التعامل مع البنك في ظل هذه التسوية لمدة خمس سنوات كنوع من العقاب وإذا سدد المدين‏60%‏ من حجم الدين أسقطنا عنه‏40%‏ وأعطيناه الحق في التعامل مرة أخري مع البنوك‏..‏ هذه هي الخطة التي أعلنا عنها لتسوية حالات التعثر بين صغار المتعاملين مع البنوك وهي النسبة الأكبر من حيث العدد‏..‏ ولقد رفضت تماما اقتراحا بإسقاط هذه الديون لأن ذلك يفتح أبوابا لن تغلق‏..‏ قلت لمحافظ البنك المركزي‏:‏ وما الذي يمنع أن يطالب كبار المتعثرين بالمعاملة بالمثل وقد يلجأ بعضهم للمحاكم ؟‏..‏



قال‏:‏ هذه القرارات صدرت من البنوك وليس من البنك المركزي وهي تعالج حالات خاصة ولا تسري كقرارات عامة والمعاملة بالمثل هنا أمر مستحيل‏,‏ خاصة أن إجمالي هذه الحالات يصل إلي مليار ونصف مليار جنيه تشمل‏13‏ ألف شخص‏,‏ لو أن كل صاحب مشروع منهم لديه أربعة عمال فأنا أمام أكثر من‏50‏ ألف أسرة‏..‏ ولا يعقل أن يطبق ذلك علي شخص مدين بأكثر من‏2.5‏ مليار جنيه أي أكثر من ميزانية واحد من البنوك الكبيرة إننا لو طبقنا هذا القرار علي كبار المتعثرين الهاربين أو المقيمين فهذا يعني إفلاس البنوك وهذا أمر لا أملكه أنا ولا يملكه غيري ولهذا أؤكد لك أننا لن نتنازل عن شيء من هذه القروض بكل فوائدها إن معظم رجال الأعمال حققوا أرباحا ضخمة في السنوات الأخيرة خاصة أن لدي الكثيرين منهم مساحات كبيرة من الأراضي التي ارتفعت أسعارها ويستطيعون الآن سداد ما عليهم من التزامات للبنوك‏..‏ هناك جانب آخر يتعلق بالقروض مع الحكومة كما أكد فاروق العقدة‏..‏ كانت الحكومة مدينة للبنوك بمبلغ‏26‏ مليار جنيه‏,‏ كان منها‏7‏ مليارات علي بنك الإسكندرية وقد اقتطعنا مبلغ‏9‏ مليارات من صفقة بيع البنك سدادا لجزء من هذه الديون ثم قامت الحكومة بسداد‏7‏ بلايين جنيه من عائدات برنامج الخصخصة وبقي عليها الآن‏10‏ بلايين أخري وضعنا تسوية لسدادها قبل نهاية العام المقبل‏..‏ وقال د‏.‏ العقدة‏:‏ لقد كان مشوارا طويلا أمامنا مضينا فيه علي أكثر من محور‏..‏ كيف ننقذ المؤسسات الخاصة التي تعثرت لكي تستعيد نشاطها‏..‏ ثم كيف نضع جداول لتسوية مستحقات البنوك وهي بالبلايين لدي عدد قليل من رجال الأعمال‏..‏ ثم كيف نعالج أزمات صغار المتعثرين بحيث نعيد للبنوك أموالها‏,‏ خاصة أن المتعثرين الصغار كانوا يعانون من فوائد كثيرة تجاوزت في بعض الحالات حجم الديون أمام عمليات التأخير في السداد‏..‏ وهنا أيضا كانت وقفتنا مع الحكومة لاسترداد أكثر من‏26‏ مليار جنيه كانت ديونـا علي المؤسسات الحكومية للبنوك‏..‏ وأضاف د‏.‏ العقدة‏:‏ عندما جئت إلي البنك المركزي كنت أدرك حجم المأساة وهي بكل المقاييس كانت أزمة خطيرة تهدد مستقبل الجهاز المصرفي كله وكان من الضروري أن نتعامل بقدر من الحكمة والحسم خاصة أننا نواجه أزمة لم نشارك فيها وتحملنا مسئولية حلها وكان أساس هذا الحل ألا نتنازل عن أموال البنوك لأنها ودائع الناس ولا تهاون مع مؤسسات الدولة التي اقترضت واعتادت الا تسدد ما عليها تحت شعار أننا جميعا مؤسسات في الدولة‏..‏ وأستطيع أن أؤكد لك الآن بكل الأمانة والصدق أن ملف المتعثرين والهاربين سوف يغلق تماما قبل نهاية العام القادم وسوف تستعيد البنوك كل أموالها‏,‏ خاصة أننا بالفعل قد وصلنا إلي نتائج طيبة لم نكن نتوقع الوصول إليها‏..‏ وأؤكد لك الآن أنه لا يوجد قرض في بنك من البنوك بلا ضمانات ولا توجد تسهيلات بلا رقابة‏..‏ ولا توجد أي ضغوط من أي مسئول في الدولة علي بنك من البنوك لتقديم قرض أو تأجيل سداد‏..‏ لقد كانت فترة كئيبة دفعنا ثمنها غاليا ولن نكرر أخطاءها‏..‏



قلت‏:‏ والحساب‏..‏ قال‏:‏ أنا أحاسب عن كل جنيه خرج من البنوك منذ تحملت المسئولية قبل خمس سنوات‏,‏ أما ما كان قبلي فأنا أحاول إصلاح ما فسد وسوف أنهي هذه المهمة خلال عام واحد من الآن‏,‏ أي في عام‏2008‏


*‏ كان الرجل صريحا واضحا وهو يشرح كل الملابسات التي أحاطت بهذا الزواج الباطل بين السلطة ورأس المال وكانت البنوك أكثر ضحايا هذا الزواج تضررا وقد احترمت شجاعة الرجل وهو يضع أمامي كل الحقائق ومنها الكثير الذي يستحيل نشره‏..‏ لقد أخفينا جسم الجريمة خلف قرارات وسياسات وإجراءات ومواقف ومهما تكن قدرتنا علي الإخفاء فإن شبح الجريمة سيظل يطاردنا وربما جاء وقت للحساب لأن الجرائم لا تموت‏.‏


..‏ ويبقي الشعر



ماذا تـبقـي من ضياء الصبح

في عين الوطن



والشمس تـجمع ضوءها المكسور

والصبح الطريد

رفات قديس يفتش عن كفن



النيل بين خرائب الزمن اللقيط

يسير منكسرا علـي قدمين عاجزتين

ثم يطل في سأم ويسأل عن سكن



يتسول الأحلام بين الناس

يسألهم وقد ضاقت به الأيام

من منا تغير‏..‏ ؟



وجه هذي الأرض‏..‏ أم وجه الزمن

في كل يوم يشطرون النهر

فـالعينـان هاربـتان في فزع



وأنف النيل يسـقط كالشـظايا

والفـم المسجون أطـلال

وصوت الريح يعصف بالبدن



قدمان خـائرتان‏..‏ بطـن جائع

ويد مكبـلة‏..‏ وسيف أخرس

باعوه يوما في المزاد بلا ثمن



النـيل يرفع راية العصيان

في وجه الدمامة‏..‏ والتنطـع‏..‏ والعفـن
 
 
Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads