نجيب محفوظ عصر من الإبداع

هوامش حرة

نجيب محفوظ عصر من الإبداع

يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـــدة



لم يكن رحيل كاتبنا الكبير نجيب محفوظ رحيل كاتب أو روائي عظيم ولكنه رحيل عصر كامل بكل رموزه وتاريخه وعبقريته‏..‏ لا نستطيع أبدا أن نتحدث عن نجيب محفوظ بعيدا عن سياق عصر نادر الخصوبة ظهر فيه هذا المبدع الكبير‏..‏ وكيف نتحدث عن نجيب محفوظ دون أن نطوف معه في هذه الحديقة الواسعة وهذا البستان البديع الذي جمع رموز الثقافة المصرية في عصرها الذهبي في كل شيء ابتداء بالأدب الراقي وانتهاء بالغناء الجميل مرورا علي فنون أخري واكبت هذه النهضة الفريدة في الفن التشكيلي والسينما والمسرح والعمارة‏..‏ كان نجيب محفوظ رمزا من رموز هذه الصحوة الثقافية التي بدأت مع إنشاء جامعة القاهرة في بداية القرن الماضي‏..‏ ثم كانت ثورة‏19‏ ودستور‏23‏ وظهور رموز الوطنية المصرية العريقة سعد زغلول‏..‏ ومصطفي كامل ومحمد فريد والنحاس باشا‏..‏



كان نجيب محفوظ ابن هذه المرحلة التي دفعت بمصر إلي أفاق الحرية والبناء والحضارة‏..‏ من هنا فإن خسارتنا في نجيب محفوظ تحمل أكثر من دلاله‏..‏ إنه أخر من بقي من هذا الجيل العظيم الذي صاغ بمهارة وجه مصر الثقافي والحضاري والإنساني‏..‏ أن هذا الجيل الذي تشكل مع قضايا تحرير الأرض والمجتمع‏..‏ والاقتصاد‏..‏ والإنسان والإرادة هو الجيل الذي قام عليه بناء مصر الحديثة حتي وصلت إلي قمة ازدهارها الثقافي والحضاري مع نهاية الأربعينيات‏..‏ وجاءت ثورة يوليو ومعها جيل جديد من المبدعين الذين تشكلوا في ظل هذه الصحوة‏..‏



وبعيدا عن السياق العام والمناخ الحضاري والفكري الذي أنجب عبقرية في حجم نجيب محفوظ فإن دوره كمبدع عظيم حمل وجوها كثيرة ودروسا في الحياة والإبداع تستحق ان نقف عندها دائما بكل العرفان والتقدير‏..‏



لقد بدأ نجيب محفوظ بداية تحيطها الظلال من كل جانب‏..‏ كان يكتب ولا ينشر ويقرأ ولا يظهر كثيرا في التجمعات الثقافية‏..‏ وكان بعيدا عن معارك السياسة وتياراتها‏..‏ كان محبا للوفد ومقدرا لزعيمه سعد زغلول ومن تري من أجيال مصر المتعاقبة لم يبهره سعد زغلول الدور والزعامة

والتاريخ‏..‏ وظل محفوظ وفدي الهوي حتي أخر أيامه‏..‏



وبقي نجيب محفوظ سنوات طويلة بعيدا عن الأضواء‏..‏ وكانت الساحة مليئة بعشرات الأسماء من الكتاب والمفكرين ولكن الرجل كان يعد نفسه لمشروع أكبر‏..‏ والغريب أن هذه الفترة من حياة نجيب محفوظ فيها الكثير من الغموض والظلال‏..‏ وهي فترة منتصف العشرينات من عمره وحتي بداية الأربعينات أن فيها أخطر وأهم مكونات تجربة نجيب محفوظ علي المستوي الإنساني والفكري والإبداعي وللأسف الشديد أن الرجل تحدث قليلا بل كثيرا ما هرب من الحديث عنها‏.‏



وخلال عشرين عاما ما بين الثلاثينات والخمسينيات من القرن الماضي كان نجيب محفوظ قد أعد مشروعه الذي أنطلق به بعد ذلك ليتصدر الساحة الروائية بلا منازع نصف قرن من الزمان‏.‏



من حيث الكم كان رصيد نجيب محفوظ شيئا يفوق الخيال ولعل السبب في ذلك أن الرجل عاش راهبا للكتابة يمارسها كل يوم كأنها طقوس عباده وفي الفترة الأولي من تاريخه الإبداعي أستطاع أن يشكل مكتبة روائية فريدة في نوعها وكمها وعمق إبداعاتها وتنوعها‏..‏



وبعد ذلك أنطلق نجيب محفوظ في عالم السياسة روائيا محاربا ضاريا في الدفاع عن قضايا الحرية والعدل الاجتماعي وحقوق البسطاء‏..‏ لم ينسي نجيب محفوظ يوما الأرض التي خرج منها والناس الذين عاش بينهم ولم يأخذ مكانا غير ذلك المكان الذي أحب وهو هموم المواطن المصري البسيط‏..‏ وفي معاركه السياسية كان دفاعه العظيم عن حرية الإنسان بكل أشكالها ضد قهر السلطة‏..‏ وقهر الفكر‏..‏ وقهر الفقر ثلاثة محاور كان يري فيها نجيب محفوظ أخطر أمراض المصريين‏..‏ أن يقهرك صاحب قرار‏..‏ أو تقهرك أفكار متخلفة أو تقع عبدا للحاجة ويقهرك الفقر والحرمان‏..‏



ولم يكن نجيب محفوظ من هؤلاء الكتاب الذين يمارسون السياسة بالصخب والضجيج كان قادرا علي أن يشعل النيران بمشهد في رواية أو شخصية في قصة أو حوار علي لسان أحد الأبطال‏..‏ كانت روايات محفوظ هي الساحة التي أختار أن يمارس فيها حريته بعيدا عن صخب الأحزاب و ضجيج الساسة وتجار الأحلام المزيفة‏..‏



وقليلا ما تحدث نجيب محفوظ في السياسة حديثا مباشرا أو شارك في معاركها ولكنه أشعل أخطر معاركها في رواياته الكرنك‏..‏ وثرثره علي النيل‏..‏ وميرامار ووضع كل أفكاره السياسية في شخصيات حيه ومؤثره ونابضة بكل أشكال الحياة في اللص والكلاب والثلاثية والحرافيش‏..‏



وكانت قضايا العدل الاجتماعي وحق البسطاء في حياة كريمة معركة أخري في تاريخ نجيب محفوظ الروائي‏..‏ لا توجد رواية من رواياته إلا وفيها نبض حي للشارع المصري الحقيقي متجسدا في الحارة المصرية العريقة بكل ألوان الطيف فيها‏..‏ ومع هذا كله كان نجيب محفوظ ورغم انحيازه الشديد للبسطاء من الناس يرفض كل ألوان القهر الفكري والاجتماعي‏..‏



كانت قضية الحرية أهم وأخطر جوانب الإبداع في رحلة نجيب محفوظ‏.‏



وفي أخر هذه السلسلة الذهبية العظيمة نودع كاتبنا العظيم كما ودعنا من سنوات العقاد وطه حسين والحكيم وأم كلثوم وعبد الوهاب والسنباطي وعشرات الأسماء التي شكلت وجه الثقافة المصرية والعربية في أزهي عصورها‏..‏



وكلما اشتدت علينا وحشة الأيام وصقيع لياليها وبرودة كل شيء فيها كنا نقول مازال بيننا نجيب محفوظ فنشعر بقدر من الأمن والأمان‏..‏ والآن رحل عميد الرواية العربية وشيخ الكتاب المصريين والعرب‏..‏ ورمز من رموزنا الإنسانية الرفيعة‏..‏ إنه قضاء الله الذي لاراد لقضائه‏..‏ ولكن رحيل نجيب محفوظ خسارة لا تعوض‏..‏ رحمه الله‏..



Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads