هوامش حرة
قناة السويس.. وذاكرة المصريين
يكتبها: فاروق جـــويـــدة
تذكر المصريون فجأة أن لديهم ثروة لا تقدر بثمن أسمها قناة السويس وأن هذه المنحة الإلهية التي صنعتها إرادة مصرية عظيمة تقدم لمصر مع مطلع كل صباح أكثر من60 مليون جنيه وأن هذه البقعة العزيزة من ترابنا الوطني قد شهدت صفحات مضيئة من التاريخ ابتداء بالاف الشهداء الذين ماتوا وهم يحفرون مجراها وانتهاء بالاف الشهداء الذين ماتوا وهم يدافعون عنها.. تذكرنا أخيرا قناة السويس والقرار التاريخي العظيم للزعيم الراحل جمال عبد الناصر وهو يواجه قوي الطغيان ويعيد الحق لأصحابه.. ولاشك أن تأميم القناة القرار والموقف والإنجاز صفحة مضيئة في تاريخ ثورة يوليو..
والغريب أننا قليلا ما نتذكر قناة السويس.. وقليلا ما نتحدث عنها وقد دخلت سراديب النسيان بعد تحرير سيناء وأصبح الحديث عن الاثنين القناة وسيناء حديث ذكريات وشهداء وتاريخ عبر..
لم نعد نذكر قناة السويس إلا مع نهاية كل شهر عندما نقرأ في الصحف خبرا صغيرا عن حجم إيراداتها وبعد ذلك لا حديث عنها ولا عن العاملين فيها ولا عن السفن التي عبرت ولا التوسعات التي أقيمت.. كل ما نريده من القناة هو رصيد الدولارات الذي لا نعرف أين تلقيه حكومتنا الرشيدة مع بداية كل شهر وكأنه يدخل مغارة علي بابا فلا حديث عنه في أي بند من بنود الميزانية! قلت.. قليلا ما تذكرنا القناة في السنوات الأخيرة.. فلا توجد لها صورة إلا علي أخر دقيقة زمن في إعلان نهاية الإرسال في القناة الرابعة.. ولم نجد مسئولا يتحدث عنها إلا في الأيام الأخيرة.. ولم تنشر الصحف حكايات سفنها العابرة أو توسعاتها أو إنجازاتها وما أكثرها.. لقد أصبحت بعيدة تماما عن الفكر المصري مثل أشياء كثيرة غابت ولا نجد مبررا لغيابها..
لقد كانت هناك فجوة غريبة بين قناة السويس وبين فكر قادة ثورة يوليو فقد اعتبرها البعض منهم قطعة من تاريخ أسرة محمد علي ولم يتحدث أحد عنها كإنجاز حضاري واقتصادي وإنساني عظيم..كل ما نتحدث عنه هو أعمال السخرة واحتفالات افتتاح القناة وإمبراطورة فرنسا أو جيني وإسراف الخديوي إسماعيل.. رغم أن القناة مشروعا واحتفالية وحضورا كانت من أهم الصفحات في تاريخ إسماعيل وما أكثر صفحاته المضيئة.. وفي الأفلام والمسلسلات والأغاني كانت قناة السويس هي الفلاحين الذين ماتوا في حفرها والديون التي كبلت مصر بها والإسراف الذي كان سببا في احتلال مصر.. ولم يذكر أحد علي الإطلاق موارد القناة الاقتصادية والقيمة والأهمية التي منحتها لمصر الوطن والشعب والموقع الجغرافي.. ولم يذكر أحد التوسع العمراني الذي أقيم علي شاطيء القناة والمدن الجديدة التي جمعت ملايين المصريين.. ولم يذكر أحد التوسع الحضاري والأثر الاجتماعي لألاف السفن التي عبرت القناة وكيف نقلت لمصر الوجه الحضاري للعالم حولنا. كل ما تذكرناه في قناة السويس هو أعمال السخرة.. أما مواردها التي تقدمها لمصر حتي الآن فلا يذكرها أحد.. وعندما تم تأميم القناة تحولت إلي ملحمة من ملاحم تاريخنا الحديث.. وكان العدل والإنصاف يقتضيان أن نذكر بالعرفان من أقاموا القناة سواء شهداؤها أو أصحاب قرار إنشاءها وأن نذكر بالعرفان أيضا من أعادوها إلي الشعب.. والأغرب من ذلك أن الاحتفالات الأخيرة لم تقترب إلا علي استحياء من تاريخ الأسرة العلوية التي أنشأت هذه القناة.. لقد كان أنشاء القناة صفحة مضيئة في تاريخ أسرة محمد علي وصفحة مضيئة في تاريخ ثورة يوليو وهي تعيدها لأصحابها والعدل والإنصاف يقتضي أن نعيد الفضل لأصحابه..
أن أخر الأرقام تقول أن دخل قناة السويس قد وصل في العام الحالي إلي3 مليارات و242 مليون دولار بزيادة236 مليون دولار عن العام الماضي وهذا يعني أن قناة السويس تقدم لمصر سنويا أكثر من20 مليار جنيه ولا أعتقد أن في مصر الآن مصدر أخر للدخل يتجاوز هذا الرقم والأرقام تؤكد أن القناة قدمت لمصر ما يقرب من50 مليار دولار في خمسين عاما أي ما يقرب من300 مليار جنيه..
ولا ينبغي أن نتذكر قناة السويس فقط ونحن نحتفل بذكري تأميمها. أن قناة السويس غائبة تماما عن الوعي المصري في السنوات الأخيرة.. لقد ارتبطت في كتب التاريخ بأعمال السخره وهذا جانب كتب فيه الكثيرون حكايات وحكايات.. ثم ارتبطت بالمعارك التي دارت في أربعة حروب منها العدوان الثلاثي.. ثم نكسة67 ثم حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر المجيدة.. وعلي ضفاف القناة استشهد أبطال مصر الأوفياء دفاعا عن الوطن والأرض والكرامة.
ولا أحد يعرف السر في هذا الإهمال الذي لحق بقناة السويس في السنوات الأخيرة.. كانت حديث الناس وهي تقاتل.. وحديث الناس وهي تجدد شبابها.. وحديث الناس وهي تستقبل كل يوم مئات السفن العابرة.. والغريب أننا نقرأ عنها في الصحافة الأجنبية أكثر مما نقرأ عنها في صحافتنا.. ونشاهد آلاف البرامج عن شرم الشيخ والغردقة.. وآلاف الأفلام في مياه طابا والساحل الشمالي ولا نري مشهدا في فيلم عن قناة السويس أو برنامجا عنها إلا في القناة الرابعة.. هل هو إهمال متعمد أو إغلاق لملف عزيز فيه صفحات للبطولة والشرف والدفاع عن الوطن أم هو تجنيب لمورد كبير من موارد الدولة لا أحد يعرف أين يتم إنفاقه وما هي جوانب هذا الإنفاق..
إنني أشعر أحيانا أن قناة السويس الدخل والدور والقيمة والذكريات تحولت إلي لغز لا أحد يعرف عنه شيئا سواء في الإعلام أو الإنفاق أو حتي نوعية السفن التي تعبر فيها.. أن هناك بعض الملفات التي تختفي من حياتنا أحيانا ومنها سيناء التي لا يقرأ أحد عنها شيئا إلا بعد عملية إرهابية أو ملف قناة السويس التي لم نعد نسمع عنها إلا مع فاتورة الدخل الشهري..
فهل يمكن أن تكون احتفالية التأميم التي شهدتها مصر أخيرا أياما قليلة بداية جديدة لأن نستعيد قناة السويس في حياتنا.. أن من يقرأ كتب التاريخ التي يدرسها ابناؤنا في المدارس لن يجد تاريخا لقناة السويس لأننا كما أهملنا الخديوي إسماعيل الذي أنشأها جاء الدور علي جمال عبد الناصر الذي أعادها لمصر ثم نسينا الاثنين معا.. ومن يتابع برامجنا التلفزيونية وصحافتنا القومية والمستقلة والحزبية لن يجد شيئا عن قناة السويس.. ولا أدري ما هو السبب في هذا الإهمال المتعمد.. أعيدوا قناة السويس للذاكرة المصرية فهي جزء عزيز منا وليس من العدل أن نفقد كل يوم جزءا عزيزا من ذكرياتنا.
ويبقي الشعر
خمسون عاما عشت أصرخ.. أمتي
ومواكـب الشهـداء بالعشـرات
خمسون عامـا والطـغاة فــوارس
خاضوا الليالي الحمر في الحانات
خمسون عاما في الدروب قضـيتـها
أجـري وراء الوهـم والنكبـات
يا ضيـعة العمـر الطويل وخيبتـي
فـي أمـة تـختـال بالنكسـات
هـذا تـراب القـدس يحمل أعظمي
وتكفن الجسـد النحيـل صلاتـي
هذا المـدي قبـري.. وتلك نـهايتي
فالمـجد بيتـي.. والعلا شرفاتي
أنا صيحـة الحق الجسـور تفجـرت
في ظلمة اليأس الطويـل العاتـي
أنا صرخـة الأمـل الوليـد تحجرت
في عين طفـل زائـغ النظـرات
أنا فرحـة بيـن الصـغـار وبسمـة
تسري كضوء الصبح في الطرقات
أنا نظـرة القـدس الحـزينـة كلمـا
نزفـت علـي يدهـا عيـون فتاة
قل مـا أردت عـن البطـولة والفـدا
وأكتـب جميـل الشعـر والأبيات
لا شيء أغلـي مـن دمـاء مقـاتـل
بالـدم يكـتـب أروع الصفحـات
والآن نـرسـم بالدمـاء طـريقـنـا