هوامش حرة
مخاطر الفوضي
يكتبها: فاروق جـــويـــدة
من أصعب المواقف في حياة الإنسان أن تصغر الأشياء في عينيه حتي تتلاشي ويتحول الكون حوله إلي فراغ سحيق.. وهنا تصغر الأوطان.. ويصغر الأشخاص وتصغر الأماكن والتاريخ والذكريات.. يصبح أكبر ما في الحديقة حشائشها.. وأعلي ما في القامات أقزامها.. وأضخم ما في المباني قبورها.. وأفضل ما في الكائنات صراخها.. هل يعقل وبأي منطق أو قانون أن تجري عملية استئصال كاملة لقدرات ومواهب مجتمع كان أفضل ما فيه ناسه وأعظم ما فيه عقوله.. وأسمي ما فيه قيمه وأخلاقياته.. ولمصلحة من نستأصل هذه القدرات ومن أجل من تجري عملية تصغير وتقزيم لشعب قام تاريخه علي مواهب أبنائه وقدراتهم الفذة وهي أفضل ما يملكون..
كان من نتيجة ذلك كله حالة من حالات الفوضي التي نعيشها الآن فلم تبق قدسية لشيء ابتداء بالوطن وانتهاء بالإنسان.. إنني أحزن كل دقيقة علي حالة الفوضي والتسيب التي يعيشها الشارع المصري فلا ضوابط لشيء.. ولا حساب لمخطيء.. ولا جزاء لتجاوز.. ولا تقدير لموهبة وكلنا يسبح في منطقة الفراغ الرهيب.. وما أكثر الشواهد حول هذه الفوضي:
* إذا نظرت إلي شباب مصر وهم عماد مستقبلها سوف تصاب بحالة من الحزن والاكتئاب.. ملايين العاطلين علي الأرصفة.. والضائعين ما بين المخدرات والعري والتطرف.. والباحثين عن أمل أو حلم أو وطن.. ولا تجد أمامك غير فراغ بإمتداد الوطن.. وكانت قمة المأساة هذا الهروب الجماعي بين شبابنا ابتداء بهؤلاء الذين ذهبوا للدراسة الصيفية في أمريكا ورفضوا أن يعودوا وطاردتهم قوات الأمن الأمريكية بين الولايات المختلفة وانتهاء بالذين غرقوا علي شواطيء ليبيا وإيطاليا وهم يهربون في مراكب الصيد.. قصص غريبة تعكس حالة الإحباط التي وصل إليها شبابنا.. ما الذي جعل شابا في مقتبل عمره يكره الحياة في وطنه بهذه الصورة الدامية.. ما الذي جعل ثروة مصر الحقيقية تتبدد منها وتضيع.. أن هؤلاء الشباب هم أصحاب هذا الوطن وهم مستقبله وأمنه وحياته.. كيف نترك مستقبلنا يهرب منا من أجل الدفاع عن حاضر كريه.. كان المصري يوما أكثر الناس حرصا علي البقاء في وطنه.. وهو الآن أكثر الناس هروبا منه..
* ما حدث في الوسط الصحفي في الأيام الأخيرة من مظاهر الفوضي شيء يدعو للرثاء.. أصحاب الأقلام وقادة الفكر.. ورواد الثقافة.. ودعاة الحرية يشتبكون في معارك أقل ما فيها قاموس طويل من الشتائم.. هل هذه هي لغة الحوار التي نريد أن نعلمها لقراء الصحافة المصرية,, وهل هذه هي لغة صاحبة الجلالة التي تعلم منها العالم العربي يوما لغة الحوار الراقي.. وهل هذه هي الصحافة التي تسعي إلي ترسيخ القيم والمباديء والدفاع عن الحريات.. أن الصحافة المصرية الآن تعاني ظروفا سيئة للغاية علي كل المستويات.. لقد وقعت فريسة تصفيات ومعارك وشلل وتجمعات.. وفقدت هيبتها أمام الرأي العام أمام حوارات ساقطة.. وصفقات مشبوهة ومسئولين لم يخافوا الله في أمانة مال أو رسالة فكر.. أو مسئوليه أقلام وكانت النتيجة ما نراه الآن علي الساحة الصحفية.. مؤسسات صحفية مفلسة.. وحوارات هبطت إلي الحضيض.. وأهواء وأغراض ومصالح وتصفية حسابات,, سوف نحزن كثيرا عندما نعطي الفرصة لمن يعصف بالأقلام ويستبيح شرف الكلمة..
* ما هذه الفوضي في دنيا الأرقام في مصر.. السادة الوزراء يتحدثون عن بلايين الجنيهات كأنهم يلعبون الطاولة.. مليار جنيه لدعم رغيف الخبز.. مليارات لإقامة مدارس جديدة.. مليارات للطرق والسكة الحديد.. وهذه بعض الأرقام التي انطلقت عبر الشاشات وعلي صفحات الجرائد..
* د.يوسف بطرس غالي وزير المالية يقول إن إيرادات الدولة من الضرائب والجمارك قد وصلت هذا العام إلي96 مليار جنيه.
* الجهاز المركزي للمحاسبات يقول أن ديون مصر بلغت650 مليار جنيه منها28 مليار دولار ديونا خارجية.
* أمريكا تقول إنها قدمت لمصر50 مليار دولار معونات أي ما يقرب من300 مليار جنيه مصري منذ كامب ديفيد وحتي الآن.
* المسئولون في قناة السويس يقولون إن إيراداتها بلغت50 مليار دولار أي300 مليار جنيه.
* جهات عربية وأجنبية قالت إنها أسقطت ديونا علي مصر بلغت أكثر من150 مليار جنيه في حرب الخليج.
* في20 عاما بلغت مواردنا من السياحة200 مليار جنيه ومن تحويلات المصريين في الخارج200 مليار جنيه ومثلها من البترول والغاز.
* وزارة الاستثمار تقول إن حصيلة بيع مشروعات القطاع العام بلغت29 مليار جنيه يضاف إليها16 مليار جنيه صفقة بيع شبكة المحمول الثالثة يضاف إليها بيع عمر أفندي وغزل شبين الكوم في الأيام القليلة القادمة ولا أحد يعلم قيمة بيع أراضي الدولة سواء في الأراضي الزراعية أو المستصلحة أو الصحراوية.. وهي أيضا تقدر بعشرات البلايين وهي لغز لا يعلمه إلا الله..
هذه بعض الأرقام التي تسقط علي رؤسنا كل يوم كالزلازل والإنسان يتساءل أين ذهبت كل هذه البلايين.. وما هو نصيب كل مواطن مصري منها.. وهل حصل علي نصيبه فعلا في صورة خدمات حقيقية.. أم أن المال السايب قد علم الناس السرقة..
إن أقصي ماحصل عليه مواطن مصري بسيط من كل هذه الأرقام أن يموت في حادث قطار أو سفينة غارقة أو في مسرح بني سويف..
وبعد ذلك مازلنا نقول أننا دولة فقيرة.. وأن مشكلة زيادة السكان هي السبب في كل الكوارث.. إن الكارثة الحقيقية هي الفوضي التي تعمل بها أجهزة الدولة في التعامل مع المال العام ولهذا لم يكن غريبا أن يقال إن رجل أعمال هرب للخارج وهو مدين بالمليارات أو أن آخر قد حصل علي أراض قيمتها بالمليارات دون وجه حق أو أن مؤسسه أفلست لأن المسئولين فيها نهبوها وتركوها أطلالا أو أن السكة الحديد لم تجدد عرباتها منذ ثلاثين عاما أو أن نقل تمثال رمسيس تكلف26 مليون جنيه أو أن ديون المؤسسات الصحفية أكثر من6 مليارات جنيه وديون التلفزيون5 مليارات جنيه.. ما كل هذه المليارات وأين ضاعت.. ومتي سيجيء وقت الحساب..
* كان قرار محكمة الجنايات ببراءة المتهم في قضية بني مزار مثار مناقشات كثيرة.. المحكمة رأت أن المتهم بريء.. بينما تصر أجهزة الأمن علي أنه لا يوجد متهم غيره.. والقضية هنا بين جهازين هامين من أجهزة الدولة.. الأمن والقضاء.. والرأي العام بينهما حائر.. القضاء قال كلمته.. والأمن حريص علي تأكيد صدق تحرياته وهذه واحده من أخطر المشاكل في مصر الآن بعيدا عن قضية بني مزار والمتهم البريء فيها.. هناك عشرات القضايا ومئات المساجين الذين ينتظرون قرارا بالإفراج عنهم لأنهم لم يدانوا في شيء والغريب أن قرارات الإفراج عندما صدرت أخيرا شملت أسماء معروفة في قضايا هامة مثل قضية المبيدات المسرطنة أو البنوك.. وبعد ذلك لم نسمع عن قرار إفراج واحد لسجين لم تثبت عليه تهمه أو إدانه.. هناك عشرات الرسائل التي تصلني من وراء القضبان تدخل في دائرة الاشتباه.. أو الاعتقال أو الخطر علي الأمن العام.. من الذي يحدد كل هذه المسميات.. أن ما حدث في بني مزار يحتاج إلي قراءة أمنية وجنائية جادة حرصا علي قيمة أسمها العدالة..
ويبقي الشعر
أنا في حصـاري الآن أجـمع أنـجمي
وأعيد رسم الكون في لحظات
أنا في حصـاري الآن أرصد رحلتـي
فأري دمانا أقدس الرحـلات
أنا لسـت مسـجـونا لأن ملامـحـي
سكنت قلوب الناس كالنبضات
أنا صـامد في الأرض بيـن تـرابهـا
وسط النخيل وفي شذا الزهرات
عنـد الخليـل وخـلـف غـزة كلـما
لاحت وفي يدها الصباح الآتي
أنا صامـد في القـدس حيـن تعيـدني
طفلا أحلق في شواطيء ذاتي
أنا صـامـد في ليـل يـافـا كلـمـا
ذابـت مآقيها من العبـرات
في الأسـر أرسـم كـل يـوم صورة
وطنا عنيدا شامـخ الرايات
هذا صلاح الديـن يسمـع صـرختـي
ويطل من بين الظلام العاتي
أنا ياصـلاح الديـن خلفـك لا تخـف
فلديك شعب واثق الخطوات
قم يا صـلاح الديـن هـذا شـعـبنـا
يرمي حمي الشيطان بالجمرات
قم يا صـلاح الديـن وأسـمـع أمـة
تبكي علي أمجادك العطرات