هوامش حرة
بابا الفاتيكان بين الدين والسياسة
يكتبها: فاروق جـــويـــدة
لايمكن لنا ان نقرأ محاضرة البابا بنديكت السادس عشر بابا الفاتيكان بعيدا عن مسار الفكر الغربي وموقفه من العقيدة الإسلامية تاريخا وتأثيرا. إن المحاضرة تدخل في سياق تاريخ طويل يحكم نظرة الغرب للاسلام بكل ما فيها من حساسيات ومواقف تبدأ بالرفض الكامل للعقيدة وتنتهي بالحروب الصليبية علي شعوبنا, التي كانت تمثل في ذلك الوقت قمة العنف في التعامل مع عقيدة سماوية يدين بها ثلث سكان الارض.
وفي تقديري ان الهجوم الذي اورده البابا في محاضرته علي الاسلام, حتي وان لم يكن علي لسانه الا انه يمثل صلب المحاضرة, وهو جزء اساسي فيها لانه يقارن بين الاسلام والديانات الاخري في عدة قضايا اساسية من بينها موقف الخالق سبحانه وتعالي في كل دين.. ومدي اقترابها من لغة العقل, هذا بجانب قضية العنف التي حاول البابا ان يلصقها بالإسلام كما فعل كثيرون غيره كان اخرهم الرئيس الامريكي بوش عندما قال انه يحارب الفاشيستية الاسلامية.
والمحاضرة التي ألقاها بابا الفاتيكان وأثارت ضجة واسعة في العالم الاسلامي وخرجت بعدها المظاهرات والاحتجاجات تحتاج الي وقفة عاقلة نفند فيها ما طرح الرجل من افكار وتصورات, وان كنت لا اري فارقا كبيرا بين ما جاء فيها وبين كتب كثيرة هاجمت العقيدة الاسلامية, والغريب ان هناك كتابا كنت قد تناولته منذ شهور في هذا المكان كتبه منذ اكثر من مائة وخمسين عاما جورج بوش الجد وهو جد الرئيس بوش الحالي وعنوان الكتاب محمد مؤسس الدين الاسلامي ومؤسس امبراطورية المسلمين وقد ترجمه عن الانجليزية د. عبد الرحمن الشيخ, وفي هذا الكتاب اراء كثيرة يبدو ان بابا الفاتيكان قد قرأها بعناية واقتبس منها الكثير في موقفه من الاسلام والمسلمين, وان كان الخلاف الوحيد بين آراء بابا الفاتيكان وبوش الجد ان الاول يحمل صفة دينية لم تكن من حظ الثاني..
ولا شك ان في محاضرة البابا اشياء كثيرة تحتاج الي نقاش:
- ان البابا بحكم دراسته للفلسفة تخلي كثيرا عن وقار الدين والعقيدة بحكم سلطاته ومنصبه, ومارس شطط الفلسفة برغم التناقض الشديد بين الوقار المطلوب في رجل الدين والشطط المقبول من رجال الفلسفة.
- ان بابا الفاتيكان جنح كثيرا لقضايا سياسة معاصرة حتي وان جعل لها ساترا دينيا, ولعل ابرز هذه القضايا هي قضية العنف واستخدام السيف في الفتوحات الاسلامية, وهي قضية قديمة قتلت بحثا واكدتها احداث التاريخ بان الاسلام كان ومازال دعوة للرحمة والتسامح, وما ارسلناك الا رحمة للعالمين وانك لعلي خلق عظيم هذه هي صفات نبي الاسلام عليه الصلاة والسلام كما وصفها الخالق في كتابه الكريم.
- ان البابا توقف كثيرا في محاضرته عند قضية العقل والاديان, حتي انه في طرحه للتناقض بينهما كان اقرب الي مدارس فكرية تؤله العقل وتضع له موقع السيادة رغم اننا نعرف جميعا ان في جميع الاديان مناطق كثيرة استعصت علي الفهم البشري مهما كانت حدود معرفته واجتهاده, وعندما احتار العقل الإنساني وجد راحته في رحاب الاديان طاعة وايمانا ويقينا ولقد توقفت كثيرا عند بعض التفاصيل التي تطرح تساؤلات كثيرة في هذه المحاضرة وتحتاج الي رأي المفكرين ورجال الدين بعيدا عن الحساسيات والرفض او القبول.
- ان بابا الفاتيكان يري ان ارادة الله عند المسلمين تجعلهم يتعبدون بشكل اعمي, والغريب ان يأتي مثل هذا الكلام من قمة المسيحية الكاثولوكية في العالم والتي يدين بها2 مليار شخص.. وما هذا الربط الغريب بين العقل والألوهية الذي يريد قداسته ان يجعله صيغة للبشر؟.. واين المدي الذي وصل اليه العقل البشري حتي يصل الي هذه المرتبة؟ انه يري ان الالوهية العالمية هي العقل ولا احد في الكون ينكر قيمة العقل البشري, وهو قبل كل شئ منحة من الخالق سبحانه وتعالي..
ولكن هل من الحكمة ان يسعي الانسان الي تضخيم دور هذا العقل وهو يدرك محدوديته حتي ولو تجاوز في حق خالق هذا العقل؟.. وهنا يتحدث البابا عن المسلمين ويري ان الرب في التعاليم الإسلامية مطلق السمو والمشيئة وان هذا يتعارض مع العقلانية المطلوبة.. وربما كانت هذه نقطة خلاف جوهرية بين الاسلام الذي يجرد الخالق سبحانه وتعالي وينزهه عن كل مخلوقاته, بينما يري الاخرون تشبيهه بهذه المخلوقات, وهذا الخلاف الذي جاء في محاضرة بابا الفاتيكان يعكس وجهة نظر تتعارض تماما مع الاسلام, ان البابا يريد بالعقل ان يهبط بالخالق الي مصاف خلقه, بينما الاسلام يراه منزها عن كل شئ.. فليس كمثله شئ.. وهذا خلاف عقائدي جوهري, ولايمكن ان يناقش في محاضرة او رأي عابر خاصة انه من القضايا المحسومة بين الاسلام والعقائد الاخري.. لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد... هذا هو الخالق سبحانه وتعالي في الاسلام.
- كان رأيا غريبا ان يدعي بابا الفاتيكان ان المسيحية لم تتبلور في شكلها وصورتها النهائية الا في اوروبا رغم كل ما حققته في الشرق.. وهو هنا ايضا يفرق بشكل تعسفي بين المسيحية الشرقية والمسيحية الغربية, وكأنهما عقيدتان رغم ان قداسته يعلم ان الشرق هو مهبط السيد المسيح عليه السلام, وان جميع اماكنها المقدسة توجد في هذه البقعة المباركة من العالم.. وان الشرق المسيحي هو اصل المسيحية وحارسها, وان العقيدة المسيحية تعرضت لكل ألوان القهر والتعذيب في ممالك اوروبا القديمة, وان الشرق كان مصدر الحماية للعقيدة المسيحية.
- نأتي الي قضية اخري وهي العلاقة بين العقل والاديان, اننا جميعا نعلم ان اوروبا قد فصلت الدين عن الحياة العامة للبشر, واصبح الدين عندها صلاة في كنيسة او قداسا يوم الاحد, ولكن الاسلام ليس مجموعة طقوس ملزمة او صلوات يومية, ان اخطر ما في الاسلام انه دين وحياة, وان في تعاليم الاسلام تشريعات وقوانين انسانية تحكم حياة الناس وسلوكياتهم, وان المعاملات تمثل90% من جوهر العقيدة الاسلامية بينما العبادات لاتتجاوز نسبتها10% من احكام الشريعة,
وهنا يكون اتهام الاسلام بانه بعيد عن العقل اتهاما باطلا اذا كان يحكم سلوكيات الانسان بهذه الصورة المتكاملة وهذه الشمولية التي تدخل في ادق تفاصيل حياته فكرا وسلوكا وعلما ودينا.. ان الاسلام يحترم عقل الانسان ويقدس روحه ويري ان الفصل بين الاثنين خطيئة كبري.. ولعل هذا ما يعاني الغرب منه الآن, فقد تخلي عن روحانياته وترك للعقل ناصية الحياة, وبقدر ما تحقق من انجازات كانت الكوارث التي حلت بالبشرية امام التقدم الذي افقد البشرية روحها وادميتها امام عقل لايعرف طريقا للرحمة.. بقدر ما اصاب العقل.. بقدر ما أخطأ.. ولعل البابا يعرف اكثر من غيره حيرة العقل البشري امام قضايا كثيرة مثل الخلق والروح والموت وما بعده.. بل ان الكثير من وظائف المخ في جسد الانسان مازالت حتي الآن مستعصية علي الفهم رغم كل ما وصلت اليه البشرية من مظاهر التقدم العقلي..
- اما قضية العنف والربط بينها وبين الاسلام فماذا يقول بابا الفاتيكان عن جرائم حربين عالميتين كان هو نفسه من فرسانها وملايين الضحايا والأبرياء وماذا يقول عن جرائم فرنسا في الجزائر والمغرب وتونس, وجرائم ايطاليا في ليبيا, والانجليز في مصر, وماذا عن جرائم الصرب في البوسنة, والروس في الشيشان وامريكا في العراق وافغانستان ماذا يقول عن سجن ابوغريب وجرائم اسرائيل في فلسطين ولبنان ماذا يقول عن التاريخ الدموي للغرب في حق الإسلام والمسلمين؟ ماذا يقول عن ضحايا هيروشيما ونجازاكي في اليابان وآلاف القتلي في فيتناما.. والاسلحة النووية والاسلحة القذرة والقنابل العنقودية؟!.. لقد اخطأ البابا عندما تحدث بلغة السياسة في ساحة الدين.. وحاول الدفاع عن العقل فامتهن السماء.. وحاول إعلاء الخلق فتجاوز في حق الخالق وقبل هذا كله فان دعاة المحبة والتسامح لايغرسون أبدا اشجار الحقد والكراهية بين الشعوب..
ويبقي الشعر
في ارضنا حلم وفي اوطاننا شعب يغني الحب ينعم بالخيال
لافرق في اوطاننا بين الصليب او الهلال
فالدين دين الله تحمله جوانحنا بكل الحب فينا.. والجلال..
عشنا مع الايام احبابا نداوي الجرح
نقتسم الرغيف المر نسكر بالجمال..
حتي اتت يوما جيوش الموت طافت في الشوارع..
بين اطلال المساجد
فوق اعناق الرجال..
كانت دماء الارض تصرخ في الربوع
وحولنا تبكي الظلال
لم يبق غير بكاء ثكلي او عجوز
او صغير اطبق الفم الجريح علي الرمال..