هوامش حرة
وماذا بعد الكلام ؟
يكتبها: فاروق جـــويـــدة
إذا كان الماضي قد رحل وأخذ مكانا في ذاكرة الأيام.. وإذا كان الحاضر يستعد للرحيل فإن المستقبل هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن نحلم به.. ونحلم معه.. ولهذا كنت أتابع باهتمام شديد اجتماعات المؤتمر السنوي للحزب الوطني الذي استمر ثلاثة أيام كاملة ما بين الجلسات والمناقشات والشاشات.. ورغم حالات اليأس التي تجتاحنا من حين لأخر فإن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بغير الأمل حتي وإن أصبح أحيانا مجرد سراب خادع أو وهم كاذب أو وعود لم يعد يصدقها أحد..
لن أتوقف كثيرا عند بيانات وخطب الحزب الوطني فلم يكن فيها جديد.. كلام كثير عن البسطاء والفقراء وقوي الشعب المغلوبة علي أمرها.. كلام آخر عن الحريات والإصلاح السياسي وكلام ثالث عن الإنجازات الاقتصادية والمشروعات النووية.. ولم يكن غريباعلينا أننا سمعنا هذا الكلام من قبل عشرات المرات وأننا اكتسبنا حصانة بدنية ونفسية وعقلية جعلت من الصعب علينا أن نصدق كل ما يقال.. الجانب الثاني أنني تعجبت من حجم الدعاية والإعلان التي واكبت اجتماعات الحزب الوطني وهي تطرح سؤلا مهما من أين كل هذه الأموال وهل تحملتها ميزانية الدولة أم أنها تبرعات من رجال الأعمال أم أنها اشتراكات أعضاء الحزب؟.. عشرات بل مئات الصفحات في الصحف وعشرات من ساعات الإرسال علي شاشات التلفزيون.. والناس تسأل من أين جاءت كل هذه الأموال.. إن الشفافية التي يتحدثون عنها تتطلب كشف حساب دقيق لكل هذه النفقات..
هناك نقطة أخري طافت في ذهني وأنا أشاهد اجتماعات الحزب وهي هذا الكم الرهيب من الإنجازات والأرقام التي تحققت ولم يشعر بها أحد فهل حدث ذلك في بلد آخر وهل مؤسسات الدولة تعمل في وطن آخر.. إننا لا نشاهد إلا حرائق القطارات والمسارح والعمارات المنهارة والهاربين بأموال البنوك وعشرات من جرائم الفساد التي نقرأ عنها كل يوم والمؤسسات المنهوبة التي لم يحاكم المسئولون فيها ومات منهم من مات وهرب منهم من هرب ولكن المهم أن أموال الشعب ضاعت.. وأمام هذا الانفصام ما بين واقع مؤلم وكئيب وتصورات أقرب للخيال لدي المسئولين في الحزب يكون السؤال متي ندرك الحقيقة ؟
وقد لفت نظري في اجتماعات الحزب الوطني هذا العام غياب واضح وصريح لثلاث فئات علي درجة كبيرة من الأهمية..
- لقد غاب المثقفون تماماعن هذا المؤتمر.. وهنا يجب أن نفرق بين أنواع كثيرة من المثقفين لأن هناك مثقفي السلطة وهم مجموعة من أصحاب المصالح الذين أبرموا صفقة أزلية مع السلطة أي سلطة فكانوا اشتراكيين في زمن الحكم الشمولي.. وكانوا اتحادا اشتراكيا واتحادا قوميا وحزب مصر وهيئة التحرير ومن كل لون واتجاه ثم كانوا رجال أعمال ورأسماليين وانفتاحيين.. وفي تقديري أن هذا النوع من المثقفين كان كارثة علي الثقافة والسياسة في وقت واحد.. وهناك أيضا من سخروا خدماتهم الثقافية والفكرية من أجل البقاء في الأضواء مع السلطة فهم مع الحرب ومع السلام ومع التطبيع ومع ثقافة السلام وثقافة التسامح وثقافة كل شيء.
وهنا يمكن أن نقول إن الوجه الحقيقي للمثقفين المصريين لا مكان له في الحزب الوطني لأنه لا يؤمن بدورهم ولا يعترف بقيمتهم.. وهؤلاء المثقفون مهمشون في كل شيء فيما يقولون أو يفعلون أو يكتبون.. وللأسف الشديد أن الأغلبية منهم كانت محل رفض في كل العصور لأنهم رفضوا أن يكونوا أتباعا لغير ضمائرهم.. غاب المثقفون الحقيقيون عن الحزب الوطني ابتداء من أعضائه وممثليه في مجلسي الشعب والشوري وانتهاء برموز الحزب في اجتماعاتهم الأخيرة.. والأغرب من ذلك أن الحزب تحدث في بيانه الختامي عن كل شيء وناقش في لجانه جميع القضايا إلا قضايا الثقافة.. ولنا أن نتصور حزبا سياسيا حاكما يسقط من حساباته عقل الأمة ووجدانها ويكتفي بمجموعة من الشعارات والمهرجانات متصورا أن هذه هي الثقافة.. أن إهمال الثقافة المصرية واختفاء دور المثقفين الحقيقيين واحدة من كبري الجرائم في تاريخ هذا الشعب والغريب أن يحدث ذلك في وطن قام معظم تاريخه علي الثقافة بكل ألوانها..
- لقد غاب أيضا عن اجتماعات الحزب رجال الدين المسيحيين والمسلمين معا رغم أن قضايا الدين الشائكة الآن من أخطر ما تتعرض له مصر.. بل هي أخطر ما يواجه العالم كله أمام هجمة شرسة علي الإسلام وغياب المرجعيات في الدين ابتداء بالخطاب الديني وانتهاء بدعاة الفتن بين أبناء الشعب الواحد.. ولا أدري لماذا يهمل الحزب الوطني قضايا الدين رغم أن أخطر خصومه ومعارضيه علي الساحة السياسية هم الأخوان المسلمون.. أن تمسح الحزب الوطني في العلمانية خطأ فادح وإهماله للقضايا الدينية تقصير كبير.. ولنا أن نتصور غياب الدين من برنامج الحزب الحاكم أمام شباب يعاني ظروفا صعبة ما بين التطرف والضياع..
إن شبابنا يشاهد اليوم علي شاشات التلفزيون آلاف الدعاة وآلاف المرشدين وكل يغني في الدين والفتوي علي ليلاه.. وهناك مصالح وصفقات ومشروعات واتهامات.. وكل هذا باسم الدين.. لم نقرأ في برنامج الحزب الوطني واجتماعه الأخير سطرا واحدا يحدث الناس عن دينهم وعقائدهم.. كأنه حزب يعمل في بلد آخر فإن كان المسئولون فيه لا يدركون حجم الدين وأهميته فهذا خطأ فادح وإن كانوا يعلمون ويطنشون.. فهذه خطيئة أكبر..
- في مؤتمر الحزب لم أجد أحدا يتحدث بأسم فقراء مصر.. كل ما سمعناه كان أحاديث مكررة من المسئولين أكثرها وعودا لم يتحقق منها شيء.. وفي الوقت الذي شاهدنا فيه مجتمع1% علي كل المنصات وفي كل الاجتماعات لم نجد صوتا واحدا يتحدث باسم البسطاء ويشكو للمسئولين من ارتفاع الأسعار الجنوني.. والضرائب.. والجمارك.. والبطالة.. وفصل العاملين من الخدمة.. وضياع أموال التأمينات والمعاشات وهموم التعليم والصحة والإسكان.. كل ما سمعناه خطط عن المستقبل وأحلام عن إنجازات لا تجيء.. فأين كان المسئولون وهم يقدمون كل هذه الوعود.. وما الذي منعهم من تنفيذها في سنوات طويلة مضت.. لقد غاب فقراء مصر عن مؤتمر الحزب الوطني أمام صخب رجال الأعمال.. والمليارات التي كان المسئولون يتحدثون بها والمشروعات الورقية التي لم يتحقق شيء منها.. وأمام غياب عقل الأمة ممثلا في مثقفيها.. وغياب دينها الحقيقي ممثلا في علمائها من المسلمين والمسيحيين.. وغياب الأغلبية الساحقة من الشعب ممثلة في فقرائه.. كان السؤال الأهم.. ماذا بعد الكلام ؟
ويبقي الشعر
الفـارس المخدوع ألقـي رأسه فوق الجدار
وكل شيء في جوانحه همد
هربت خيولك من صقيع اليأس
فالشـطآن حاصرها الزبد
لا شيء للفرسان يبقـي حين تنكسر الخيول
سوي البريق المرتـعد..
وعلي امتداد الأفـق تـنتـحب المآذن
والكـنائس.. والقباب
وصوت مسجون سجد
هذي الخيول تـرهـلت
ومواكب الفرسان ينقـصها مع الطـهر.. الجلـد..
هذا الزمان تـعـفـنت فيه الرءوس
وكـل شيء في ضمائرها فسد
إن كـان هذا العصر قـد قـطع الأيادي والرقاب
فـكيف تأمن سخط بركان خـمد..