وماذا بعد‏..‏

هوامش حرة

وماذا بعد‏..‏

يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـــدة



من أسوأ الأشياء في مصر الآن أن يجد الإنسان نفسه حائرا أمام أسئلة كثيرة يبحث لها عن جواب‏..‏ هناك أحداث كبيرة تمر دون أن نجد لها صدي بينما نتوقف كثيرا أمام أشياء عابرة لا تقدم ولا تؤخر‏..‏ لقد فقدنا القدرة علي تقييم الأشياء والأحداث والبشر وغابت عن عيوننا حقائق كثيرة و شغلتنا التوافه من الأشياء فاستنزفت الوقت والعمر والجهد ووجدنا أنفسنا أمام واقع غريب في كل ملامحه‏..‏ وفي الأسبوع الماضي تلاحقت أحداث سريعة توقفت عند الكثير منها وفي رأسي يدور أكثر من سؤال‏..‏



ذهبت إلي الاسكندرية ومكتبتها العريقة الشابة مشاركا في المؤتمر الثالث للإصلاح العربي والذي أصدر في مؤتمره الأول وثيقة الاسكندرية الشهيرة‏..‏ جهد كبير يقوم به رئيس المكتبة د‏/‏ إسماعيل سراج الدين وكتيبة عمل تقف وراءه من كل الأجيال‏..‏ مناقشات ومحاورات وآراء حول دور المرأة وحقوق الإنسان والشفافية الغائبة في المجتمعات العربية وقضايا الفساد وحرية الإعلام وقضايا البيئة والقروض الصغيـرة‏.‏



وعلي امتداد ثلاثة أيام ارتفعت الأصوات ودارت المناقشات بين أصحاب الفكر من المصريين والعرب والأجانب وكان السؤال في كل هذه اللقاءات وماذا بعد الكلام والحوار واللقاءات المكررة‏..‏ إن القضايا واحدة‏..‏ والأشخاص هم نفس الأشخاص‏..‏ والتوصيات لا تتجاوز من بعيد أو قريب توصيات سبقت‏..‏ ولكن لا شيء تغير في حياتنا كأمه‏..‏ ولا شيء اختلف في أحوالنا كشعوب‏..‏ إن الأنظمة الحاكمة أكتفت بأن تترك لنا سبل الحوار والكلام والدردشة واكتفت بأن تفعل ما تريد‏..‏ وهذا يعني أن المثقفين العرب سوف يصدرون مائة وثيقة‏..‏ ويقيمون ألف مؤتمر‏..‏ ويناقشون عشرات القضايا وكل شيء حولهم لا يتغير‏..‏ وإذا كان هناك إصرار علي بقاء الحال علي ما هو عليه فلماذا نقيم المؤتمرات ونعقد الجلسات ونستهلك أعمار الناس في الكلام‏..‏ وكان السؤال متي نترك ساحات الكلام ونحاول ولو مرة واحدة أن نجعل من الكلام حقيقة وأن نري الأحلام واقعا‏.‏



‏*‏ الصحافة المصرية خاصة المستقلة منها تجاوزت كل السقوف المشروعة وغير المشروعة والحكومة تجاوزت كل أشكال وألوان‏'‏ التطنيش‏'‏ ولهذا يزعجني كثيرا تصعيد الصحافة ويزعجني أكثر‏'‏ طناش‏'‏ الحكومة‏..‏ والسؤال‏..‏ وماذا بعد التجاوزات والتطنيش‏..‏ ؟ إن الحكومة تسمع ولا تجيب‏..‏ تقرأ ولا ترد‏..‏ وتصر علي أن تسير في طريقها وسط الصراخ وكأنها قطار لا يتوقف وهو يحمل تحت عجلاته أشلاء الضحايا‏..‏ ولا أحد يعرف ماذا سيحدث بعد ذلك كله‏..‏



عشرات القضايا عن بيع القطاع العام في صفقات تنقصها الشفافية ابتداء بعمر أفندي وانتهاء بالبنوك‏..‏ وقضايا فساد تغطي سماء أيامنا بسحب سوداء كثيفة‏..‏



واختيارات خاطئة في الأشخاص والمناصب‏..‏ وتجاوزات لا تليق بشعب علم الناس معني الإدارة والحضارة‏..‏ وتكتب الصحافة ويذهب كل ما كتبت أدراج الرياح وتكون النتيجة أن تحال الملفات إلي قضايا وتكون أحكام السجن سيفا مسلطا علي كل صاحب قلم دون أن يسمعه أحد أو يناقش ما كتب‏..‏ وما بين إصرار الحكومة علي سياساتها حتي ولو أخطأت‏..‏ وإصرار الصحافة علي أن تكشف الفساد حتي ولو تجاوزت‏..‏ وقوانين مازالت تسجن كل صاحب رأي وتقيد حريته تشعر أن القطار يسير بسرعة رهيبة نحو شيء مجهول لا نعرفه ويكون السؤال من يوقف القطار قبل أن تقع الكارثة‏.‏



‏*‏ هناك حالة انفلات في حياتنا تستطيع أن تكشف ملامحها في الشارع‏..‏



وأماكن العمل‏..‏ والمدرسة والبيت والجامعة‏..‏ تستطيع أن ترصدها في سلوكيات الناس مسئولين ومواطنين الصغار منهم والكبار وهذا الانفلات يبدأ بظاهرة الاعتداء علي المال العام دون خوف من عقاب وينتهي بعشرات القضايا التي لم تحسمها المحاكم‏..‏ وهذا الانفلات يعني أن الضوابط العامة التي تحكم المجتمع سلوكا وعملا وأخلاقا قد تراجعت وأن المجتمع يعاني حالة من حالات التفكك والتحلل والانهيار ويكون السؤال‏..‏ وما هي الظواهر التي تؤكد ذلك‏..‏



إن ما حدث في عبارة السلام‏98‏ وما يتكشف كل يوم من حقائق دامية حول هذه الكارثة يؤكد أن المجتمع فقد كل مقومات الإنسانية فيه‏..‏ أكثر من ألف شخص تأكلهم الأسماك‏..‏ ولا أحد يعرف هل وصلت استغاثة العبارة الغارقة إلينا أم لم تصل‏..‏ وكيف وصلت إلي عواصم أوربية وبينها وبين الأراضي المصرية كيلومترات محدودة‏..‏ وأين صاحب العبارة وكيف خرج من مصر المحروسة دون أن يوقفه أحد ومن سمح له بالخروج وهو رهن التحقيق‏..‏ إن الذي يسرق دجاجة في ريف مصر يدخل السجن والذي يقتل ألف شخص يسافر ويجد من يحميه‏..‏ وأين قرار مجلس الشوري برفع الحصانة عن صاحب العبارة المتهم إن المجالس النيابية عندنا ترفع الحصانة إذا أرادت في دقائق فكيف تركت متهما أمام القضاء في جريمة بشعة يسافر بجواز سفر وحصانة لا يستحقها والسؤال الأخطر أين قائد العبارة وضباطها وما هوالعدد الحقيقي للشهداء والمفقودين‏..‏ تساؤلات ليست لها إجابة‏.‏



وفي الوقت الذي يسافر فيه صاحب العبارة إلي لندن تشهد القاهرة عملية استجواب غريبة لأربعة من أكبر رموز القضاء المصري العريق الخضيري‏..‏ وأحمد مكي والبسطويسي ومحمود مكي وكل منهم وسام علي صدر مصر وتتساءل علي أي أساس يحاكم هؤلاء وعلي أي أساس سافر من سافر‏..‏ أنها ظواهر غريبة تدعو للدهشة والتساؤل‏..‏ ولكنها تؤكد أمامنا ظواهر التسيب و الانفلات‏.‏



‏*‏ قضايا الفساد ظاهرة يومية في حياتنا تراها علي صفحات الجرائد‏..‏ وبين كواليس المحاكم وفي أروقة العدالة الغائبة‏..‏ وقد تصدمك علي الشاشة الصغيرة‏..‏



وفي الأسبوع الماضي تابعت علي شاشه قناة دريم السيدة مني الشاذلي في برنامجها الرائع الذي تتألق فيه كل ليلة العاشرة مساء وهي ترصد كارثة القصر العيني الفرنساوي‏..‏ وفي صفحات التاريخ يقف القصر العيني أعرق مدارس الطب في مصر والذي تخرجت فيه مواكب الأطباء العظام الذين منحوا للطب المصري المكانة والقيمة والدور‏..‏



كانت مني الشاذلي تستضيف د‏.‏ أسامة الشهاوي رئيس القصر العيني الفرنساوي وكان الحديث عن عمليات التحايل والنصب والأسعار واستغلال آلام الناس ومصائبهم‏..‏ كان الحديث اتهاما صريحا لا مجال للشك فيه لأجهزة مسئوله في هذا المستشفي الجامعي الذي يتبع جامعة القاهرة بالمتاجرة في المرضي‏..‏ واستغلال المواطنين‏..‏ لأن ما يباع في المستشفيات الأخري بألف جنيه يباع بعشرة ألاف في المستشفي الجامعي العريق‏..‏ وصفقات مشبوهة مع شركات الأدوية والمستلزمات الطبية‏..‏ ورائحة فساد تتسلل في كل غرفة في المستشفي الذي غابت عنه طيور الرحمة‏..‏ كان رئيس القصر العيني يدافع عن شهور ستة هي كل عمره الإداري في المستشفي‏..‏ ولكن السؤال وماذا عن سنوات سبقت من الفساد‏..‏ ولماذا لا يحيل مدير المستشفي الجديد ملفات من سبقوه إلي النائب العام‏..‏ وأين أجهزة الرقابة‏..‏ أين الجهاز المركزي للمحاسبات وأين د‏/‏مديحة خطاب بكل تاريخها المهني والإنساني وهي تشاهد أسوأ أنواع الجرائم في بيت من بيوت الرحمة‏..‏ إن الحلقة التي قدمتها مني الشاذلي عن أحوال القصر العيني مرثية طويلة وملحمة حزينة عن أعرق المهن في مصر وأكثرها إنسانية وهي الطب الذي كنا نباهي به يوما بلاد الدنيا وكنا رواده قبل التاريخ‏..‏ ويبدو أننا لم نخسر في مهنة الطب الحاضر وحده ولكننا نخسر الماضي والمستقبل‏..‏ والسؤال الذي يدور الآن هل هذا تمهيد لما يتردد عن رغبة حكومية في خصخصة القصر العيني وعدد من المستشفيات الجامعية خلال الفترة القادمة‏..‏



‏*‏ من الأشياء أيضا الغريبة أن تتدفق الدواجن خلال هذا الأسبوع مرة أخري في الأسواق المصرية وإذا سألت عن مصدرها يقال لك أنها المزارع الكبري التي تعاقدت مع الحكومة لتوريد الدواجن المجمدة بسعر‏8‏ جنيهات للكيلو‏..‏ وهذا يعني أن الأنفلونزا الملعونة دمرت فقط عشش الفراخ في النجوع والقري ومحلات بيع الدواجن الحية في المدن ولم يبق أمام الجميع غير المزارع الكبري التي تنتج الملايين من الدجاج‏..‏ وتحصل علي الملايين من البنوك وتنتظر الأرباح بالملايين من الحكومة‏..‏ أما هؤلاء الذين ماتت دواجنهم واحترقت عششهم‏..‏ وأغلقت الحكومة محلاتهم فليس أمامهم غير الدعاء‏!!‏ وهنا يأتي السؤال الحائر‏..‏ لماذا تختار الأزمات في مصر دائما البسطاء وغير القادرين والفقراء من أصحاب العشش ولا تقترب أبدا من أصحاب العنابرالكبري والاستثمارات الضخمة حتي في الأزمات تصبح الخسارة من نصيب الفقراء‏.‏



‏*‏ لا أتصور أبدا أن تنتقل سلوكيات الشارع وما فيها من تجاوزات إلي ساحة لها قدسيتها في حياتنا الدينية وهم الدعاة‏..‏ هناك خلافات غريبة حول السفر إلي دول أوربية للتفاوض والحوار حول ما حدث في قضية الرسوم التي أساءت إلي نبينا عليه الصلاة والسلام‏..‏ ولا أتصور أن من حق أحد أيا كان أن يتحدث بأسم جميع المسلمين وأن يعطي نفسه هذا الحق‏..‏ ولا أتصور أيضا السعي لإجهاض صحوة اشتعلت في وجدان كل مسلم تحت شعار الحوار‏..‏ ولا أتخيل أن يقول البعض كفي ماحدث ولنجلس علي موائد الكلام‏..‏ يجب أن يصل أخر سطر من الرسالة إلي الغرب وأن يشعر كل مواطن في الدول الغربية بالحزن الذي أصابنا كأمة بسبب هذا العدوان الغاشم علي نبينا عليه الصلاة والسلام‏..‏ لقد تم إيقاف عمدة لندن شهرا كاملا عن عمله لأنه أساء بكلمة واحدة لمصور يهودي‏..‏



إن الحوار مع الغرب يجب أن يكون من خلال سعي مشترك أن نقول وأن يسمع فقد أعتدنا لسنوات طويلة أن نسمع فقط وأن تصدر لنا الأوامر والنصائح دون أن يكون لنا حق في الرفض أو الاعتراض‏..‏ إن ما حدث في الشارع الإسلامي صحوة حقيقية ضد كل ألوان العدوان والظلم و احتقار عقائد الأخرين‏..‏ ويجب أن يسمعنا الغرب حتي أخر صيحة تنطلق في سماء أوطاننا وإذا كانت لدي البعض رغبة في السفر إلي كوبنهاجن أو باريس أو لندن لقضاء وقت ممتع أو شراء ملابس الصيف فليكن ذلك بعيدا عن قضايا الإسلام والمسلمين‏..‏



إن ذلك أبعد ما يكون عن أحوال المسلمين المشردين في بقاع الأرض بين القتل الأمريكي والبطش الانجليزي والسفاهات الدنماركية إن قضايا الإسلام خاصة قضية الرسوم الأخيرة لا تخص داعيا أو فقيها أو عالما من علمائنا الأجلاء ولكنها تخص المسلمين في كل بقاع الأرض ومن الخطأ أن يحتكرها شخص واحد‏.‏



أسئلة كثيرة دارت في رأسي وأنا أشاهد مواكب المثقفين باختلاف توجهاتهم وهي تتساءل عن مصير أمة ومستقبل شعوب في مؤتمر مكتبة الاسكندرية‏..‏ تساؤلات أخري حول قضايا الفساد في القصر العيني بيت الرحمة‏..‏ وعبارة السلام والانفلات في الشارع المصري وإصرار الحكومة علي أن تكون قطارا لا يتوقف ولايسمع‏..‏ وخلافات الدعاة حول قضايا أساسية وجوهرية ليس هذا وقت الخلاف حولها أو حول غيرها‏..‏ أسئلة كثيرة تعكس حالة أرتباك وانفلات حادة في حياتنا وتطرح سؤالا في غاية الأهمية والخطوره‏..‏ وماذا بعد كل هذا الكلام ؟‏!‏



ويبقي الشعر





هذا زمان يقتل الشعراء لا أدري لماذا



يقطع الكهان في أوطاننا شجر النخيل



هذي الوجوه العابثات علي ضفاف النهر



تحرق كل يوم ألف بستان ظليل



يترنحون علي الكراسي كالسكاري



بينما الطوفان يزأر حولنا



وعلي رفات الأمة الثكلي



يفيض الدمع‏..‏ يرتفع العويل



ومواكب الكهان ترقص في المزاد



وكلما مالت قوي الطغيان



في سفه نميل



Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads