هوامش حرة
بين تجار الثقافة.. وسماسرة المال
بقلم: فاروق جـــويـــدة
لا خلاف بيننا علي أن قيم الثقافة تختلف تماما عن قيم المال.. وأن لغة الثقافة شيء يتناقض في الكثير من أساسياته مع لغة المال.. فإذا كانت الثقافة حصاد فكر ورحلة عمر وزمان فإن المال قد يجيء مصادفة أو تحايلا أو كنزا هبط من السماء.. ليس في الثقافة مفاجآت لأنها جهد محسوب وثمار نعرف مواعيد جنيها.. ولكن عالم المال يشهد مفاجآت كثيرة خاصة بين شعوب لم تعرف كثيرا أخلاقيات التعامل الواضح والشفافية العادلة.. ومن هنا كانت لقاءات الثقافة والمال قليلة للغاية وإن كان أصحاب المال يسعون دائما إلي الثقافة كواجهة اجتماعية.. وبعض أهل الثقافة يهرولون أحيانا في بلاط أصحاب المال بحثا عن فرصة عمل أولقمة عيش أو مجاراة في السفه.. وبقيت المسافة بينهما تمثل حدودا فاصلة بين احتياجات العقل.. ومطالب دفتر الشيكات..
أقول ذلك وأنا أتابع من بعيد ذلك الصراع الخفي بين رجال المال حينما يستخدمون الثقافة.. وبين أهل الفكر حينما يبهرهم بريق المال.. ونستطيع أن نشاهد ذلك كله في صفقات ظاهرها الثقافة وباطنها المال.. أو في صفقات فكرية ظاهرها الفكر.. وباطنها الدنانير.. تري ذلك في صحف كثيرة حاول رأس المال أن يكسب منها البريق.. وفي فضائيات مشبوهة تنفق ملايين الدولارات تحت ستار الثقافة وهي تخرب الأذواق وتدمر القيم وتعصف بالثوابت.
وللانصاف فقد شهدت فترة من تاريخنا دورا مؤثرا لرأس المال عندما كان يدرك أهمية الثقافة ودورها في حياة المجتمعات.. وكان السبب في ذلك أن الذين قاموا بهذه الأدوار كانوا يدركون قيمة الثقافة عن وعي وفهم وقناعة.. هنا لا نستطيع أن ننكر دور طلعت حرب وهو يقيم بجانب بنك مصر أستوديو الأهرام أو يرعي المسرح القومي.. بل إن الأسرة العلوية ابتداء من محمد علي وضعت الثقافة في مكانها الصحيح رغم المشروعات العمرانية الضخمة في إنشاء الجيش أو ترسانات السفن أو القناطر والخزانات أو استصلاح الأراضي.. سبق هذا كله عدد كبير من البعثات للخارج كان في مقدمتها رحلة الطهطاوي الشهيرة إلي باريس وأثرها في إعادة ترتيب العقل العربي ومجموعة من القصور الرائعة التي عكست ذوقا رفيعا وثقافة واعية وبجانب ذلك كانت دار الكتب والأوبرا والمتاحف وغيرها من المشروعات الثقافية.
وشهدت مصرعائلات كثيرة رعت الثقافة من خلال عدد كبير من الأمراء أقام المتاحف والمكتبات بل إن عددا كبيرا من أعلام مصر في الفكر والفن نشأ في أحضان طبقة الأثرياء والأعيان ابتداء بطه حسين وعبد الوهاب وأم كلثوم وغيرهم.. كان هذا عن وعي كامل بقيمة الثقافة ودورها في حياة الناس..
وفي بلد مثل لبنان كان هناك نوع من التفاعل بين المال والثقافة رغم أن الشعب اللبناني شعب رأسمالي بالفطرة ولكن هناك بيوت لبنانية كثيرة وعائلات كانت ترعي الفن وتقدر الفكر دورا ومسئولية.. وما حدث في لبنان حدث في دول أخري مثل العراق وربما كان ذلك دورا قديما توارثة الشعب العراقي من عصوره العباسية الأولي عندما كانت بغداد عاصمة الثقافة العربية والإسلامية بمكتبتها العريقة التي أحرقها هولاكو وهو يدمر المدينة العريقة.. وفي السنوات الأخيرة اختلف شكل العلاقة بين المال والثقافة..
سادت أنواع من الثقافة الاستهلاكية الرخيصة التي تتناسب مع طبقات اجتماعية جديدة أخلت بكل التركيبات الاجتماعية القديمة والمتأصلة.. ظهر أثرياء يملكون المال ولا يملكون الذوق.. ابتداء من المليونيرات وانتهاء بالحرفيين وكلاهما أستخدم المال سلاح هبوط وتراجع وسطحية.. ولا شك أن هذه الطبقات الجديدة نشرت مفاهيمها المريضة علي المجتمع العربي كله فلم يقتصر دورها في التخريب علي عاصمة دون أخري واستخدمت في ذلك التكنولوجيا الحديثة التي ألغت المسافات وجعلت من هذا الوطن الشاسع الكبير قرية صغيرة.
وقد بدأت عمليات التخريب بلا تخطيط أو هدف إلا توفير احتياجات الطبقات الجديدة من الفنون الهابطة والثقافات المشوشة والفكر المسطح الذي يتناسب مع مفاهيم الطبقات الجديدة وقدراتها العقلية.. وبعد فترة من التراجع المخيف في أذواق الناس نشأت مصالح لتقديم هذه المفاهيم من خلال شركات ومؤسسات حاولت توفير السلع الرديئة لهذه الفئات الاجتماعية.. ومع تضخم الأرباح وزيادة الطلب اتسعت الدائرة أكثر فبعد أن كانت مجرد شركات لإنتاج الكاسيتات الهابطة أصبحت مؤسسات ضخمة لإنتاج أفلام المقاولات.. ثم الفيديو كليبات.. ثم تحولت إلي قنوات فضائية تخاطب العالم كله
ومن هنا أصبحت السلع الرديئة سلعة دولية لها عشرات الأسواق وملايين البشر الذين يسعون إليها. وقد واكب هذا السياق القائم علي لغة المصالح تيار سياسي يستهدف تدمير الأجيال القادمة لهذه الأمة في ظل خرائط جديدة ولم يكن من الصعب أن تلتقي أهداف التدمير السياسي والفكري.. مع أصحاب المصالح والهدف واحد وإن اختلفت الوسائل.. والشيء الغريب أن هذا الانتقال المريب في دور رأس المال في ترويج هذه السلع الرديئة سار معه وفي نفس الخط نشاط مكثف لترويج المخدرات وما بين المصالح السياسية في المنطقة وأرباح سلع التدمير وتجارة المخدرات ظهرت علاقات جديدة وأدوار مشبوهة لرأس المال في تدمير الجانب الثقافي والفكري لهذه الأمة..
هنا لم يكن غريبا أن تظهر صحف مشبوهة.. وفضائيات مدمرة.. وأقلام مأجورة وحاول رأس المال أن يستخدم واجهة الثقافة من أجل تحقيق مصالحه ربحا.. ومصالح الآخرين فسادا ومصالح بعض أهل الثقافة ممن قبلوا أن يشاركوا في لعبة مشبوهة.
وهذا يعني أن المسلسل بدأ بمساحة بسيطة لا تتجاوز حدود أشخاص ملكوا المال ولم يملكوا الذوق السليم أو الفكر الواعي.. وانتهي بتجارة دولية خطيرة أمام ثورة المعلومات والفضائيات وبيع الأوطان والبشر.
وفي ظل دخل اقتصادي لم يعرف التاريخ الإنساني مثله وهو دخل العرب من البترول كان من السهل جدا أن يتحول هذا العنصر الإيجابي إلي عنصر سلبي يدمر مقومات الأمة ويستبيح جذورها وتاريخها.. وقفزت الشعوب العربية قفزة الموت ما بين الأرض والسماء وأصبحت من أكثر شعوب العالم استهلاكا للسلع الطيب منها والرديء ابتداء بالفنون المعلبة والفضائيات المعلبة.. والأسماك المسممة والمعلبة أيضا.. وتحول السوق العربي الذي يملك أكبر مصادر الدخل في العالم وملايين من البشر إلي هدف عالمي في الفنون والطعام والسلع الاستهلاكية.. وكان من أخطر الظواهر في ذلك كله أنه مجتمع استهلاكي حتي النخاع لم يعرف طريق الإنتاج أو توفير سلعة أو أهمية الاكتفاء حتي في رغيف الخبز أبسط احتياجات البشر.
قلت.. إن النفط بثرواته المخيفة كان رحمة من السماء ونقمة من البشر.. ومن هنا دخل هذا الجانب في حياة المواطن العربي وجعل منه هدفا للشركات العالمية والمؤسسات الدولية والمتعددة الجنسيات ووجد هؤلاء من أبناء هذه الأمة من يوفرون لهم كل وسائل التخريب النفسي و العقلي و الوجداني.. وعندما تشاهد الفضائيات العربية العارية تتساءل وأنت تعلم أنها تخسر الملايين.
لمصلحة من يجلس مائة مليون طفل في هذه الأمة طوال اليوم يشاهدون هذه السلع الرديئة ومن الذي يدفع هذه الفاتورة الباهظة..
وعندما تجد ذلك السباق المحموم بين رأس المال العربي لإنشاء صحيفة أو شراء أقلام أو استئجار فضائيات تتساءل هل هذا نشاط تجاري استثماري أم أدوار سياسية مشبوهة تمولها اياد خفية..
وعندما تشم رائحة العفن من بين السطور لأقلام باعت كل شيء فيصبح الشهيد في نظرها عميلا والأبطال خونة.. والنضال جريمة والانتماء عارا.. والدفاع عن الوطن كارثة.. تتساءل هل هذه صحافة بناء أم هدم أمة..
وعندما تجد أمامك عشرات الجوائز في العواصم العربية لتشجيع الإبداع ومئات المهرجانات وتتساءل أين الفنون التي تستحق هذه الجوائز وتكتشف أنها جزء من مخطط مشبوه لنشر قيم معينة وترويج أفكار معروفة وأن الضحية في ذلك كله هو الأجيال الجديدة التي لم تعد تعرف الصحيح من الخطأ.
وكان من أخطر ما حدث في السنوات الأخيرة أن العلاقة بين العواصم العربية تحولت إلي ما يشبه الأواني المستطرقة.. لأن مواكب الإسفاف والهبوط والتراجع لا تكتفي بشعب واحد.. إن هناك فرقا موسيقية تتلقي الأوامر من مكان مجهول ولكنها تعزف في وقت واحد أقلاما وفنونا وأخبارا وهجوما وتتويجا إنها قادرة علي أن تملأ الساحة ضجيجا لفيلم تافه أو كتاب رخيص أو مولود لقيط سواء كان صحيفة أو فضائية أو عملا فنيا بلا قيمة..
ومن هنا فإن الكارثة واحدة.. أنها تشبه الاخطبوط الذي استطاع أن يمسك بكل أجزاء هذه الأمة ويشل حركتها وفكرها ويفقدها القدرة و الإرادة وبعد أن كانت في يوم من الأيام تجتمع علي قضية أو فكرة أو مشروع فإنها تتجمع الآن للأسف الشديد علي سلعة فاسدة رديئة..
ولاشك أن العلاقة الجديدة التي جمعت بعض أطراف المنظومة الثقافية والفكرية لهذه الأمة مع رأس المال لم تكن أبدا عاملا ايجابيا بل أنها تحولت إلي أخطر عوامل الهدم والتدمير لأن المال هنا لا يهدم قصرا لكي يقيم عمارة.. ولا يشتري مصنعا لكي يوقف إنتاجه ولكنه يستخدم أهم عناصر البناء وهي العقل كعنصر تدمير لكل شيء بما في ذلك مستقبل الأمة..
وسوف تتسع دائرة هذه العلاقة لأنها الآن من أكثر مجالات النشاط الاقتصادي انتشارا وهناك طوابير كثيرة تلهث وراء هذه المصالح.. وللأسف الشديد أنها لا تشعر بالخجل لما تفعل وليس هناك ضمير يحاسبها أو مجتمع يعاقبها أو سلطات تراقبها.. أنها غابة واسعة احتلت أمة بأكملها وبدأت في توزيع الغنائم ما بين تجار الثقافة وسماسرة المال.
ويبقي الشعر
مت فوق هذي الأرض لا ترحل
وإن صلبوك فيها كالمسيح
فغدا سينبت ألف صبح
في ثري الوطن الذبيح
وغدا يطل الفجر نورا
من مآذننا يصيح
وغدا يكون الثأر
من كهان هذا العصر
والزمن القبيح
فانثر رفاتك فوق هذي الأرض
تنفض حزنها
ويطل من أشلائها الحلم الجريح
أطلق نشيدك في الدروب لعله
يوما يعيد النبض
للجسد الكسيح
