هوامش حرة
يابـــــلاش..!
يكتبها: فاروق جـــويـــدة
قامت الدنيا في انجلترا منذ سنوات عندما قرر الملياردير المصري محمد الفايد أن يشتري محلات هارودز الشهيرة في قلب العاصمة الإنجليزية في صفقة قيمتها مليار دولار أي ما يقرب من ستة مليارات جنيه مصري.. وثارت الصحافة الإنجليزية يومها وتدخلت الحكومة وكانت الصفقة حديث العالم كله لأن الإنجليز يعتبرون محلات هارودز جزءا من الإمبراطورية التي غربت عنها الشمس.
وفي الأسبوع الماضي اشتعلت المعارك في مجلس الشعب المصري وعلي صفحات الجرائد تتهم الحكومة بعدم الشفافية في صفقة بيع محلات عمر أفندي أقدم المتاجر الكبري التي عرفتها مصر منذ عام1856 ومازال الجدل دائرا حول الصفقة التي اختلفت التقديرات فيها ما بين عرض مقبول من الحكومة يقال إن قيمته435 مليون جنيه وفي رواية
أخري504 ملايين وتقديرات أخري لجهات حكومية تقول ان الصفقة قيمتها الحقيقية تزيد علي مليار جنيه..
ولنا أن نتصور أن يكون الفرق في التقديرات خمسين أو مائة مليون جنيه أما أن يصل الفرق إلي500 مليون جنيه فهذه كارثة للطرفين إذا كان السعر الحقيقي هو التقدير الأول وهو مليار جنيه فمن الضروري أن يجري التحقيق في هذه الصفقة وألا تتم علي الاطلاق, أما اذا كانت هناك مبالغة في التقييم فيجب أيضا أن يحال المسئولون عنه للتحقيق لمعرفة الحقيقة..إن التضارب في أرقام بيع الصفقة بهذا التفاوت الرهيب يؤكد سوء النوايا وعدم الشفافية خاصة ان العرض لمشتر واحد..
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن ما هي محتويات الصفقة وعلي أي أساس تمت عملية التقييم.. هل هي تقييم للأرض أم تقييم للنشاط أم بيع لمشروع تجاري متكامل.. والسؤال الأخطر هل هناك قواعد محددة في عمليات التقييم أم إنها تتم بصورة ارتجالية لا قواعد فيها ولا ضوابط وكل مشتر وحظه!.. وبعد ذلك كله ما هو مستقبل المشروعات التي تباع من خلال صفقات أخري تمت أو ستتم وهل صحيح ان مشروعات كثيرة توقف إنتاجها وتم تسريح عمالها واكتفي اصحابها الجدد ببيع الأراضي واخذوا الارباح وذهبوا..
منذ سنوات طويلة ونحن نشاهد عمليات تلاعب فجة كانت حديث الناس منذ بدأ برنامح الخصخصة وبيع القطاع العام.. باعت الدولة علي سبيل المثال فندق الميريديان الذي يقع علي أجمل بقعة في النيل بمبلغ70 مليون دولار مازال المشتري مدينا منها بمبلغ15 مليون دولار للحكومة المصرية وهناك خلافات حول مبالغ أخري لم يسددها لمحافظة القاهرة..
وتمت الصفقة واقيم فندق آخر علي المساحات الخالية بقروض مصرية واستولي المشتري علي أربعة أمتار داخل حرم النيل وهو يقيم الفندق الجديد وخالف قوانين الدفاع المدني في الارتفاعات.. حدث هذا رغم أن سعر الطابق الواحد في فندق مقابل كان يزيد علي سعر بيع فندق المريديان بالكامل..
منذ شهور مضت باعت الحكومة مصنع الزيوت بطنطا وهي شركة عتيقة بأقل من50 مليون جنيه لمستثمر سعودي رغم ان السعر الحقيقي للأرض التي تمتلكها الشركة يزيد علي120 مليون جنيه في شكل مخازن ومبان هذا بخلاف المعدات والخامات والسيارات وما يحدث الآن في شركة سيد للأدوية والتي تملك مساحات شاسعة من الأراض في شارع الهرم يؤكد ان القضية هي بيع وتجارة أراضي وليست استثمار مشروعات وإنتاجا وعمالة وخطط دولة ومسئولية حكومة.
وفي مدينة الاسكندرية باعت الحكومة أكثر من مشروع وتوقفت عمليات الإنتاج وبيعت الأراضي لبناء عمارات وتم إغلاق المصانع وتسريح العمال.. هذه سوابق معروفة لحكومات سابقة ولاحقة باعت المشروعات بتراب الفلوس كما يقولون ويبدو ان مسلسل البيع مازال يمضي في طريقه..
أعود بعد هذه المقدمة إلي مسلسل بيع محلات عمر أفندي.. ولكي نناقش الموضوع بصراحة فإنني أتوقف عند البند الأول فقط في هذه الصفقة وهو سعر الأرض.. إن محلات عمر أفندي تمتلك83 فرعا في جميع المحافظات في شكل محلات كبري.. هذا بجانب مئات من المحلات الأخري الصغيرة المستأجرة..
وإذا رجعنا بسرعة إلي أهم المحلات الرئيسية سوف نكتشف ان عددا قليلا منها يغطي قيمة المبلغ المعروض لشراء الشركة بالكامل وهو504 ملايين جنيه حسب ما جاء في تصريحات المسئولين في الحكومة ان عشرة محلات فقط في القاهرة والجيزة تبلغ مساحتها50 ألف متر موزعة في أغلي المناطق السكنية ولو أن سعر المتر في المتوسط هو عشرة آلاف جنيه فنحن أمام500 مليون جنيه هي سعر الأرض فقط في عشرة محلات تملكها الشركة فما هي قيمة بقية المحلات أما إذا كان سعر المتر20 ألف جنيه فنحن أمام مليار جنيه مرة واحدة.
وهنا أتساءل: كم يساوي سعر متر الأرض في ميدان العتبة الآن.. أو شارع طلعت حرب أو ميدان روكسي في مصر الجديدة أو شارع مراد بالجيزة أو شارع أحمد عرابي بالمهندسين أو شارع الحجاز أو المعادي ومدينة نصر وطنطا والعجمي والعباسية وهنا نقول ان سعر الأرض في هذه المناطق يتراوح بين15 ألف جنيه للمتر الواحد في أقل التقديرات إذا كانت الأرض خالية فما بالك إذا كانت هذه الأرض عليها محلات كبري في قلب العاصمة وما الذي يمنع المشتري ان يحولها إلي عقارات وشقق تمليك ومولات إذا أراد ذلك.
إن مساحة فرع عمر أفندي بشارع عبد العزيز هي9600 متر فإذا كان سعر المتر15 ألف جنيه فنحن أمام144 مليون جنيه فما بالك إذا كان عمر هذا المبني التاريخي وهو تحفة معمارية اكثر من مائة وثلاثين عاما.. فكم يساوي..؟!.
إن فرع عمر أفندي عدلي يقع علي مساحة6400 متر أي أن سعر الأرض فقط أكثر
من100 مليون جنيه إذا كان سعر المتر15 ألف جنيه فما بالك إذا كان20 أو25 ألف جنيه للمتر.. هذا بخلاف قيمة المباني..
إنني هنا أتحدث عن أقل الأسعار في سوق الأراضي لأنها تصل أحيانا إلي35 ألف جنيه للمتر الواحد وربما أكثر.
في العباسية فرع مساحته6300 متر قيمتها63 مليون جنيه إذا كان سعر المتر10 آلاف جنيه.. وفي شارع مراد بالجيزة تبلغ مساحة الفرع9300 متر قيمتها93 مليون جنيه بسعر10 آلاف جنيه للمتر.. وفي طنطا تبلغ مساحة الفرع4200 متر قيمتها42 مليون جنيه.. وفي شارع أحمد عرابي بالمهندسين تبلغ مساحة الفرع6700 متر قيمتها67 مليون جنيه إذا كان سعر المتر10 آلاف جنيه هذا بخلاف مئات الملايين التي أنفقتها الحكومة من مال الشعب لتجديد هذه المحلات..
إننا الآن وبهذه الأرقام السريعة في عدد قليل من فروع عمر أفندي نجد انفسنا أمام
مبلغ650 مليون جنيه قيمة بعض الفروع فقط علي أساس تقييمها كأرض بلا مبان أو أصول أو استثمارات أو إنتاج.. إن ثمن هذه الفروع القليلة التي ذكرتها يزيد بمبلغ200 مليون جنيه عن سعر الصفقة التي أعلنتها الحكومة فما بالك لو اضفنا قيمة الفروع في المحافظات وهي83 فرعا بخلاف مئات أخري مستأجرة لحساب عمر أفندي.
لو ان الحكومة فتحت مزادا لبيع محلات عمر افندي كل محل علي حدة لوصل حجم الصفقة إلي أكثر من مليار جنيه.. إذا كانت وزارة الإسكان قد باعت فيلا مساحتها أقل من500 متر في مارينا في الاسبوع الماضي بسعر أربعة ملايين و800 ألف جنيه فكم يساوي عمر أفندي شارع عبد العزيز بالعتبة وهو تحفة معمارية نادرة..
وإذا كان سعر الشقة في فندق الفورسيزون2 مليون دولار أي ما يقرب من12 مليون جنيه فكم تساوي6400 متر في شارع عدلي.. وإذا كان سعر الشقة الصغيرة في شارع جامعة الدول العربية يزيد علي مليون جنيه فكم تساوي6700 متر في شارع أحمد عرابي.. وإذا كانت الشقة في الفورسيزون في شارع مراد قد بيعت بمبلغ15 مليون جنيه فكم تساوي9300 متر هي مساحة فرع عمر أفندي في شارع مراد بالجيزة.. إن صفقة بيع عمر أفندي تطرح أكثر من سؤال ليس حول الصفقة وحدها ولكن حول مدي الشفافية والنزاهة في بيع مشروعات القطاع العام لأن ما يحدث ليس بيعا ولكنه نهب منظم لثروة هذا الشعب تحت شعار الخصخصة.
لقد تعجبت كثيرا عندما سمعت د. فتحي سرور رئيس مجلس الشعب وهو يقول إن المجلس لاينبغي ان يسمع كلام الصحافة حول هذه الصفقة.. ولا أدري من يسمع رئيس المجلس إذا كان يبحث عن الحقيقة ولماذا لم يطلب من الحكومة ملفا كاملا عن هذه الأصول بأراضيها ومحلاتها وأسمائها ومساحات فروعها والقيمة التقديرية لذلك كله وهل هذه الأصول تساوي فقط504 ملايين جنيه أي أقل من90 مليون دولار.. هل يمكن أن يصدق احد أن تباع كل هذه الأصول بهذا المبلغ الضئيل الذي ينفقه السادة المسئولون في الحكومة والمجلس علي رحلاتهم الصيفية لزيارة العواصم الأجنبية..
إن المستثمر الذي عرض هذا المبلغ لشراء محلات عمر أفندي يستطيع ان يعرضها للبيع بعد شهر واحد وسوف يكسب فيها500 مليون جنيه في سعر الأرض فقط يحملها في حقائبه ويرحل.. إن حمي البيع التي تجتاح الحكومة الآن لابد ان تحكمها الضوابط والرقابة الشعبية من مجلس الشعب والشوري والصحافة الجادة خاصة أن الكثير مما باعته الحكومة في صفقات سابقة كان بعيدا جدا عن التقييم السليم والشفافية المطلوبة.
إن الذين قدروا سعر عمر أفندي بمبلغ504 ملايين جنيه مازالوا يعيشون في زمن الجنيه الجبس والعصور الوسطي لأن ثمن ثلاثة فروع فقط في القاهرة وحدها تغطي قيمة هذا المبلغ..
في صفقة بيع عمر أفندي ألف سؤال يحتاج إلي إجابة لأن فيها روائح كريهة.. وكريهة جدا ويبدو أن حكومتنا الرشيدة قد تخصصت في بيع الأراضي وتسويق العقارات وهذا ليس عمل الحكومات.
ويبقي الشعر
ماذا تبيع الآن يامسكين في هذا المزاد؟
لا شيء غير قصائد ثكلي
تحدق بين أطلال الرماد
لا شيء غير عناكب الكهان تنفث سمها
والأرض حاصرها الجراد
خرجوا يبيعون المصانع.. والمزارع
والمساجد.. والكنائس.. والعباد
مات الفوارس وانتهي
زمن البراءة.. والترفع.. والعناد
وغدوت تجلس فوق أطلال السنين
قد استكان النهر..
وارتاحت شواطئه.. وكبلها الفساد
سيقول بعض الناس
إن قصائدي شيء معاذ
حلم معاد.. جرح معاد..
حزن معاد.. موت معاد..
هي بعض ما تركت ليالي القهر في هذي البلاد
