هوامش حرة
وتبقي بغداد
يكتبها: فاروق جـــويـــدة
خرج ملايين البشر في عواصم العالم المختلفة في ذكري مرور ثلاث سنوات علي احتلال بغداد وسقوط عاصمة الرشيد.. كانت عواصم العالم تغلي ثورة وغضبا ضد الاحتلال الأمريكي البريطاني الاوروبي بينما العرب أصحاب المأساة غارقون في الخلافات والصراعات وإنتاج الكليبات العارية وإنشاء الفضائيات الجديدة بأموال الشعوب المغلوبة علي أمرها.. أكثر من ألف يوم عاشتها بغداد العريقة في ظلام القصف الأمريكي المتوحش ودماء أبنائها تتدفق كل يوم ما بين دجلة والفرات في واحدة من أكبر مأسي هذا العصر طغيانا و انحطاطا وإجراما..
وفي الوقت الذي كان العالم فيه طوال الأيام الأخيرة يندد بالاحتلال الأمريكي كان الرئيس بوش يعيد كلامه المكرر حول انتصاره الزائف في العراق.. وكان توني بلير مبعوث العناية الإلهية كما يدعي يعلن أنه لو عاد به الزمن للوراء لأحتل العراق مرة أخري.. هذا ما قاله أنبياء العصر المتوحش في ذكري غزو بغداد..
ولا شك أننا أمام مأساة إنسانية فريدة لم تكن تتناسب أبدا مع روح العصر وهو يودع الحرب الباردة و بقايا خلافات وصراعات القوي العظمي مع اختفاء الاتحاد السوفيتي في ظروف غامضة لم يعرفها أحد حتي الآن.. كان العالم يحلم بفترة استقرار تاريخية يستعيد فيها توازنه في ظل حياة عصرية وفر العلم فيها قدرا كبيرا من الرفاهية وبعد مأساة إنسانية مروعه خسر فيها العالم48 مليون من البشر في الحرب العالمية الثانية.. ولكن الشطط والدراسات الخاطئة والحسابات المغلوطة دفعت بالعالم كله إلي هاوية لا يعرف أحد مداها حتي الآن..
بكل المقاييس وعلي كل المستويات كان العالم قبل ثلاث سنوات أفضل حالا منه اليوم, كان قد تخلص بصورة أو أخري من مأساة البلقان التي استمرت سنوات, وكان يحاول أن يتجاوز ما حدث في سبتمبر وكانت معركة أمريكا مع ما يسمي بالإرهاب العالمي مشتعلة في أفغانستان وكانت أسعار البترول أفضل كثيرا منها الآن وكان الاقتصاد العالمي أكثر استقرارا بل إن دافعي الضرائب في أمريكا قد دفعوا فاتورة ضخمة لهذه الحرب مازلت تسدد حتي الآن ولا أحد يعرف كم بقي منها..
والآن إذا حاولنا أن نراجع خريطة الأحداث في العالم منذ احتلال بغداد وحتي الآن سوف نكتشف أن الأحوال قد ساءت في العالم كله..
- لقد كانت مساحة الإرهاب علي المستوي العالمي محصورة في أماكن محدودة يمكن السيطرة عليها ولكن العالم كله تحول الآن إلي ساحة للإرهاب لن ينجو منها احد سواء الذين أشعلوها أو الذين شاركوا في صنعها..
في هذه السنوات الثلاث شهدت المدن العراقية اكبر المذابح البشرية التي عرفها العالم منذ الحرب العالمية الثانية.. وسقط ألاف القتلي من القوات المغامرة التي غزت بغداد وسقط آلاف الشهداء الأبرياء من أبناء الشعب العراقي..
ومع المذابح كانت ملفات الفضائح في سجون أبو غريب والبصرة وعمليات التعذيب الوحشية التي ملأت صفحات هذا العصر بالسواد.. وبعد أن كانت القوات الأمريكية تطارد بن لادن ورفاقه في جبال أفغانستان شهد العالم ميلاد الالاف الذين سلكوا طريق بن لادن ولا أحد يعرف كم يصل عددهم بعد ذلك..
في الوجه المقابل وقفت أمريكا زعيمة العالم الحر.. وواحة الديمقراطية ورائدة حقوق الإنسان والمتحدثة دائما عن الحريات تمارس كل ألوان البطش والطغيان ضد شعب اعزل يدافع عن أرضه وترابه.. وخسرت أسطورة حقوق الإنسان كل بريقها الزائف أمام دول العالم.. وتحولت القضية إلي حرب أيدلوجية يشنها الرئيس بوش كما أعلن أكثر من مرة ضد الإسلام والمسلمين وفي جهل شديد ربط الرئيس الأمريكي بين الإسلام العقيدة والإرهاب القضية,ونسي مئات من السنين التي حمل فيها المسلمون مشعل الحضارة, بينما كانت أمريكا لم تزل غارقة في مستنقعات رعاة البقر وتجارة العبيد.
وفي الوقت الذي خرج فيه الرئيس كلينتون من البيت الأبيض والاقتصاد الأمريكي يعيش أزهي مراحله ويستمتع بفائض في الميزانية وصل إلي250 مليار دولار دفعتها أمريكا كاملة في الحرب العراقية والآن تقف أمريكا اليوم تعيسة حائرة أمام عجز سوف يصل إلي500 مليار دولار وديون لا يعرفها أحد وخسائر في الحرب العراقية فوق احتمالات الاقتصاد الأمريكي تجاوزت حتي الآن250 مليار دولار.
- علي جانب آخر كان الصراع العربي الإسرائيلي يجد أمامه أكثر من باب لعل آخرها كانت مفاوضات كامب ديفيد التي جمع فيها الرئيس كلينتون كلا من باراك وعرفات في محاولة دامية للوصول إلي حل.. وكان الموقف بين أمريكا وإيران رغم سخونته إلا أن الأمور لم تشتعل يوما كما هي الآن.. وكانت العلاقات بين العرب وأمريكا فيها قدر كبير من الثقة حتي ولو كانت علي مستوي الحكام.. وكانت أمريكا أكبر مستهلك بترول في العالم تشتري البرميل بأقل من40 دولارا.. إن كل المؤشرات تقول إن أمريكا خسرت حربها في العراق علي المستوي الإنساني والاقتصادي والحضاري ولكن الخسارة الأكبر كانت في الشباب الذين قتلوا علي الأرض العراقية سعيا وراء حلم حاكم مهووس ورجل لا يجيد لعبة السياسة ولا الحرب في وقت واحد.. لقد خسرت أمريكا حسب أقل التقديرات أكثر من2000 قتيل و17 ألف جريح منهم سبعة آلاف حالتهم خطيرة..
والغريب أن يتصور الرئيس بوش أنه نبي هذا العصر وأن وحيا نزل عليه يطالبه بغزو العراق.. وهذا ما فعله ربيبه توني بلير وكأن ملائكة السماء في الكون لم تجد إلي شياطين تكساس والسوهو في لندن لتنقل لهم رغبة السماء..
وفي المقابل كانت خسائر حلفاء أمريكا في هذه المغامرة المأساة فمازالت مواكب القتلي من قوات الاحتلال تتدفق كل يوم إلي مطارات أوروبا وأمريكا تحمل جثث القتلي وبقايا المصابين.. وكان الأخطر من ذلك كله أن العالم دخل دون أن يدري مرحلة جديدة من صراع الأديان ولا أقول الحضارات..
بدأت عمليات تشويه مقصودة ومتعمدة لمقدسات شعوب العالم وكانت الهجمة الشرسة علي الإسلام الدين والرسول والبشر ودخل المجتمع الدولي إلي منزلق خطير وسرداب طويل مظلم لا أحد يعرف نهايته.
- وكانت خسائر العرب حكاما ومحكومين هي أسوأ ما حدث بعد احتلال بغداد لقد سقطت هيبتهم كأمه ومصداقيتهم كحكام ودورهم كشعوب.. لقد سقطت عاصمة عربية عريقة.. وتم احتلال دولة عربية هي الثانية بكل المقاييس في سلسلة عواصم هذه الأمة بعد القاهرة, وتشرد الشعب العراقي ما بين تدمير مدنه ومؤسساته وأمنه وجيشه واقتصاده وعاد العراق الشامخ إلي دوامةالفقر والتخلف.. كان موقف الحكومات العربية مخزيا علي كل المستويات فلا هي رفضت غزو بغداد ولا هي عارضت الاحتلال ولا هي قطعت علاقاتها حتي من باب الرفض مع الدول الغازية.
وكان ما حدث فرصة فريدة لعصابة تل أبيب لكي تنطلق في مخططها ضد الشعب الفلسطيني أبادة وتدميرا وقتلا.. إن موقف الأنظمة العربية وتصريحاتها الشفهية وصمتها المريب وتقاعسها عن مناصرة الشعب العراقي واحدة من أكبر المآسي في تاريخ هذه الأمة وسوف يكون حسابها في التاريخ.
في جانب آخر كان موقف الشعوب العربية لا يقل في سلبيته عن مواقف حكامها.. كانت المظاهرات تطوف دول العالم ضد الاحتلال والعرب غارقون في تفاهاتهم اليومية. وأمام الغياب العربي الشعبي والرسمي لم يكن غريبا أن تذهب إسرائيل إلي العراق وتفعل هناك ما تريد وأن تصبح إيران طرفا رئيسيا في حسم الصراع الداخلي بين أبناء الشعب الواحد وأن تنتظر تركيا نصيبها من الغنيمة..
وفي ظل هذا كله اختفي وتلاشي الدور العربي في تحديد مستقبل العراق وهو يعيش فترة صعبة في تاريخه تهد بانقسام طائفي رهيب.. وهكذا ترك العرب بغداد للاحتلال.. وتركوا الشعب العراقي لمؤامرات الفتن والحرب الأهلية.. وتركوا العراق كاملا لعملية تقسيم لا مفر منها وبعد سنوات ثلاث تقف جميع الأطراف علي أطلال المأساة العراقية وقد شارك الجميع فيها.. ورغم هذا الثمن الباهظ مازال الشعب العراقي العظيم يلقن الغزاة درسا في الدفاع عن الأرض والعرض والتاريخ.. إن الشعب العراقي رغم خسائره الفادحة التي دفع فيها مائة ألف شهيد مازال صامدا أمام جيوش الطغيان يدافع عن شرف الأمة ودورها ورسالتها ولم يكن احتلال بغداد كما تصور البعض نزهه سريعة للقوات الأمريكية علي ضفاف دجلة والفرات.. مازال الشعب العراقي يدفع الثمن ليسترد حريته من طواغيت العصر وسماسرة حقوق الإنسان ودعاة الحريات الكاذبة.. وسوف تعود بغداد كما كانت يوما حصنا لأمتها ومنارة حية من منارات التاريخ العربي العظيم..
