غضب الوزراء

هوامش حرة

غضب الوزراء

يكتبها‏:‏ فاروق جـــويـــدة



هناك فهم خاطيء لمفهوم السلطة في بلادنا‏..‏ إن البعض يفهم السلطة علي أساس أنها سلوك من طرف واحد‏..‏ أي أنها بلا حساب‏..‏ أي أن من حق المسئول بحكم الموقع أن يفعل في الناس ما يشاء دون أن يسأله أحد‏..‏ أو أن يصدر القرارات دون أن يتابعها أحد‏..‏ أو أن يرتكب الأخطاء دون أن يحاسبه أحد‏..‏ وهذا المفهوم الخاطيء لمعني السلطة يفتقد أهم وأخطر جوانبها وهي المسئولية بمعني أن صاحب القرار مسئول عن قراراته وهذه المسئولية تبدأ بالسؤال‏..‏ وتنتهي بالحساب وربما وصلت إلي منطقة العقاب إذا كان فيها إخلال بالمسئولية أو تقاعس عن أداء الواجب‏..‏



وفي الفترة الأخيرة شاعت نغمة جديدة تعكس حالة من الغضب لدي بعض الوزراء أمام نقد يوجه إليهم أو خلاف معهم في سياسة أو قرار‏..‏ وهذا الغضب لا يستند إلي أسباب موضوعية مقنعة لأن الوزير ليس فوق السؤال بحكم منصبه وليس فوق الحساب مادام يؤدي خدمة عامة‏..‏ إن مفهوم الوزارة بمعناه القديم عندما كان مجرد سلطة لا تقبل الحساب قد انتهي زمانه وولت أيامه عندما كان الفراعنة القدامي يجعلون من الوزير إلها أو نصف إله‏..‏ ولكن في المجتمعات الحديثة كم من الوزراء الذين حاسبتهم الشعوب وكم من الحكومات التي أطاح بها النقد وإذا كان حساب الوزير ونقده أمرا مشروعا فإن ضمان الموضوعية والنزاهة في النقد دون التعرض لشخصه أمر في غاية الأهمية لأن النقد لا يعني أبدا أن نستبيح الناس ونهدر حقهم في الدفاع عن أنفسهم ونصلبهم علي الطرقات دون أسباب موضوعية‏..‏



إن الخلاف في الرأي ينبغي ألا يدخل في المسائل الشخصية أو يمثل اعتداء علي حياة شخص أو سمعته سواء كان وزيرا أو غفيرا‏.‏



وفي دول كثيرة سقطت حكومات بقلم كتاب شرفاء‏..‏ وفي مصر العشرينيات والأربعينيات كان من السهل أن تسقط وزارة بقلم كاتب أو نائب في البرلمان‏..‏ وقد وقف عباس العقاد يوما في مجلس النواب وقال كلمته الشهيرة إن هذا الشعب قادر علي أن يطيح بأكبر رأس فيه‏..‏



ودخل العقاد السجن تسعة أشهر كاملة متهما بالعيب في الذات الملكية‏..‏ ولكنه عاد بعد ذلك وفي جولة أخري من معاركه مع السلطة يقول لن تنتهي برية هذا القلم إلا بسقوط الوزارة‏..‏ وكتب ثلاث مقالات وسقطت الوزارة‏..‏ كان النقد يعني المسئولية وكان الوزير يدرك أنه يقوم بخدمة عامة وأنه يقبل مبدأ الحساب لأنه لا يدير مشروعا خاصا‏..‏ ومنذ سيطر إحساس الملكية لدي بعض المسئولين تصور بعضهم أن الوزارة ليست عملا أو وظيفة أو مسئوليه ولكنها نوع من أنواع الملكية‏..‏ أي أن الوزير لا يشغل منصبا ولكنه يملك هذا المنصب‏..‏ ومع طول البقاء في المنصب والذي امتد لسنوات طويلة كان من الصعب علي الوزير أن يتخيل يوما أن يسير بين الناس بدون كرسي الوزارة أو كشك الحراسة إنه يجلس علي هذا الكرسي في مبني الوزارة وخارجها وبين الناس وفي الشارع وفي سرادق العزاء وفي حفلات التكريم والأفراح والليالي الملاح ومن الخطأ أن يتصور كل وزير أن الهجوم عليه مؤامرة و أن الاختلاف معه في الرأي طمع في منصبه وأن نقد قراراته تجاوز مرفوض‏.‏



أقول ذلك وقد تابعت حالة الرفض والاستنكار التي أبداها وزير الاستثمار د‏/‏ محمود محي الدين علي الحملة التي قادتها الصحافة ومجلس الشعب ضد صفقة بيع عمر أفندي‏..‏ ولا أعتقد أن النقد قد مس من قريب أو بعيد شخص وزير الاستثمار لأن الخلاف حول الصفقة كان يتضمن جوانب فنية واقتصادية محددة وواضحة تتعلق بقيمة الأصول والثمن البخس الذي قبلته الحكومة بجانب خطورة البيع لمشتر واحد وقبل هذا كله السرعة الشديدة في عمليات البيع‏..‏ هذه الجوانب الخلافية لا تمس شخص الوزير ولا يمكن أن يفسرها علي أنها مؤامرة ضد طموحة السياسي أو أن من خالفه الرأي حاقد أو مضلل لأن الجميع يهدف إلي تحقيق المصلحة العامة وليس من مصلحة الوزير أو الحكومة أن تبيع أصول البلد بأقل من سعرها أو أن تتحول مشروعات الخصخصة إلي هوجة يباع فيها كل شيء وبأي سعر‏..‏ إن النقد الذي وجههه البعض إلي موقف الحكومة في صفقة عمر أفندي لا يخص الصفقة وحدها ولكنه يستند إلي مواقف وصفقات سابقة تسرعت فيها الحكومات وباعت أصولا بأسعار زهيدة‏..‏



وهنا يجب أن نضع بعض الملاحظات‏..‏ أولاها أن تحويل الأصول إلي مال سائل ليس مكسبا في كل الحالات خاصة في ظل غياب خطط لاستبدال مشروعات خاسرة بأخري رابحة‏..‏ لقد باعت الحكومة عددا كبيرا من المشروعات وسبقتها حكومات أخري باعت مشروعات مختلفة ولا أحد يعلم حتي الآن حصيلة البيع في السنوات العشرين الماضية‏..‏



وهذه المشروعات اتفقنا أو اختلفنا عليها كانت توفر سلعا‏..‏ وتوفر فرص عمل‏..‏ وتوفر عمليات استيراد وتشجع عمليات تصدير ولنا في تاريخ المنسوجات المصرية والغزل والأسمنت والسكر والأسمدة وعشرات السلع ما يؤكد ذلك كله‏..‏



ولقد كان من الضروري أن تقام بأموال الخصخصة مشروعات بديلة حتي لو اختلفت في نوعية نشاطها عن المشروعات التي تم بيعها ولكن الحكومة اكتفت بأن تكدس أموال الخصخصة وربما أنفقت الكثير منها في سداد ديون أو عجز في الميزانية أو إقامة المهرجانات فهل من المنطقي أن أبيع أصول وطن دون أن أبحث عن وسيلة لاستثمارها بصورة أفضل‏..‏ والأخطر من ذلك أن الحكومة سعيدة بالمليارات التي احتفظت بها أموالا سائلة بالعملات الأجنبية وهو الاحتياطي النقدي الذي يمثل حصنا استراتيجيا لتوفير السلع الرئيسية‏..‏ ولكن من الظلم أن يبقي هذا الاحتياطي أموالا سائلة ولا يعاد استثماره في صورة مشروعات وإنتاج وعماله‏.‏



من الملاحظات الأساسية ايضا أن الرغبة الشديدة في طرح مشروعات كثيرة للبيع والسرعة في اتخاذ القرارت قد أوجد فرصا واسعة لمجموعة من التجار ورجال الأعمال المغامرين الذين يتصيدون الأصول وكأنهم في مزاد وقد أدي ذلك إلي أن تقبل الحكومة أسعارا تنقصها الدقة والتقدير السليم‏.‏



وتبقي ملاحظة أخري أن عمليات البيع يجب أن تخضع لأكثر من وجهه نظر وأكثر من تقييم واحد وقرار واحد وسلطة واحدة ويجب أن تكون لمؤسسات الدولة وجهة نظر في بيع هذه الأصول لأننا لا نبيع بوتيكا أو سوبر ماركت‏..‏ اننا نبيع أصولا متكاملة ومساحات شاسعة من الأراضي والمباني والمؤسسات‏..‏



أعود إلي النقطة الأولي في هذه القضية وهي موقف المسئولين من النقد وأن واجب المسئول أن يسمع وجهة النظر الأخري وان يناقشها وان يستفيد منها‏..‏



إن بيع مشروعات ضخمة بالبلايين ولا أقول الملايين ليس قضية سهلة أو بسيطة من حيث تقدير الثمن أو الآثار الاقتصادية أو حقوق أجيال قادمة هي بكل المقاييس شريك في هذه الأصول‏..‏



ولا يعقل بعد ذلك أن يغضب وزير أو يثور آخر لأن الصحافة أثارت قضية بيع صفقة من الصفقات لأن الوزير لا يبيع ميراثا خاصا ولا يمارس سلطاته في نطاق عمل خاص أو مكتب استشاري يملكه‏,‏ إنه يتحمل المسئولية أمام أكثر من جهة تبدأ بمجلس الشعب وهو صاحب حق في استجوابه وتنتهي بالصحافة ومن أهم مسئولياتها أن تحاسب الوزير وتناقش قراراته‏..‏



أما إذا كانت الحكومة تصر علي ألا تسمع أحدا وألا يكون هناك صوت آخر يعلو علي صوتها سواء باعت أو اشترت أو تنازلت فهذا تسلط مرفوض‏..‏ إن معظم مشروعات القطاع العام التي باعتها الحكومة كانت مشروعات رابحة أي أنها بدأت بالتخلص من الأصول الجيدة‏..‏ وهي تقول الآن إنها تبيع المشروعات الخاسرة وليس هناك إقبال علي شرائها‏..‏ ولا أحد يعرف فلسفة الحكومة في ذلك كله خاصة أن حصيلة البيع دخلت في سراديب كثيرة في الميزانية ما بين الديون والمرتبات والإنفاق الحكومي ولم يدخل شيء منها في بند الاستثمار أو الإنتاج والعمالة‏..‏ أي أنها جميعا دخلت كموارد في وزارة المالية رغم أن بيع الأصول لا يمثل أبدا ولا ينبغي أن يحسب كمورد من موارد الدولة‏..‏ ولكن كل شيء في مصر مقلوب يا ولدي مقلوب‏.‏



ليس من حق الحكومة أن تبيع أصول البلد بلا رقابة وترفض أن يحاسبها أحد أو أن تتصرف كما لو كانت تبيع ممتلكات خاصة وإذا كان كل وزير سوف يتصرف في وزارته علي أساس أنها مشروع خاص فلماذا تتشكل الوزارات وتتغير الحكومات ويتبدل الأشخاص‏..‏ ولماذا لا تخصخص الدولة الوزارات ويشتري كل وزير وزارته ونريح الوزراء من الحساب والغضب‏..‏ ونريح الناس من المشكلات والهموم ونستريح نحن من الكتابة‏.‏



ويبقي الشعر





شــاخ الـزمــان‏..‏ وأحــلامـي تضـللـني



وسـارق الحلــم كــم بالـوهـم أغــوانــــا



شــاخ الـزمـــان وسـجانـي يحاصــرنـي



وكـلمــا ازداد بـطـشــا‏..‏ زدت إيمـــانــــا



أسرفت في الحب‏..‏ في الأحلام‏..‏ في غضبي



كـم عشـت أســأل نفـسي‏:‏ أيـنـا هــانــا؟



هل هـان حلمي‏..‏ أم هانت عزائمنـا؟



أم إنــه القهــر‏..‏ كـم بالـعجــز أشــقـانـــا؟



شـاخ الـزمـان‏..‏ وحلمـي جامــح أبــدا



وكـلمــا امـتــد عمــري‏..‏ زاد عـصيـــانـــا



والآن أجــري وراء الـعمـــر مـنـتـظـــرا



مــا لا يجـيء‏..‏ كـأن الـعمـــر مـا كــانـــا‏!‏
 
 
Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads