الأحزاب‏..‏ والشارع المصري

هوامش حرة

الأحزاب‏..‏ والشارع المصري

يكتبها‏:‏ فاروق جويدة



هل يمكن أن تكون لدينا الشجاعة ونعترف صراحة بفشل التجربة الحزبية في مصر‏..‏ إننا بعد سنوات طويلة من التجارب نكتشف أننا نعيش في فراغ‏..‏ وأن ما بين أيدينا ليس أكثر من شظايا لتجارب تكسرت واحدة بعد الأخري‏..‏ وأن الأمانة تقتضي أن نقف مع أنفسنا قليلا ونراجع ما حدث ربما كانت أمامنا فرصة أخيرة لأن نعيد الحسابات وربما نعوض ما حدث من خسائر‏..‏



كان ينبغي أن تكون هذه الوقفة منذ شهور مضت وعقب انتهاء الانتخابات البرلمانية والتي كانت اختبارا حقيقيا لكل القوي السياسية في مصر وقد خرجت جميعها خاسرة ابتداء بحزب الأغلبية وانتهاء بأحزاب أخري اكتشفت فجأة أمام صناديق الانتخابات حقيقتها وكانت مؤلمة للغاية‏..‏



ولعل صورة الحرائق التي دمرت منذ ساعات قليلة اعرق أحزاب مصر وأقدمها وحملت زعيم الحزب في سيارة مصفحة حتي لا يبطش به المعارضون صورة لما وصلت إليه أحوال الأحزاب المصرية‏..‏



كانت مأساة حزب الوفد الذي أنجب سعد زغلول صورة مؤلمة جمعت هذا التناقض الرهيب بين ماض عظيم وحاضر مؤسف‏..‏ كانت السيارات المصفحة التي حملت رجال السياسة شهادة وفاة لتجربة حزبية كان ينبغي أن نكفنها من سنوات احتراما لتاريخ مضي وأملا في مستقبل قادم‏..‏ ولكن المقدمات تصل بنا دائما إلي نتائج واضحة وصريحة وما حدث في الفترة الأخيرة كان ومازال يؤكد أن المقدمات كانت خاطئة وأن البداية لم تكن أبدا سليمة ولهذا وصلت الأمور إلي ما هي عليه الآن‏.‏



إننا أمام تجربة حزبية تتناقض في شكلها وتفاصيلها ورموزها مع كل قواعد اللعبة السياسية التي تحكم العمل الحزبي‏..‏ إن العرف يقول أن الأحزاب السياسية مؤسسات تنبت في الأرض وتحمل سماتها وتمتد بجذورها في كل جزء فيها‏..‏ وبعد ذلك تظهر الفروع والأوراق والثمار‏..‏ وإن الذين رسموا للناس فروعا كاذبة وثمارا مزيفة وأوراقا من البلاستيك اكتشفوا أن الشجرة لا جذور لها وأنها مجرد صورة صنعها البعض لكي يوهموا الناس بأشياء لا وجود لها ولهذا كان من السهل أن نكتشف أننا أمام نمور من ورق سرعان ما حملتها الرياح وألقت بها بعيدا‏..‏



القضية الثانية أننا أمام تجربة تشبه الصوبات الزراعية التي لا تصلح فيها الأشجار العريقة ولكنها لا تتجاوز حدود الخضروات والنباتات المتسلقة‏..‏ ولهذا يصعب أن تجد شجرة نخيل شامخة تحيطها صوبات من البلاستيك‏..‏ ولهذا لم تكن الأحزاب المصرية أكثر من نباتات صغيرة وعندما هبت الرياح عصفت بكل شيء واكتشف الجميع اننا امام صوبات صناعية ولسنا أمام حدائق حقيقية‏.‏



وهنا يمكن أن نضع أيدينا علي نقطتين أساسيتين‏:‏

الأولي‏:‏ أننا امام تجربة حزبية صنعتها قرارات حكومية وليست إرادة شعبية بمعني أن الأحزاب المصرية وبلا استثناء أحزاب صنعتها الحكومة وأنشأتها مؤسسات الدولة ابتداء بحزب الأغلبية وهو الحزب الوطني وانتهاء بحزب الوفد الذي تفكك أخيرا في خناقة‏..‏ ولا شك أن مثل هذه الأحزاب التي تصنعها الحكومات لا عمر لها لأنها تشبه نباتات الصوبات‏..‏



ثانيا‏:‏ أن الدولة لم تكتف بإنشاء هذه الأحزاب ولكنها وضعت لها مقاييس لا تتجاوزها في كل شيء ابتداء بالاجتماعات وانتهاء بالدعم المالي الذي تقدمه لكل حزب‏..‏ إن الدولة تحاصر الأحزاب في حركتها وأنشطتها وتحركات المسئولين فيها‏..‏ بل إنها إذا أرادت أن تسقط حزبا فلن تتردد في أن تفعل ذلك وقد أسقطت حزب العمل بزعامته التاريخية إبراهيم شكري وأسقطت حزب الغد وهو أيضا صناعة حكومية عندما خرج علي النص المكتوب وأصر علي أن يكمل دورا علي المسرح رغم إسدال الستار‏..‏



إن الأحزاب التي حاولت أن تكون أحزابا حقيقية كان مصيرها الإلغاء‏..‏ بل إن الأحزاب التاريخية مثل الوفد سارت في السياق ورضيت بما لا يتناسب معها تاريخا ومواقف ورغم ذلك لحقت بنفس المصير وإن اختلفت الوسيلة‏..‏ لقد انتهي حزب العمل بنفس الطريقة التي ينتهي بها الآن حزب الوفد في الحالة الأولي كان القرار واضحا وصريحا وهو إغلاق الحزب بالضبة والمفتاح وفي الحالة الثانية إحراق الحزب بيد المشاغبين من أبنائه والنتيجة النهائية ألا يكون هناك وفد ولا عمل‏..‏



ومع وصاية الدولة علي الأحزاب وقد شابها الكثير من التعسف عرفت قيادات هذه الأحزاب حدودها واستسلمت لواقع كريه ومغرض من أجل بضعه ألاف من الجنيهات يحصل عليها كل حزب سنويا ينفقها في شراء سيارة لرئيسه أو سفرية هنا أوهناك حتي أن واحدا من رؤساء الأحزاب طالب يوما بزيادة هذه المعونة قائلا‏:‏ هل تريد الحكومة منا أن نعارض ببلاش وكانت هذه أصدق ما قيل في تاريخ الأحزاب المصرية في السنوات الأخيرة‏.‏



من هنا فإن كل الدلائل والمؤشرات تؤكد أن التجربة الحزبية في مصر قد وصلت إلي نهايتها وكان ينبغي أن ندرك هذه الحقيقة في أكثر من موقف‏..‏



‏-‏ كانت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة شهادة وفاة لأكثر من‏17‏ حزبا يملؤن الساحة صخبا ضجيجا وليس لهم أي تواجد في الشارع المصري‏..‏



‏-‏ كانت حركة الانقسامات بين هذه الأحزاب أكبر دليل علي عدم وجود قيادات حقيقية في هذه الأحزاب حتي وصلت الأمور إلي أقسام الشرطة والمستشفيات وعشرات الجرحي‏.‏



‏-‏ كان سقوط جميع رؤساء هذه الأحزاب في دوائرهم الانتخابية أمام أسماء مجهولة إدانه للجميع وللأسف الشديد كان ينبغي أن يكون ذلك أذن انصراف وتصريح بالخروج لجميع المسئولين في هذه الأحزاب‏..‏ ولكنهم جميعا أصروا علي البقاء حتي وصل معظمهم إلي أقسام الشرطة والمحاكم‏.‏



‏-‏ والغريب بعد ذلك كله هو حالة الانفصال الشديد بين الأحزاب جميع الأحزاب والشارع المصري ولعل ذلك كان سببا رئيسيا في هذا التصدع الذي أصاب حزب الوفد‏..‏ وهو نفس السبب الذي جعل الحزب الوطني يهرب من انتخابات المحليات وتقرر حكومته تأجيلها خوفا من المواجهة وهروبا من الساحة وهو السبب نفسه الذي جعل معظم الأحزاب تخاف من تيارات فرضت نفسها فرضا علي الواقع المصري بكل تفاصيله‏.‏



ووسط هذا الضباب الكثيف تحاول أن تكتشف وجوها جديدة قدمها حزب من الأحزاب أو قيادات شابة أخذت فرصتها وسط هذا الزحام وتكتشف أن الوجوه لم تتغير وأن الزمن قد توقف بنا وأن مسيرة الحياة ترجع بنا للوراء‏.‏



والسؤال الآن لمصلحة من يحدث هذا كله ؟‏..‏ هل يمكن أن نجد أنفسنا مرة أخري أمام حزب واحد بعد أن تلاشت كل الأحزاب ولم يعد أمام المصريين غير حزب الأغلبية‏..‏ ماذا بعد أن تم إلغاء حزب العمل‏..‏ وتشويه حزب الوفد‏..‏ وسجن حزب الغد وتوزيع مسلسل رهيب من الصراعات علي أحزاب كرتونية مزيفة وضائعة ومحاصرة في كل شيء‏..‏ هل نجد أنفسنا يوما أمام خيارين كلاهما مر ويصبح البديل أمرا قاسيا وصعبا ولكنه الحل الوحيد‏..‏ إن ما يحدث في الساحة الآن لحزب الوفد يثير الكثير من الوساوس والظنون ويكاد الإنسان لا يصدق وهو يري الأحداث تتلاحق بسرعة غريبة هل هذا هو الوفد أول مدارس الوطنية المصرية في عصرنا الحديث‏..‏ حتي هذه الكلمة العزيزة‏'‏ الوطنية‏'‏ فقدت بريقها ومكانتها في قلوب الناس‏..‏



إن كل مصري حزين لما حدث لحزب الوفد والحزن الأكبر أننا الآن نكفن تجربة وليدة ونقيم لها سرادق العزاء وهي تجربة مصر الحزبية‏..‏



فهل تكون مأساة حزب الوفد بداية صحوة جديدة يطالب فيها المصريون بأحزاب حقيقية ويخلعون هذه الأقنعة المزيفة التي صنعتها الدولة وحاولت أن تجعل من خيال المآته إنسانا حقيقيا‏..‏ لقد شبعنا من خيال المآته وجاء الوقت لكي نعيش الواقع حتي ولو دفعنا له الثمن‏..‏



ويبقي الشعر





كـم عـشـت تـرسـم للأطفـال أغنيــة



عـــن أمـــــة شــيـدت للـعــدل مـــيزانـــا



في ساحة المجد ضـوء مـن مآثرهـا



مــن زلـــزل الكـون أركـانــا‏..‏ فـأركـانـــا



صانت عهودا‏..‏ وثـارت عندما غضبت



وخـير مـن أنجبـت فـي الأرض إنسـانــا



سادت شعوبا‏..‏ وكانت كلما انتفضت



هـبــت عليـهــا ريـــاح الـغــدر عــدوانـــا



هانت علي أهلهـا من يوم أن ركعت



للغـاصبــين‏..‏ وويـــل المـــرء إن هــانـــا
 
 
Mostafa Abdel-Hafeez

طالب بكلية الخدمة الإجتماعية جامعة الفيوم هاوي قراءة الشعر والمقالات

أحدث أقدم

Blog ads